السلاح الفلسطيني في لبنان: بين ضغوط الدولة وهواجس التوازنات الداخلية والإقليمية

في ظل ضغوط إقليمية ودولية للحد من نفوذ الجماعات المسلحة، تفشل الدولة اللبنانية في استعادة سيادتها

خطة الحكومة اللبنانية لحصر السلاح بيد الدولة تواجه اختبارًا حاسمًا للسيادة: فرض سلطتها داخل المخيمات الفلسطينية الـ12 في البلاد. وحتى الآن، لم تنجح. 

يعود ملف سحب السلاح الفلسطيني من المخيمات في لبنان إلى واجهة النقاش السياسي والأمني في مرحلة حسّاسة تشهد فيها البلاد والمنطقة تحوّلات عميقة على المستويين الداخلي والإقليمي. فعلى الرغم من أن هذا الملف ليس جديدًا، إلا أن إعادة طرحه اليوم ترتبط بسياق أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، يتقاطع فيه البُعد الأمني مع الحسابات السياسية والضغوط الدولية. فالدولة اللبنانية، التي سبق أن أعلنت عن خطة تدريجية لحصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية، تجد نفسها أمام اختبار سيادي حرج، يتعلّق بقدرتها على فرض سلطتها داخل المخيمات الفلسطينية التي لطالما شكّلت مناطق خارجة عن الرقابة المباشرة للدولة. 

لكن التوقيت ليس عابرًا. فالطرح يتزامن مع تصاعد الضغط الدولي على لبنان لتنفيذ التزاماته تجاه ضبط السلاح غير الشرعي، ومع تنامي المطالب الإقليمية بترسيخ الاستقرار الحدودي، خصوصًا بعد الحرب الأخيرة في غزة، وضمن سياق تفاوضي أكبر يشمل إيران وحزب الله. في هذا الإطار، يبدو أن سلاح الفصائل الفلسطينية يُستخدم كمختبر أولي، أو كمدخل تقني – سياسي لقياس إمكانية مقاربة أكثر شمولًا لقضية السلاح خارج إطار الدولة، بما في ذلك سلاح حزب الله، من دون الاصطدام مباشرة بجدار التعقيدات الطائفية والإقليمية المرتبطة به. 

إن إعادة تحريك هذا الملف اليوم لا تنفصل عن حسابات أكبر ترتبط بالتوازنات الداخلية اللبنانية، ومحاولة بعض الأطراف المحلية والدولية إعادة تعريف مفهوم السيادة اللبنانية عبر خطوات موضعية “قابلة للتطبيق”، تبدأ من المخيمات. لكن هذه المقاربة، رغم واقعيتها الشكلية، تطرح في المقابل تحديات كبرى تتعلّق بالثقة بين الدولة والفلسطينيين، وبمدى استعداد الفصائل، خصوصًا في ظل غياب حل عادل لقضية اللاجئين، لتسليم سلاح ترى فيه جزءًا من هويتها التاريخية ومن أدوات دفاعها في بيئة تعتبرها معادية. 

بات واضحًا أن المجتمع الدولي لم يعد يقبل بمنطق "الاستثناء الفلسطيني" داخل لبنان.

يعود وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى نكبة عام 1948، حين فرّ مئات الآلاف من وطنهم وسط العنف الذي رافق قيام دولة إسرائيل. وقد اكتسبت المخيمات الفلسطينية في لبنان وضعًا شبه مستقل بموجب اتفاق القاهرة عام 1969 بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ورغم أن لبنان ألغى الاتفاق رسميًا في أواخر الثمانينيات، إلا أن الدولة لم تستعد سيطرتها الفعلية على المخيمات حتى اليوم.

 

جاء وقف إطلاق النار الأخير ليُظهر حجم التشابك بين الأذرع العسكرية الفلسطينية المنتشرة في لبنان، وبين مفاعيل الصراع الإقليمي الممتد من غزة إلى الجنوب اللبناني. فالفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، شاركت بشكل مباشر في إطلاق صواريخ على إسرائيل خلال “حرب الإسناد” التي اندلعت بعد المواجهة الكبرى في قطاع غزة. أحرج هذا الحادث الدولة اللبنانية، وباعتبارها الجهة الوحيدة المخوّلة بحمل السلاح بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، وجب عليها الالتزام باتخاذ تدابير تمنع تكرار مثل هذه الحوادث.

ومن هنا، بات واضحًا أن المجتمع الدولي لم يعد يقبل بمنطق “الاستثناء الفلسطيني” داخل لبنان، بل يعتبره جزءًا من معضلة السلاح غير الشرعي، بما يعزز من الضغوط على الدولة اللبنانية للتعامل مع السلاح الفلسطيني كما تتعامل مع سلاح حزب الله. لكن هذه المقاربة سرعان ما اصطدمت بجملة من التحديات السياسية والميدانية.

زيارة عباس: بين السياسة والرسائل

زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت في 21 أيار/مايو 2025 لم تكن زيارة بروتوكولية. فقد جاءت في لحظة سياسية دقيقة، وسط تصعيد إقليمي وضغوط دولية غير مسبوقة على لبنان. وأظهرت الزيارة رغبة فلسطينية رسمية في التماهي مع السياق الجديد، من خلال التوصل إلى تفاهمات مع الدولة اللبنانية تقضي بتسليم السلاح الفلسطيني تدريجًا وفق آلية تنفيذية، مقابل تحسين أوضاع اللاجئين في لبنان على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، والتأكيد على رفض التوطين.

ما تم الاتفاق عليه في بيروت بين السلطة والدولة اللبنانية بدا وكأنه محاولة لتدشين مرحلة جديدة من العلاقة الفلسطينية – اللبنانية، قائمة على مبدأ “بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها”، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية، مع تشكيل لجنة مشتركة تشرف على تطبيق خطة نزع السلاح، خطوة بخطوة.

لكن ما لم يُقال في اللقاءات العلنية، عُرف من خلال تسريبات سياسية مفادها أن عباس أتى إلى بيروت مدفوعًا بعدة أهداف:

أولًا، الظهور أمام المجتمعين العربي والدولي كشريك في مشروع الدولة اللبنانية، وكطرف يعارض استمرار السلاح غير الشرعي في المخيمات.

وثانيًا، محاولة استعادة زمام المبادرة في الساحة الفلسطينية – اللبنانية، من خلال الضغط غير المباشر على خصومه، وتحديدًا “حماس”، التي تتمتع بنفوذ متصاعد في العديد من المخيمات، ولا سيما في الجنوب.

 

السلطة في المخيمات: هشاشة النفوذ وتفكك القيادة

رغم الاندفاعة السياسية للسلطة الفلسطينية، فإن واقع المخيمات في لبنان يكشف عن صورة مختلفة تمامًا. فحركة “فتح”، التي تمثل الواجهة السياسية والعسكرية للسلطة، لا تحتكر القرار داخل هذه المخيمات، بل تشاركها السيطرة فصائل عديدة، ذات مرجعيات سياسية وأيديولوجية متباينة.

وبينما تبدو قوات “الأمن الوطني الفلسطيني” نظريًا الجهة المسؤولة عن أمن المخيمات، إلا أن التجربة أظهرت عجزها الكامل عن منع عمليات إطلاق الصواريخ أو الحد من التحركات المسلحة. هذا الضعف البنيوي ساهم في تعقيد المشهد، حيث لم تتمكن السلطة من فرض أي إجراءات أمنية، لا على “حماس” ولا على سواها من الفصائل.

ومع أن بعض الفصائل قابلت زيارة عباس بحذر، إلا أن “حماس” تحديدًا فضّلت اتباع تكتيك الانتظار، فتجنبت الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة، لكنها في المقابل لم تُبدِ أي التزام بتنفيذ تفاهمات بيروت. بل اكتفت بخطوات استباقية محدودة، كإظهار التعاون مع الأمن اللبناني عبر تسليم عناصر مشبوهة بإطلاق صواريخ على إسرائيل.

غير أنّ هذه الخطوة لم تعكس التزامًا حقيقيًا بالاتفاق، بل كانت تهدف بشكل أساسي إلى تفادي انفجار الوضع نتيجة محاولات قوى الأمن اللبنانية دخول المخيمات.

الموقف اللبناني: تقاطع مع ملف حزب الله

في الجانب اللبناني، تبدو القوى السياسية متوافقة في المبدأ على ضرورة بسط سيادة الدولة، وحصر السلاح بيد الجيش، إلا أن التباينات تظهر حين يُطرح السؤال: كيف؟

غير أن كل هذا الجدل حول السلاح الفلسطيني لا يمكن فصله عن السجال الأكبر المتعلّق بسلاح حزب الله. فكل خطوة في اتجاه نزع السلاح من الفصائل الفلسطينية تُقرأ تلقائيًا كمقدمة للمطالبة بإجراءات مماثلة تجاه الحزب، وهو ما يُفسّر موقف حزب الله “الصامت المتحفّظ”.

الحزب يدرك أن القبول بسحب السلاح الفلسطيني قد يستخدم لاحقًا كورقة ضده، في ظل البيئة اللبنانية والدولية الراهنة. لذا، يُرجّح أن يعمد إلى اعتماد استراتيجية مزدوجة: لا معارضة علنية للمسار، ولا دعم فعلي له. بل محاولة لكسب الوقت وإبقاء الملف مفتوحًا للمقايضة أو التعطيل، بحسب تطورات التسويات الإقليمية، خاصة تلك المرتبطة بإيران والملف النووي.

فالرأي العام اللبناني يزداد رفضًا لكل ما له علاقة بالسلاح الخارج عن الدولة، ويدعو إلى إنهاء هذا الواقع الذي يعيد إنتاج مناخات الحرب الأهلية.

لكن المشكلة تكمن في أن السلاح الفلسطيني بات مكلفا داخليًا. فالرأي العام اللبناني يزداد رفضًا لكل ما له علاقة بالسلاح الخارج عن الدولة، ويدعو إلى إنهاء هذا الواقع الذي يعيد إنتاج مناخات الحرب الأهلية. وبالتالي فأن أي دعم مباشر من الحزب للفصائل قد يُترجم استنزافًا سياسيًا وشعبيًا هو بغنى عنه.

تأخر في البدء.. أزمة نوايا؟

رغم إعلان الحكومة اللبنانية عن مهلة تنتهي في منتصف حزيران 2025 لبدء تنفيذ خطة سحب السلاح الفلسطيني من مخيمات بيروت، ، إلا أن هذه المهلة انقضت من دون أي إجراء عملي على الأرض: لم يتم تسجيل أي عملية تسليم أو جمع فعلي للسلاح تقريبًا، كما لم تُعقد مفاوضات أمنية جدّية مع الفصائل الفلسطينية داخل المخيمات.

مما يثير تساؤلات جوهرية حول جدية الدولة وإمكاناتها في تنفيذ هذا القرار الحساس.

ومرور هذه المهلة من دون تحرّك فعلي يعكس هشاشة القرار السياسي في لبنان، إذ يبدو أن الحكومة إما عاجزة عن فرض رؤيتها، أو أنها رضخت لضغوط داخلية وخارجية حالت دون التنفيذ، وربما فضّلت تجنّب التصعيد الأمني في مرحلة تشهد توترات إقليمية كبرى. كذلك، يكشف هذا الجمود عن انقسام ضمن المؤسسات اللبنانية بشأن أولوية هذا الملف، خاصة في ظلّ غياب أيّ توافق داخلي واضح حول طبيعة الحلول، أو الضمانات التي يُفترض تقديمها للفلسطينيين مقابل نزع سلاحهم.

الدولة اللبنانية لم تنتقل من خانة الإعلان السياسي إلى حيّز التنفيذ الواقعي، وأن سلاح المخيمات سيبقى، في الأمد المنظور، أحد مظاهر الهشاشة السيادية في لبنان.

الأخطر من ذلك، أن تأجيل التنفيذ من دون أي توضيح رسمي يخلق فراغًا سياديًا، ويؤكد مجددًا أن قرار حصر السلاح بيد الدولة لا يزال رهينة التوازنات الداخلية، وتحديدًا علاقة الدولة بقوى الأمر الواقع المسلحة داخل المخيمات وخارجها. فالفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها “عصبة الأنصار” و”فتح”، لم تتلقَّ حتى اللحظة أي إشارات جدية بأن سلاحها سيُنتزع ضمن إطار قانوني وأمني متماسك، بل تزداد شكوكها بشأن أهداف الدولة، خاصة في ظل توتر العلاقات اللبنانية–الفلسطينية مؤخرًا.

وهذا الأداء يُظهر مشهد ما بعد المهلة أن الدولة اللبنانية لم تنتقل من خانة الإعلان السياسي إلى حيّز التنفيذ الواقعي، وأن سلاح المخيمات سيبقى، في الأمد المنظور، أحد مظاهر الهشاشة السيادية في لبنان، وأحد أبرز تجليات العجز الرسمي عن فرض سلطة القانون داخل مناطقه. وبين غياب القرار، وتقدّم الحسابات الأمنية والسياسية على منطق الدولة، يبدو أن الرهان على “حل داخلي سلمي” لهذا الملف بات مهددًا بالتآكل ما لم تبادر الحكومة إلى تحرك جاد مدعوم بتوافق وطني وإقليمي واضح.

العدالة كضمانة حقيقية لنزع السلاح: بين الذاكرة الجريحة والمسؤولية السياسية

في أي نقاش جاد حول نزع السلاح الفلسطيني من المخيمات، لا يمكن تجاهل الذاكرة الجماعية الثقيلة التي يحملها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وهي ذاكرة مشبعة بجروح المجازر والانتهاكات، التي تعرّضوا لها على مدى عقود من قبل ميليشيات لبنانية، والقوات السورية، والاحتلال الإسرائيلي. من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا، مرورًا بأحداث مخيم نهر البارد، تكرّست لدى الفلسطينيين قناعة بأن غياب السلاح قد لا يعني بالضرورة حضور الأمن، وأن نزع أدوات الدفاع الذاتي من دون ضمانات حقيقية، قد يجعلهم مجددًا عرضة للتصفية أو التهميش أو الابتزاز الأمني والسياسي.

لا بد من فتح نقاش وطني حول الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، الذين لا يزالون محرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة، من الحق في العمل والتملّك، إلى الحماية الاجتماعية والقانونية.

ولذلك، فإن أي خطة جدية لسحب السلاح لا يمكن أن تكتفي بالوعود النظرية، بل يجب أن تُقرن بضمانات أمنية وسياسية وقانونية واضحة.

هذه الخطوات ليست ترفًا، بل ضرورة حتمية إذا كانت الدولة اللبنانية راغبة فعلًا في فتح صفحة جديدة مع المخيمات، تستند إلى منطق الدولة لا إلى منطق الهيمنة.

في الوقت نفسه، لا بد من فتح نقاش وطني حول الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، الذين لا يزالون محرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة، من الحق في العمل والتملّك، إلى الحماية الاجتماعية والقانونية. إذ لا يمكن للدولة أن تطلب من هؤلاء تسليم سلاحهم، بينما تبقيهم خارج النظام القانوني والاجتماعي، وتتعامل معهم كقنبلة موقوتة بدلاً من كونهم فئة مستضعفة تستحق الإنصاف. إن الدمج بين نزع السلاح وتوفير ضمانات العدالة والحقوق يشكّل المعادلة الوحيدة التي يمكن أن تُنتج انتقالًا سلميًا ومستقرًا من منطق “الأمن الذاتي” إلى منطق الدولة الرشيدة.

ملف السلاح الفلسطيني في لبنان لا يمكن التعامل معه كملف منفصل أو موضعي، بل هو جزء من منظومة أوسع ترتبط بمسألة السلاح غير الشرعي بكل أشكاله، ومن بينها سلاح حزب الله.

وبدون هذا الربط، سيبقى السلاح الفلسطيني – رغم مخاطره وتعقيداته – بمثابة رد فعل على غياب الثقة، لا على نية التمرّد. فالمخيمات التي عاشت لعقود تحت تهديد المجازر والانتهاكات، لا يمكنها أن تدخل مرحلة جديدة من الانضباط القانوني ما لم تحصل أولًا على اعتراف رسمي بمعاناتها، وتعويض سياسي وأخلاقي عن عقود من التهميش والإقصاء.

لا حل خارج الحزمة الشاملة

ملف السلاح الفلسطيني في لبنان لا يمكن التعامل معه كملف منفصل أو موضعي، بل هو جزء من منظومة أوسع ترتبط بمسألة السلاح غير الشرعي بكل أشكاله، ومن بينها سلاح حزب الله. وهذا التشابك بين المسارين – الفلسطيني واللبناني – يفرض على أي محاولة جدية للحل أن تنطلق من مقاربة شاملة، متدرجة، ومسؤولة.

هذه المقاربة يجب أن تتكئ على ثوابت الدولة اللبنانية، أولها حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية، وثانيها احترام الكرامة الإنسانية والحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، مع تأكيد حق العودة كمرتكز لأي تسوية عادلة. في المقابل، فإن نجاح هذا المسار يتطلب رعاية عربية ودولية دقيقة، قادرة على توفير الغطاء السياسي، والدعم التقني، والضمانات الأمنية، في ظل هشاشة التوازنات الداخلية واحتدام التنافس الإقليمي.

وبين مسار المماطلة ومسار التسوية، يبقى مستقبل المخيمات والسلاح الفلسطيني معلّقًا على قدرة لبنان على تجاوز حساباته الضيقة، وعلى رغبة الفلسطينيين – سلطة وفصائل – في بناء شراكة جديدة مع الدولة، لا تتأسس على السلاح، بل على الحقوق والتنظيم والتكامل.

 

صهيب جوهر هو باحث وصحافي.

المواضيع ذات الصلة