استراتيجية المياه في لبنان: تدفّق للوعود… وشُحّ في المياه

إن الخطط الموضوعة لبناء السدود والقنوات ومحطات معالجة جديدة ستفشل دون إصلاح الحوكمة وضبط التلوث وإدارة الطلب.

2 تشرين الأول، 2025

في ظلّ أسوأ أزمة مياه يشهدها لبنان منذ عقود، ومستقبل لا يعدُ إلّا بمزيد من شحّ المياه تبدو استراتيجية الحكومة للحفاظ على تدفّق المياه، للأسف، حسنة النيّة لكن غير قابلة للتطبيق. ومع تهديد مقوّمات العيش في البلاد يصبح من الضروري أن يُحسِن لبنان تخطيطه المائي. والمسار الأفضل ممكن، شرط أن يتخلّى القادة عن الذهنية القديمة التي تعتبر مشاريع البنى التحتية الجديدة علاجاً سحرياً، وأن يلتزموا بدلاً من ذلك بالعمل الشاق على إصلاح الحوكمة وإدارة الطلب ومكافحة التلوث. 

لطالما كان لبنان “غنياً بالمياه” مقارنة بجيرانه، لكن أحداث العام الماضي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الصورة ــ ومعها غزارة الأمطار ــ لم تعد قائمة. فقد أعلن وزير الطاقة والمياه جو صدي الشهر الماضي أنّ معدّل الأمطار لعام 2025 بلغ أقل من نصف المعدّل السنوي للبلاد. وحتى لو كان هذا العام استثناءً، فإن تسارع تغيّر المناخ يرسم أفقاً بعيد المدى جافّاً إلى حدّ مخيف: إذ يُتوقّع أن ينخفض معدّل الهطول السنوي ​​​​في لبنان بنسبة قد تصل إلى 20% بحلول عام 2040 و 45% بحلول عام 2090. 

وفي خطوة استباقية أصدرت الحكومة اللبنانية العام الماضي النسخة المحدَّثة من الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه 2024–2035 وهي إطار سياسات شامل يهدف إلى مواجهة تحدّيات المياه عبر تحديث القطاع على مدى عقد من الزمن. هذا التحديث يعد تحسّناً ملحوظاً مقارنة بالنسخة السابقة، فهو يقيّم بوضوح الضغوط المتزايدة على الموارد المائية ويتوقّع أن يفاقم تغيّر المناخ الإجهاد المائي بحلول عام 2035، كما يؤكّد على أهمية الموارد غير التقليدية والتخطيط المتكامل. غير أنّ الاستراتيجية، بما تتضمّنه من رؤى واسعة، ما زالت تفتقر إلى توجيهات عملية وخطوات ملموسة لتحويل هذه الرؤية إلى واقع. علاوةً على ذلك فإن تُصوّر الاستراتيجية نقص المياه كمشكلة مستقبلية، وهو ما يتجلّى في إخفاقها في تحديد العجز المائي الوطني القائم، يُخفي حقيقة أنّ لبنان يعاني بالفعل من انعدام الأمن المائي. 

أزمة المياه في لبنان ناجمة عن تحديات كمية ونوعية في آن: فالمياه غير كافية، وجزء كبير من الإمدادات القائمة ملوّث. ومع ذلك لا تقدّم الاستراتيجية معالجة جدّية وفعّالة لمسألة التلوث. 

حوّلت عقودٌ من سوء الإدارة وضعف الحوكمة مشاكل المياه من تحدٍ عابر إلى حالة مزمنة، وأنتجت في الوقت ذاته حلقات متصاعدة من ردود الفعل السلبية.

ورغم وجود العديد من السبل المجدية لمواجهة تحديات المياه، يركّز نهج الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه على مشاريع البنى التحتية الباهظة والملفتة للنظر باعتبارها الحلّ، متجاهلاً الأسباب التي أدّت إلى فشل طموحات مماثلة في الماضي. 

حوّلت عقودٌ من سوء الإدارة وضعف الحوكمة مشاكل المياه من تحدٍ عابر إلى حالة مزمنة، وأنتجت في الوقت ذاته حلقات متصاعدة من ردود الفعل السلبية. ففي ظلّ عجز الدولة عن تأمين المياه الكافية جرى حفر عشرات الآلاف من الآبار الخاصة غير المنظمة، ما أدّى إلى استنزاف المياه الجوفية وانخفاض منسوبها وتسرب مياه البحر إلى الطبقات الساحلية وتراجع مخزون المياه الصالحة للشرب. وفي التوازي مع ذلك سمح غياب الرقابة البيئية بتدفّق مياه الصرف غير المعالجة وتلوّث النفايات الصلبة إلى الأنهار والينابيع والخزانات المائية ما جعل قسماً كبيراً من الإمدادات غير صالح للشرب أو للزراعة. هكذا تحوّل نهر الليطاني، الذي كان يوماً رمزاً للوفرة الوطنية، إلى مرآة لهذا التدهور إذ باتت مياهه مهدِّدة لسبل العيش والصحة العامة على حدّ سواء. 

وأي استراتيجية وطنية لا تتضمن إصلاحات هيكلية في الحوكمة، وتعزيز إدارة الطلب، وتشديد الرقابة على التلوث، وتوسيع الاعتماد على الموارد غير التقليدية، ستتركنا في مواجهة عجزٍ مزمن في المياه وبلدٍ أقل قابلية للحياة. 

ومع ذلك فإنّ إخفاقات الحكومة المتكرّرة في معالجة أزمة المياه تحمل، على نحوٍ مفارق، جانباً إيجابياً: فهي تتيح دروساً قيّمة يمكن الاستفادة منها. غير أنّ ذلك يتطلّب من الدولة مرونة حقيقية، تقوم على الإقرار بأخطاء الماضي، والتعلّم منها، وتغيير المسار، بدل الاستمرار في التمسّك بالنماذج ذاتها التي أُنهِكت وجُرِّبت وفشلت. 

 

استراتيجية قطاع المياه الجديدة: النظرية مقابل الواقع 

تُقِرّ الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه بتحدّيات المياه المتزايدة في لبنان مُشيرةً إلى الفجوة بين محدودية الموارد المتجددة وتزايد الطلب، وضعف البنى التحتية وتدهورها، والاستنزاف الجائر للمياه الجوفية، وانتشار التلوث الناتج عن مياه الصرف غير المعالجة والنفايات الصلبة. كما تدعو صراحةً إلى تخطيط متكامل ومتعدد القطاعات وتُدرك المخاطر الداهمة لتغيّر المناخ، مع توقّعات بموجات جفاف أطول وهطول مطري أشدّ لا تقوى الأنظمة الهشّة في لبنان على استيعابه. 

ولمواجهة هذه التحدّيات، تُحدّد الاستراتيجية أجندة متعددة الركائز: (أ) توسيع العرض عبر تعبئة الموارد السطحية والجوفية وإنشاء وحدات تخزين جديدة؛ (ب) إعادة تأهيل الشبكات وتوسيعها للحدّ من الهدر وتحسين استمرارية الخدمة؛ (ج) تعزيز جمع مياه الصرف ومعالجتها وإعادة استخدامها؛ و(د) إصلاح أطر الحوكمة والتمويل. وتتوافق هذه الركائز نظرياً مع أفضل الممارسات العالمية. 

ومن أبرز الأمثلة مشروع سد بسري الفاشل الذي تسعى الاستراتيجية إلى إحيائه فيما كان الأجدر أن يكون عبرةً لما يجب تفاديه.

كن عملياً، تتركّز الاستراتيجية بشكل قصير النظر على مشاريع بنى تحتية ضخمة، مُخطَّط لعشرات السدود والقنوات ومحطات المعالجة خلال العقد المقبل. هذا النهج يعكس ذهنية هندسية تقليدية: بناء المزيد من البنية التحتية، ليتبعه تلقائياً الأمن المائي. غير أنّه يهمّش إجراءات قادرة على تحقيق فوائد أسرع وأكثر استدامة، مثل إصلاح الحوكمة، وضبط التلوث، وإدارة الطلب. 

ومن أبرز الأمثلة مشروع سد بسري الفاشل الذي تسعى الاستراتيجية إلى إحيائه فيما كان الأجدر أن يكون عبرةً لما يجب تفاديه. فقد رُوّج له كحلّ لأزمة مياه بيروت، لكن العمل توقّف بعد انسحاب المانحين نتيجة المعارضة المجتمعية والمخاوف البيئية ومعوّقات التمويل. أظهر انهيار المشروع أنّ البنية التحتية وحدها لا تُعوِّض عن غياب المؤسسات الفعّالة أو إنفاذ القوانين وبناء الثقة مع المجتمع. ومن دون هذه الأسس، تبقى المشاريع الجديدة عُرضة لتكرار الدورة نفسها من تعثّر التنفيذ وخيبة التوقّعات. سد بسري ليس سوى واحد من الدروس الباهظة التي كان يتوجّب على صنّاع القرار تعلّمها. 

الاعتراف بالاقتصاد السياسي للمياه ومعالجته 

إدارة المياه في لبنان شأنٌ سياسي بقدر ما هي إدارة الكهرباء أو النفايات الصلبة. فالاقتصاد السياسي للقطاع يتشكّل عبر شبكات المحسوبيّة، وتداخل الصلاحيات، والمرافق العامة التي تعاني نقصاً مزمناً في التمويل. وقد أُنشئت مؤسّسات المياه الإقليمية (RWES) بموجب القانون رقم 221 لعام 2000 لتكون هيئات مستقلّة مسؤولة عن التخطيط والتشغيل والصيانة وتحديد التعرفات واسترداد الكلفة ضمن مناطقها. لكن استقلاليتها بقيت محدودة: فهي تعاني ضعف التمويل ونقص الكوادر، وتفتقر إلى القدرات التي تمكّنها من أداء دورها كمؤسّسات خدماتية فعّالة. كما أنها تعتمد على وزارة الطاقة والمياه، وعلى هيئات مثل مجلس الإنماء والإعمار، في الاستثمارات الكبرى والموافقات على التوظيف. 

تتزايد أعداد الآبار غير المنظمة، فيما جعلت فجوات الخدمة المستمرة شاحنات المياه الخاصة وأصحابها جزءاً أساسياً من مشهد الإمداد المائي.

هذا التشتّت في الصلاحيات والضعف المؤسسي ولّد مظاهر واضحة لانعدام الكفاءة. وكما تشير الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه نفسها فإن نسبة المياه غير المُدرّة للإيرادات تتجاوز 50%، وهو رقم يعكس الخسائر الناجمة عن التسريبات والاستخدام غير المفوّت في الفواتير، والتوصيلات غير الشرعية واسعة الانتشار التي لا تخضع عملياً لأي إنفاذ. وفي التوازي مع ذلك كله تتزايد أعداد الآبار غير المنظمة، فيما جعلت فجوات الخدمة المستمرة شاحنات المياه الخاصة وأصحابها جزءاً أساسياً من مشهد الإمداد المائي. 

مع ذلك، تميل الاستراتيجية إلى القفز فوق هذه الحقائق الصعبة، مقدّمةً خارطة طريق تقنية تلمّح إلى إصلاح مؤسسي يشمل توضيح الصلاحيات وتحسين الاستدامة المالية وتعزيز الرقابة، لكن دون وضع أهداف قابلة للقياس لأداء المرافق أو إلزام المشتريات الشفافة أو ضمان المحاسبة المالية، أو طرح خطوات موثوقة لمعالجة الفشل المزمن في إنفاذ القوانين. 

الالتزام بإصلاحات تسعير المياه وإدارة الطلب 

لطالما أُهملت إدارة الطلب على المياه في لبنان. فقد اعتُبرت المياه وفيرة ما أدى إلى فرض تعرفة ثابتة مدعومة ومنفصلة عن حجم الاستهلاك الفعلي، ولم يُعتمد نظام العدادات بجدية قط. تشير الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه إلى هذا الخلل، مُدركةً أهمية التسعير المُنظّم والحدّ من التسريبات ورفع مستوى الوعي العام كجزء من نهج متكامل لإدارة المياه. 

وتوصي الاستراتيجية الحالية بالتحوّل التدريجي من التعرفة الثابتة إلى تعريفات حجمية تصاعدية بالعدادات، بهدف تشجيع ترشيد الاستهلاك وتعزيز إيرادات المرافق. غير أنّ التزام الاستراتيجية بإعداد إطار تسعير جديد في عام 2024 لم يُترجم إلى خطة فعلية، ما يُظهر مرّة أخرى كيف أنّ النوايا المعلَنة غالباً ما تتبدّد من دون نتائج. وبالمثل، ورغم أنّ الاستراتيجية تُبرز أهمية خفض نسبة “المياه غير المُدرّة للإيرادات” عبر تحسين الكشف عن التسريبات وإعادة تأهيل الشبكات، إلّا أنّها لا تدمج هذه الجهود ضمن مقاربة شاملة لإدارة الطلب. خفض خسائر النظام يبقى واحداً من أكثر الوسائل فعالية من حيث الكلفة لزيادة إمدادات المياه .لكنّه يُستبعَد باستمرار لصالح مشاريع البنى التحتية المكلِفة، سواء في الأولوية أو في التمويل

لتنجح إصلاحات التعرفة ستحتاج السياسات إلى شبكات أمان اجتماعي للأسر الأكثر عرضةً لانعدام الأمن المائي، وإلى مسار طرح شفاف ومتسلسل يربط أي زيادة في الأسعار بتحسينات ملموسة في الخدمة.

ورغم الإقرار بأهمية إصلاح التسعير وإدارة الطلب، تظلّ التفاصيل التشغيلية في الاستراتيجية ضعيفة: لا توجد خطة مرحلية واضحة لتعميم العدادات ولا سيناريوهات تعريفات مرتبطة مباشرة بتحسين الخدمة، ولا نقاش جدي للتعقيدات السياسية المحيطة بالإصلاح. ولتنجح إصلاحات التعرفة ستحتاج السياسات إلى شبكات أمان اجتماعي للأسر الأكثر عرضةً لانعدام الأمن المائي، وإلى مسار طرح شفاف ومتسلسل يربط أي زيادة في الأسعار بتحسينات ملموسة في الخدمة. عندها فقط يمكن أن تصبح إصلاحات التسعير وإدارة الطلب ركيزتين موثوقتين وفعالتين للاستراتيجية الوطنية للمياه في لبنان. 

 

السعي إلى تحقيق إدارة متكاملة للموارد المائية 

تُدرج الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه نفسها ضمن إطار ما يسمى «الإدارة المتكاملة للموارد المائية» (IWRM)، وتعد بموازنة الاحتياجات القطاعية وحماية البيئة وتحسين كفاءة استخدام المياه. غير أنّ الاستراتيجية، وباستثناء إشارات محدودة، لا تقدّم ما يثبت تطبيقاً فعلياً لمبادئ الإدارة المتكاملة، إذ غالباً ما تتعامل معها كغاية بعيدة لا كنهج عملي لإدارة الموارد المائية. 

يتجلّى هذا الخلل بوضوح في حالة حوض نهر الليطاني. فبعد أن كان الليطاني يُعتبر العمود الفقري للري الزراعي وتوليد الطاقة الكهرومائية، بات اليوم من أكثر أنهار لبنان تلوّثاً بعد أن حوّلت مياه الصرف غير المعالجة وجريان الأسمدة والمبيدات والنفايات الصناعية أجزاءً واسعة منه إلى مياه غير آمنة حتى للري. ومع ذلك يُنتظر من النهر أن يتحمّل عبء سلسلة مشاريع كبرى للري والطاقة، وإمدادات المياه للمدن. 

تُهيمن الزراعة على استهلاك المياه في حوض الليطاني: إذ يُحوّل مشروع القناة 900 تدفقات المياه المُنظّمة من خزان القرعون للري في وسط وجنوب وادي البقاع، بينما يُمدّ القناة 800 المياه جنوباً للري ومياه الشرب. كما يعتمد تشغيل محطات الطاقة الكهرومائية الثلاث الرئيسية في البلاد على تدفقات القرعون. ورغم أن الطاقة الكهرومائية مصدر متجدّد، إلا أن عملياتها تتنافس على المياه مع الري والتدفقات البيئية. وإلى جانب ذلك، فإذا أقرّ البرلمان مشروع إمدادات المياه الثاني لبيروت الكبرى (SGBWSP) ستُنقل مياه بحيرة القرعون أيضاً إلى العاصمة. وهذا يعني أنّ الليطاني سيُطلب منه أن يخدم الزراعة والطاقة ومياه الشرب في بيروت، على الرغم من تدهور جودته والتوقّعات بعجز مائي مناخي بحلول عام 2044. 

ورغم تبنّي الاستراتيجية لخطاب الإدارة المتكاملة، يكشف هذا التراكم لمشاريع غير مترابطة عن غياب تخطيط متكامل. فالإدارة الحقيقية للموارد المائية المتكاملة تتطلّب هيكل حوكمة على مستوى حوض الليطاني ككل، يكون قادراً على تنسيق المشاريع المتداخلة وتطبيق معايير جودة المياه ومواكبة الواقع الهيدرولوجي، وإشراك أصحاب المصلحة وضمان التوزيع العادل بين القطاعات. غير أنّ المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، والمكلّفة بسد القرعون ومشاريع الري ومراقبة الجودة، بالكاد ورد ذكرها في الاستراتيجية وتفتقر حالياً إلى الصلاحيات والموارد والدعم اللازم لتأدية دور تنسيقي فعّال. 

إن تمكين مصلحة الليطاني وربط توسّع الري بإصلاحات إدارة الطلب، وتشديد ضوابط التلوث، يمكن أن يحوّل الليطاني إلى نموذج فعلي للإدارة المتكاملة للموارد المائية. 

تحديد خطط الاستعداد المناخي بوضوح 

تُقرّ الاستراتيجية الوطنية أيضاً بأن تغيّر المناخ يشكّل تحدّياً أساسياً لأمن المياه في لبنان. وتوصي بإنشاء خزّانات متعدّدة الأغراض وإعادة تغذية مُدارة للمياه الجوفية للتعامل مع التدفقات غير المتوقّعة، وتؤكد على تحديث أنظمة الري وإعادة استخدام مياه الصرف كوسيلتين لتخفيف الضغط عن الموارد العذبة. كما تُشير إلى ضرورة تكييف الممارسات الزراعية مثل الري بالتنقيط وتنويع المحاصيل لمواجهة مناخ أكثر حرارة وجفافاً. والأهم أنّها تدعو إلى تدابير للتأهّب، مؤكّدة أهمية التخطيط المسبق للجفاف ووضع بروتوكولات للاستجابة للطوارئ عند مواجهة الظواهر المناخية المتطرّفة. يُمثّل ذلك من حيث المبدأ خطوة مهمة نحو دمج أحداث المناخ القاسية في التخطيط القطاعي، بدلاً من التعامل معها كأزمات منفصلة. 

ولكي تُثبت الاستراتيجية فعلاً جاهزيتها المناخية يجب أن تقترن تكيّفات البنى التحتية بتدابير طوارئ مفصّلة وقابلة للتنفيذ لمواجهة الجفاف والفيضانات.

مع ذلك تبقى خطط الاستعداد المناخي في الاستراتيجية غير مكتملة. فرغم الإشارة إلى الحاجة لوضع خطط طوارئ للفيضانات والجفاف، لم تُحدَّد بروتوكولات تشغيلية أو إدارية واضحة. بل تميل الاستراتيجية مجدداً إلى حلول البنى التحتية الكبرى مُبرّرةً توسيع الإمدادات من دون توفير أطر تنفيذية ملزِمة للتأهّب. 

ولكي تُثبت الاستراتيجية فعلاً جاهزيتها المناخية يجب أن تقترن تكيّفات البنى التحتية بتدابير طوارئ مفصّلة وقابلة للتنفيذ لمواجهة الجفاف والفيضانات بما يشمل تحديد أدوار مؤسسية واضحة، ووضع مؤشّرات إنذار ومحفّزات، واعتماد أنظمة مراقبة فعّالة تدعم اتخاذ القرارات بشكل فوري. 

مخطط عملي لاستصلاح مياه الصرف الصحي 

لا يزال قطاع الصرف الصحي أحد أضعف الحلقات في نظام إدارة المياه في لبنان تقدّر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) أن لبنان يُنتج نحو 310 ملايين متر مكعّب من مياه الصرف البلدي سنوياً، فيما تُشير الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه إلى أنّ أقل من 10% منها يُعالج معالجة صحيحة قبل تصريفه. أما الكميات المتبقية فتتدفّق من دون معالجة إلى الأنهار والوديان والبحر المتوسّط. يُمثّل نهر الليطاني وخزّان القرعون بعض أسوأ الأمثلة: فكلاهما ملوّث بشدّة بمياه الصرف الخام وجريان المزارع والنفايات الصناعية، ما أدّى إلى ظاهرة التخثّث ونفوق الأسماك وفقدان الاستخدامات الترفيهية والزراعية. أما على الساحل فإن مياه الصرف غير المعالجة تسببت في تدهور النظم البيئية البحرية وانخفاض نوعية مياه السباحة وزيادة المخاطر الصحية في المدن المكتظة. كما باتت المياه الجوفية، وهي المصدر الأساسي لمياه الشرب في لبنان، ملوّثة بشكل متزايد بالنترات ومسبّبات الأمراض نتيجة ضعف أنظمة الجمع والمعالجة. 

تعترف الاستراتيجية بهذه التحديات وتضع معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها ضمن أولوياتها، باعتبارها أداة لتخفيف الضغط المناخي: إذ يمكن أن تعزّز إمدادات المياه وتحمي النظم البيئية. ولو جُمعت هذه الموارد غير التقليدية وعُولجت بالكامل، لأمكنها سدّ جزء ملموس من العجز المائي في لبنان خصوصاً للزراعة المروية في البقاع وعلى الساحل. وبإدارة سليمة، يمكن أن تسهم أيضاً في استعادة التدفقات البيئية إلى الأنهار الملوثة مثل الليطاني، بما يعكس مسار التدهور البيئي ويخفف الضغط عن الموارد العذبة الآخذة في التناقص. 

تروّج لإعادة استخدام المياه المعالجة، لكن من دون تحديد أهداف كمية واضحة أو آليات لإشراك المزارعين في اعتمادها للري.

لكن التزامات الاستراتيجية تبقى عامة وتفتقر إلى تفاصيل عملية. فأكثر من 50 محطة معالجة أُنشئت خلال العقد الماضي ما زالت شبه معطّلة بفعل انقطاع الكهرباء ونقص الكوادر وغياب شبكات التجميع. ومع ذلك لا تعالج الاستراتيجية مشكلة هذه المنشآت غير المستثمرة، ولا تضع خطة تمويل متماسكة للتشغيل والصيانة. كما أنّها تروّج لإعادة استخدام المياه المعالجة، لكن من دون تحديد أهداف كمية واضحة أو آليات لإشراك المزارعين في اعتمادها للري. ودون إعادة صياغة إدارة مياه الصرف كأولوية للصحة العامة واستعادة الموارد عبر معايير مُلزِمة وتمويل مخصّص، وتكامل حقيقي مع تخطيط المياه الزراعية، يخاطر لبنان بتفويت فرصة تحويل مئات ملايين الأمتار المكعّبة من مياه الصرف إلى شريان حياة للزراعة واستعادة البيئة. 

 

المسار الأفضل لإرواء العطش المزمن في لبنان 

تُمثّل الاستراتيجية الوطنية المحدثة لقطاع المياه تحسّناً واضحاً مقارنةً بسابقتها، إذ تُقرّ بضغوط تغيّر المناخ ودور الموارد غير التقليدية وأهمية التخطيط المتكامل. غير أنّ الحلول المقترَحة لا تتلاءم مع السياق اللبناني. فالاستراتيجية تعرض قوائم مشاريع طموحة لكنها لا توفّر سوى وضوح محدود بشأن كيفية تنفيذها أو تمويلها بشكل مستدام. ومن دون مسارات تشغيلية وتمويلية ملموسة، تبقى الاستراتيجية أقرب إلى الطموح منها إلى التطبيق. 

وعلى نحو عام، لا تختلف تحديات قطاع المياه عن تلك التي تواجه القطاعات الأخرى في لبنان: فالحوكمة تحتاج إلى مؤسسات معزَّزة وفاعلة وإلى إنفاذ قانوني صارم، ومساءلة واضحة وتقارير شفافة. 

يجب إدارة الموارد المائية وفق نهج تكاملي حقيقي يُنهي منطق المشاريع المنعزلة التي تُضعف الاستدامة في إدارة أحواض الأنهار.

على صانعي السياسات إعادة صياغة الاستراتيجية بحيث تضع إدارة الطلب في صلبها لضمان استخدام الموارد الشحيحة بكفاءة. وفي هذا السياق، يجب أن توازن إصلاحات التعرفة بين استرداد الكلفة وحماية الأسر الأشد تضرراً. 

كما يجب إدارة الموارد المائية وفق نهج تكاملي حقيقي يُنهي منطق المشاريع المنعزلة التي تُضعف الاستدامة في إدارة أحواض الأنهار. وهذا يتطلّب توحيد الزراعة والإمدادات الحضرية والصناعة والطاقة الكهرومائية والتدفّقات البيئية في إطار واحد متماسك. 

أما استجابة لبنان لتغيّر المناخ، فلا بد أن تتجاوز مجرّد بناء بنى تحتية جديدة، وتشمل بروتوكولات تأهب شاملة وقائمة على مؤشرات إنذار واضحة وأنظمة إنذار مبكر وخطط طوارئ وآليات مالية داعمة. 

ويجب أيضاً أن تصبح معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها ركناً أساسياً في استراتيجية وطنية مُعاد صياغتها: عبر تشغيل المرافق القائمة وتأمين التمويل المخصَّص وتطبيق معايير صارمة لإعادة الاستخدام الآمن في الزراعة واستعادة النظم البيئية. هكذا يتحوّل هذا القطاع إلى ركيزة مزدوجة لمكافحة التلوث وردم الفجوة المائية. 

نهايةً، لن يتحقق الأمن المائي في لبنان فقط عبر بناء السدود والقنوات ومحطات المعالجة، بل بإرادة سياسية صلبة ومؤسسات قادرة وذات مصداقية، وأيضاً عبر إدراك بأن إدارة المياه مسألة قيادة ومسؤولية لا مجرد إنجاز هندسي، لتحقيق مستقبل أكثر استدامة لبلدنا. 

 

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر فقط عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر البديل | معهد السياسة البديلة أو هيئة التحرير فيه. 

المواضيع ذات الصلة