يعود وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى نكبة عام 1948، حين فرّ مئات الآلاف من وطنهم وسط العنف الذي رافق قيام دولة إسرائيل. وقد اكتسبت المخيمات الفلسطينية في لبنان وضعًا شبه مستقل بموجب اتفاق القاهرة عام 1969 بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ورغم أن لبنان ألغى الاتفاق رسميًا في أواخر الثمانينيات، إلا أن الدولة لم تستعد سيطرتها الفعلية على المخيمات حتى اليوم.
جاء وقف إطلاق النار الأخير ليُظهر حجم التشابك بين الأذرع العسكرية الفلسطينية المنتشرة في لبنان، وبين مفاعيل الصراع الإقليمي الممتد من غزة إلى الجنوب اللبناني. فالفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، شاركت بشكل مباشر في إطلاق صواريخ على إسرائيل خلال “حرب الإسناد” التي اندلعت بعد المواجهة الكبرى في قطاع غزة. أحرج هذا الحادث الدولة اللبنانية، وباعتبارها الجهة الوحيدة المخوّلة بحمل السلاح بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، وجب عليها الالتزام باتخاذ تدابير تمنع تكرار مثل هذه الحوادث.
ومن هنا، بات واضحًا أن المجتمع الدولي لم يعد يقبل بمنطق “الاستثناء الفلسطيني” داخل لبنان، بل يعتبره جزءًا من معضلة السلاح غير الشرعي، بما يعزز من الضغوط على الدولة اللبنانية للتعامل مع السلاح الفلسطيني كما تتعامل مع سلاح حزب الله. لكن هذه المقاربة سرعان ما اصطدمت بجملة من التحديات السياسية والميدانية.
زيارة عباس: بين السياسة والرسائل
زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت في 21 أيار/مايو 2025 لم تكن زيارة بروتوكولية. فقد جاءت في لحظة سياسية دقيقة، وسط تصعيد إقليمي وضغوط دولية غير مسبوقة على لبنان. وأظهرت الزيارة رغبة فلسطينية رسمية في التماهي مع السياق الجديد، من خلال التوصل إلى تفاهمات مع الدولة اللبنانية تقضي بتسليم السلاح الفلسطيني تدريجًا وفق آلية تنفيذية، مقابل تحسين أوضاع اللاجئين في لبنان على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، والتأكيد على رفض التوطين.
ما تم الاتفاق عليه في بيروت بين السلطة والدولة اللبنانية بدا وكأنه محاولة لتدشين مرحلة جديدة من العلاقة الفلسطينية – اللبنانية، قائمة على مبدأ “بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها”، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية، مع تشكيل لجنة مشتركة تشرف على تطبيق خطة نزع السلاح، خطوة بخطوة.
لكن ما لم يُقال في اللقاءات العلنية، عُرف من خلال تسريبات سياسية مفادها أن عباس أتى إلى بيروت مدفوعًا بعدة أهداف:
أولًا، الظهور أمام المجتمعين العربي والدولي كشريك في مشروع الدولة اللبنانية، وكطرف يعارض استمرار السلاح غير الشرعي في المخيمات.
وثانيًا، محاولة استعادة زمام المبادرة في الساحة الفلسطينية – اللبنانية، من خلال الضغط غير المباشر على خصومه، وتحديدًا “حماس”، التي تتمتع بنفوذ متصاعد في العديد من المخيمات، ولا سيما في الجنوب.
السلطة في المخيمات: هشاشة النفوذ وتفكك القيادة
رغم الاندفاعة السياسية للسلطة الفلسطينية، فإن واقع المخيمات في لبنان يكشف عن صورة مختلفة تمامًا. فحركة “فتح”، التي تمثل الواجهة السياسية والعسكرية للسلطة، لا تحتكر القرار داخل هذه المخيمات، بل تشاركها السيطرة فصائل عديدة، ذات مرجعيات سياسية وأيديولوجية متباينة.
وبينما تبدو قوات “الأمن الوطني الفلسطيني” نظريًا الجهة المسؤولة عن أمن المخيمات، إلا أن التجربة أظهرت عجزها الكامل عن منع عمليات إطلاق الصواريخ أو الحد من التحركات المسلحة. هذا الضعف البنيوي ساهم في تعقيد المشهد، حيث لم تتمكن السلطة من فرض أي إجراءات أمنية، لا على “حماس” ولا على سواها من الفصائل.
ومع أن بعض الفصائل قابلت زيارة عباس بحذر، إلا أن “حماس” تحديدًا فضّلت اتباع تكتيك الانتظار، فتجنبت الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة، لكنها في المقابل لم تُبدِ أي التزام بتنفيذ تفاهمات بيروت. بل اكتفت بخطوات استباقية محدودة، كإظهار التعاون مع الأمن اللبناني عبر تسليم عناصر مشبوهة بإطلاق صواريخ على إسرائيل.
غير أنّ هذه الخطوة لم تعكس التزامًا حقيقيًا بالاتفاق، بل كانت تهدف بشكل أساسي إلى تفادي انفجار الوضع نتيجة محاولات قوى الأمن اللبنانية دخول المخيمات.
الموقف اللبناني: تقاطع مع ملف حزب الله
في الجانب اللبناني، تبدو القوى السياسية متوافقة في المبدأ على ضرورة بسط سيادة الدولة، وحصر السلاح بيد الجيش، إلا أن التباينات تظهر حين يُطرح السؤال: كيف؟
غير أن كل هذا الجدل حول السلاح الفلسطيني لا يمكن فصله عن السجال الأكبر المتعلّق بسلاح حزب الله. فكل خطوة في اتجاه نزع السلاح من الفصائل الفلسطينية تُقرأ تلقائيًا كمقدمة للمطالبة بإجراءات مماثلة تجاه الحزب، وهو ما يُفسّر موقف حزب الله “الصامت المتحفّظ”.
الحزب يدرك أن القبول بسحب السلاح الفلسطيني قد يستخدم لاحقًا كورقة ضده، في ظل البيئة اللبنانية والدولية الراهنة. لذا، يُرجّح أن يعمد إلى اعتماد استراتيجية مزدوجة: لا معارضة علنية للمسار، ولا دعم فعلي له. بل محاولة لكسب الوقت وإبقاء الملف مفتوحًا للمقايضة أو التعطيل، بحسب تطورات التسويات الإقليمية، خاصة تلك المرتبطة بإيران والملف النووي.