انسحبت إسرائيل من الجنوب عام 2000، ثم سوريا من باقي لبنان عام 2005، لتندلع في العام التالي حربٌ جديدة مع إسرائيل أعلن بعدها حزب الله «نصراً إلهياً» على عدوه اللدود رغم الدمار الواسع الذي خلّفته الحرب في البلاد. وبعد ذلك، سلك لبنان مسارين متوازيين: أولاً تضاعفت قوة حزب الله ونفوذه السياسي حتى بات يملك فعلياً حق النقض – الفيتو – على قرارات الحكومة. وثانياً اتجهت السياسة الأميركية إلى دعم الجيش اللبناني وتطويره كقوة موازنة لحزب الله.
ومع تقدّم هذين المسارين ظلّ الخطاب الرسمي اللبناني يُعرّف الموقف الأمني للدولة بمعادلة «جيش – شعب – مقاومة». وفي إطار هذه الازدواجية العسكرية حافظ الجيش اللبناني وحزب الله على تفاهمٍ ضمني: يتولّى الأول مهمة الحفاظ على الاستقرار الداخلي، فيما يتكفّل الثاني بالدفاع عن البلاد في وجه العدوان الخارجي – ولا سيما الإسرائيلي. وفي الحالات التي بدت فيها المهمتان متعارضتين، كان الجيش اللبناني ينأى بنفسه ويمتنع عن المواجهة تفادياً لإجبار حزب الله على استعراض تفوّقه العسكري.
نفوذ تولده المساعدات العسكرية
تزايد اعتماد الجيش اللبناني على المساعدات الأميركية بشكلٍ مطّرد، في علاقةٍ عكسية مع قدرة الدولة اللبنانية على تمويل قواتها المسلحة. فبين عامي 2006 و2010، قدّمت واشنطن ما معدّله نحو 210 ملايين دولار سنوياً على شكل تمويل وتدريب ومعدات للجيش اللبناني (جميع الأرقام معدّلة وفقاً للتضخّم الحالي). وخلال الفترة نفسها بلغ متوسط الإنفاق العسكري نحو 1.27 مليار دولار سنوياً، أي إنّ المساعدات الأميركية كانت تعادل نحو 16.5% من إجمالي الإنفاق العسكري وهي نسبة مؤثرة، وإن لم تكن عامل الحسم في استدامة الجيش.
لكن هذا الاعتماد تضاعف بعد الأزمة المالية التي ضربت لبنان عام 2019، والتي قلّصت بشدّة موازنات الدولة وإنفاقها الدفاعي. فمن 2020 إلى 2024 بلغ متوسط الإنفاق العسكري السنوي نحو 350 مليون دولار فيما بلغت المساعدات العسكرية الأمريكية 165 مليون دولار – أي ما يقارب نصف الإنفاق الدفاعي اللبناني.
ثم في تشرين الأول 2023 انضمّ حزب الله إلى الحرب ضدّ إسرائيل إسناداً لحماس في غزّة، ما أدّى إلى مقتل معظم قياداته السياسية والعسكرية وتدمير مناطق واسعة من لبنان. وبعد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في تشرين الثاني 2024 تولّت حكومة إصلاحية الحكم في بيروت، لتُعلن واشنطن عن حزمة مساعدات بقيمة 100 مليون دولار دعماً للجيش اللبناني. وفي تشرين الأول أعلنت الولايات المتحدة عن 190 مليون دولار إضافية للجيش و40 مليون دولار لقوى الأمن الداخلي، أي إنّ المساعدات الأميركية المقدّمة للقوات المسلحة اللبنانية خلال الأشهر العشرة الأولى من العام بلغت ما يعادل نصف المبلغ الذي خصّصته الحكومة اللبنانية للدفاع (586 مليون دولار) في موازنة العام نفسه.
وبالتوازي، تبنّت الحكومة اللبنانية موقفاً أمنياً أكثر تشدّداً، مطالبةً الدولة باحتكار السلاح داخل حدودها، وهي دعوة صريحة لنزع سلاح حزب الله. وقد قدّم القادة في بيروت وواشنطن هذا المشروع بوصفه مساراً لاستعادة السيادة الوطنية اللبنانية – وإن كان ذلك بشروط أميركية – إذ اشترطت واشنطن استمرار مساعداتها بتقدّم ملموس في نزع سلاح الحزب.
وقد أشاد المسؤولون الأميركيون مراراً بجهود الجيش اللبناني في هذا الاتجاه، ولا سيما عندما أعلن في نيسان أنّه فكّك أكثر من 90% من البنية التحتية العسكرية لحزب الله جنوب نهر الليطاني. وفي مطلع آب اعتمدت الحكومة اللبنانية خريطة طريق صاغتها الولايات المتحدة التزمت بموجبها بنزع سلاح حزب الله وجميع الجهات غير الحكومية بحلول نهاية عام 2025، وبنشر الجيش في مناطق حدودية أساسية وسواها.
وفي حال التزام لبنان الكامل بالخطة، من المنتظر أن يحصل على مساعدات أميركية ودولية لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فيما تدعو الخطة أيضاً إسرائيل إلى الانسحاب من جنوب لبنان ووقف عملياتها العسكرية على أراضيه.
سكين في معركة بنادق
في الوقت الراهن، يُستبعَد أن تتمكّن الحكومة اللبنانية من تنفيذ مطالب خريطة الطريق الأميركية، وبالتأكيد ليس قبل نهاية العام. فقد استأنفت إسرائيل غاراتها الجوية وعملياتها البرّية في لبنان فور إعلان وقف إطلاق النار تقريباً – وإن بوتيرةٍ أقلّ – متمسّكةً بما تسميه «حرية العمل» ضد حزب الله. ومع ذلك تعرّضت مواقع وعناصر الجيش اللبناني بدورها للاستهداف بشكلٍ متكرّر. وبينما يواصل الجيش الإسرائيلي احتلال خمسة مواقع رئيسية في جنوب لبنان إلى جانب عملياته الميدانية المتفرّقة، يُمنع الجيش اللبناني فعلياً من الانتشار الكامل في الأراضي اللبنانية. وبالتالي فإنّ حرمان الجيش من أداء دوره في حماية البلاد وحدودها يُجرّده أيضاً من الشرعية المؤسسية باعتباره القوة العسكرية الأبرز في لبنان.