لبنان بين السيادة والتبعية: المساعدات العسكرية الأميركية نموذجاً

في سعي الدولة إلى حصر السلاح بيدها، تُخاطر بأن تستبدل تبعيّةً بأخرى.

تدّعي الحكومة الإصلاحية في لبنان أنّها تسعى إلى ترسيخ السيادة الوطنية، بقيادة جهود القوات المسلحة لتفكيك الجهاز العسكري لحزب الله وتكريس حصر السلاح بيد الدولة. لكنّ الواقع يوحي بتكرار نمط تاريخي قائم على استبدال الرعاة، بما يهدّد بتقويض سلطة الدولة مرّةً أخرى. هذه المرّة، يخسر حزب الله – وإيران بالتبعية – نفوذه على بيروت طوال معظم العقدين الماضيين، فيما تسعى واشنطن – وإسرائيل بالتبعية – إلى بسط هيمنة جديدة. 

واليوم أصبح دعم الولايات المتحدة للجيش اللبنانيّ ذي أهمية حيوية لاستمرار عملياته، وقد استخدمت واشنطن هذا النفوذ علناً لفرض أجندة نزع سلاح حزب الله. وبينما يُغلّف المسؤولون الأميركيون واللبنانيون هذا المسعى بخطاب «تأكيد السيادة اللبنانية» فإنهم يغفلون أنّ السيادة الوطنية تتطلّب عاملين معاً: الأول بسط سلطة الدولة داخل حدودها، والثاني قدرتها على حماية تلك الحدود من التهديدات الخارجية. 

يبدو أنّ صانعي القرار الأميركيين راضون بدعم الحكومة اللبنانية في ضبط مواطنيها، على غرار ترتيبات واشنطن مع مصر والأردن، لكن دون نيّة لتطوير الجيش اللبناني إلى قوّة عسكرية فاعلة وقادرة على ردع العدوان العسكري الإسرائيلي. بل على العكس تماماً: فإن التزام الولايات المتحدة المكرّس قانونياً بضمان «التفوق العسكري النوعي» لإسرائيل في المنطقة لا يزال راسخاً اليوم كما كان منذ أجيال. 

وبدل تزويد لبنان بأدوات الردع، تُطالب واشنطن اللبنانيين عملياً بالثقة بـ«حُسن نيّة» القادة الإسرائيليين. فمتى فكّك الجيش اللبناني القوة الوحيدة داخل لبنان القادرة على تحدّي الجيش الإسرائيلي، سيَنسحب القادة الإسرائيليون طوعاً من جنوب لبنان وسيتوقّفون عن غاراتهم الجوية شبه اليومية منذ «وقف إطلاق النار» في تشرين الثاني، وسننعم جميعنا بالسلام، أو هكذا يُقال. 

توجد أسباب وجيهة تدفع اللبنانيين إلى الحذر من هذه النهاية «الوردية». أولاً هناك المأساة الفلسطينية المتواصلة: فانتشار المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وخطوات الضمّ الصريح في الآونة الأخيرة، يُظهران أنّ إسرائيل في جوهرها مشروعٌ توسّعي. كما تُبيّن الإبادة في غزّة، المستمرّة منذ أكثر من عامين رغم بثّها على الهواء وإدانتها عالمياً، أنّ إسرائيل تكاد لا تواجه قيوداً على نزعتها العسكرية، ولا سيّما من الولايات المتحدة، مهما بلغت من عنفٍ وتعسّف. 

السيادة الحقّة في لبنان، بما تحمله من آثار مُثبِّتة على مستوى المنطقة، تقتضي جيشاً لبنانياً قادراً معاً على ضمان الأمن الداخلي وردع نزعات إسرائيل إلى المغامرة العسكرية.

لا يزال المتطرفون الصهاينة في صعود في المشهد السياسي الإسرائيلي، معلنين صراحةً رؤيتهم لـ«إسرائيل الكبرى» بتمدّد يتجاوز فلسطين التاريخية نحو شرق المتوسّط برمّته. العام الماضي على سبيل المثال، زعم وزير شؤون الشتات، عميخاي شيكلي، أنّ لبنان «لا يستوفي تعريف الدولة» ودعا إلى «إعادة احتساب» الحدود الشمالية لإسرائيل. كما صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأنّ هذا «مشروعٌ تراكمي طويل الأمد»، ستوسّع فيه إسرائيل حدودها «قليلاً قليلاً» لتضمّ جميع الأراضي الفلسطينية ولبنان والأردن وسوريا والعراق ومصر والسعودية. وتضيف «زيارات الحجّ» التي قام بها مستوطنون صهاينة إلى مناطق من جنوب لبنان المحتل خلال العام الماضي، إلى جانب المساعي الإسرائيلية المتواصلة لشقّ مناطق درزية في جنوب سوريا ، أدلّةً إضافية على مطامع تتخطّى الحدود الإسرائيلية. 

لا يُعرف بعد ما إذا كان «أنصار إسرائيل الكبرى» سيواصلون توسيع نفوذهم وقدرتهم على إملاء السياسات الإسرائيلية، لكنّ التهديد بإمكان ذلك لا يمكن إنكاره. من هنا، يصبح امتلاك لبنان قدرة ردع عسكرية موثوقة هاجساً وجودياً، لا يقتصر أثره على السيادة الوطنية فحسب. فالمشروع الاستعماري الصهيوني الممتدّ قرناً في فلسطين التاريخية كان مدمّراً للاستقرار الإقليمي، إذ غذّى الصراعات المتكرّرة وفاقم الاضطرابات. وعالمٌ يشعر فيه المتطرّفون الصهاينة بأنهم غير مُردَعين عن توسيع هذا المشروع إلى البلدان المحيطة سيكون عالماً أشدّ اضطراباً، مع تبعاتٍ عالمية مرجّحة. 

لقد أدّى حزب الله دور الرادع في لبنان، غير أنّ اقترانه بأيديولوجيا وولاء لإيران قَوَّضا في نهاية المطاف السيادة اللبنانية وجرّا البلاد – بلا ضرورة – إلى جولاتٍ عدّة مدمّرة. والسيادة الحقّة في لبنان، بما تحمله من آثار مُثبِّتة على مستوى المنطقة، تقتضي جيشاً لبنانياً قادراً معاً على ضمان الأمن الداخلي وردع نزعات إسرائيل إلى المغامرة العسكرية. 

 

السيادة المُعلّقة: لعنة لبنان الدائمة 

لأكثر من قرنٍ من الزمن، عاش لبنان حالةَ سيادةٍ معلّقة ظلت فيها سلطة الدولة مقيدة باستمرار من قِبل أطرافٍ أخرى، داخلية كانت أم خارجية، أو الاثنتين معاً. ففي ظلّ الانتداب الفرنسي (1920–1943)، أحكمت باريس سيطرتها على الشؤون السياسية والاقتصادية الأساسية في البلاد ورسّخت النظام الطائفي الذي سيطبع الحياة السياسية اللبنانية لعقود. ولم يُعزّز الاستقلال والميثاق الوطني لعام 1943 هذا النظام إلا من خلال ربط السيادة بالتوازن الهشّ بين التسوية الطائفية والحياد الخارجي. 

أدّت النكبة عام 1948 إلى تدفّق عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، ما فاقم التوتّرات الداخلية ومهّد لاحقاً لاندلاع النزاع الأهلي والتدخّل العسكري الأميركي عام 1958. ثم جاءت إدارة الرئيس فؤاد شهاب لتشهد محاولةً وجيزة لاستعادة سلطة الدولة؛ غير أنّ الصراع الإقليمي المتصاعد جلب موجاتٍ جديدة من اللاجئين والفصائل الفلسطينية المسلّحة، فيما منح اتفاق القاهرة لعام 1969 تلك الفصائل استقلالاً مسلّحاً رسمياً داخل الأراضي اللبنانية. ومع اندلاع الحرب الأهلية (1975–1990)، انهارت الوحدة الوطنية بالكامل، وتقاسمت الميليشيات والجيوش الأجنبية والفصائل الطائفية السيطرة على البلاد. انتهت الحرب بواقعٍ مزدوج: احتلالٌ إسرائيلي للجنوب، ووصايةٌ سورية مفروضة على بقيّة المناطق. 

ظهر حزب الله في أوائل ثمانينيات القرن الماضي نتيجة عجز الدولة اللبنانية عن الدفاع عن أراضيها وتلبية حاجات مواطنيها وسط الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي. وبدعمٍ مباشر من إيران، قدّم الحزب نفسه بوصفه حامياً لسيادة لبنان ومقدّماً للخدمات للمناطق المهمّشة. لكن مع اتساع نفوذه وقدراته العسكرية حلّ محلّ سلطة الدولة في أجزاءٍ واسعة من البلاد، وأنشأ نظام حكمٍ موازياً وقوةً عسكرية تفوق الجيش اللبناني نفسه. فما بدأ كمقاومةٍ ضد الاحتلال الأجنبي تحوّل، بمرور الوقت، إلى قوة تُقيّد السيادة التي زعمت الدفاع عنها، مُدخلاً لبنان في مدار المواجهة الإقليمية بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. 

في إطار هذه الازدواجية العسكرية، حافظ الجيش اللبناني وحزب الله على تفاهمٍ ضمني: يتولّى الأول مهمة الحفاظ على الاستقرار الداخلي، فيما يتكفّل الثاني بالدفاع عن البلاد في وجه العدوان الخارجي، ولا سيما الإسرائيلي.

انسحبت إسرائيل من الجنوب عام 2000، ثم سوريا من باقي لبنان عام 2005، لتندلع في العام التالي حربٌ جديدة مع إسرائيل أعلن بعدها حزب الله «نصراً إلهياً» على عدوه اللدود رغم الدمار الواسع الذي خلّفته الحرب في البلاد. وبعد ذلك، سلك لبنان مسارين متوازيين: أولاً تضاعفت قوة حزب الله ونفوذه السياسي حتى بات يملك فعلياً حق النقضالفيتوعلى قرارات الحكومة. وثانياً اتجهت السياسة الأميركية إلى دعم الجيش اللبناني وتطويره كقوة موازنة لحزب الله. 

ومع تقدّم هذين المسارين ظلّ الخطاب الرسمي اللبناني يُعرّف الموقف الأمني للدولة بمعادلة «جيش – شعب – مقاومة». وفي إطار هذه الازدواجية العسكرية حافظ الجيش اللبناني وحزب الله على تفاهمٍ ضمني: يتولّى الأول مهمة الحفاظ على الاستقرار الداخلي، فيما يتكفّل الثاني بالدفاع عن البلاد في وجه العدوان الخارجي – ولا سيما الإسرائيلي. وفي الحالات التي بدت فيها المهمتان متعارضتين، كان الجيش اللبناني ينأى بنفسه ويمتنع عن المواجهة تفادياً لإجبار حزب الله على استعراض تفوّقه العسكري. 

  

نفوذ تولده المساعدات العسكرية 

تزايد اعتماد الجيش اللبناني على المساعدات الأميركية بشكلٍ مطّرد، في علاقةٍ عكسية مع قدرة الدولة اللبنانية على تمويل قواتها المسلحة. فبين عامي 2006 و2010، قدّمت واشنطن ما معدّله نحو 210 ملايين دولار سنوياً على شكل تمويل وتدريب ومعدات للجيش اللبناني (جميع الأرقام معدّلة وفقاً للتضخّم الحالي). وخلال الفترة نفسها بلغ متوسط ​​الإنفاق العسكري نحو 1.27 مليار دولار سنوياً، أي إنّ المساعدات الأميركية كانت تعادل نحو 16.5% من إجمالي الإنفاق العسكري وهي نسبة مؤثرة، وإن لم تكن عامل الحسم في استدامة الجيش. 

لكن هذا الاعتماد تضاعف بعد الأزمة المالية التي ضربت لبنان عام 2019، والتي قلّصت بشدّة موازنات الدولة وإنفاقها الدفاعي. فمن 2020 إلى 2024 بلغ متوسط ​​الإنفاق العسكري السنوي نحو 350 مليون دولار فيما بلغت المساعدات العسكرية الأمريكية  165 مليون دولار – أي ما يقارب نصف الإنفاق الدفاعي اللبناني. 

ثم في تشرين الأول 2023 انضمّ حزب الله إلى الحرب ضدّ إسرائيل إسناداً لحماس في غزّة، ما أدّى إلى مقتل معظم قياداته السياسية والعسكرية وتدمير مناطق واسعة من لبنان. وبعد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في تشرين الثاني 2024 تولّت حكومة إصلاحية الحكم في بيروت، لتُعلن واشنطن عن حزمة مساعدات بقيمة 100 مليون دولار دعماً للجيش اللبناني. وفي تشرين الأول أعلنت الولايات المتحدة عن 190 مليون دولار إضافية للجيش و40 مليون دولار لقوى الأمن الداخلي، أي إنّ المساعدات الأميركية المقدّمة للقوات المسلحة اللبنانية خلال الأشهر العشرة الأولى من العام بلغت ما يعادل نصف المبلغ الذي خصّصته الحكومة اللبنانية للدفاع (586 مليون دولار) في موازنة العام نفسه.  

وبالتوازي، تبنّت الحكومة اللبنانية موقفاً أمنياً أكثر تشدّداً، مطالبةً الدولة باحتكار السلاح داخل حدودها، وهي دعوة صريحة لنزع سلاح حزب الله. وقد قدّم القادة في بيروت وواشنطن هذا المشروع بوصفه مساراً لاستعادة السيادة الوطنية اللبنانية – وإن كان ذلك بشروط أميركية – إذ اشترطت واشنطن استمرار مساعداتها بتقدّم ملموس في نزع سلاح الحزب. 

وقد أشاد المسؤولون الأميركيون مراراً بجهود الجيش اللبناني في هذا الاتجاه، ولا سيما عندما أعلن في نيسان أنّه فكّك أكثر من 90% من البنية التحتية العسكرية لحزب الله جنوب نهر الليطاني. وفي مطلع آب اعتمدت الحكومة اللبنانية خريطة طريق صاغتها الولايات المتحدة التزمت بموجبها بنزع سلاح حزب الله وجميع الجهات غير الحكومية بحلول نهاية عام 2025، وبنشر الجيش في مناطق حدودية أساسية وسواها. 

وفي حال التزام لبنان الكامل بالخطة، من المنتظر أن يحصل على مساعدات أميركية ودولية لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فيما تدعو الخطة أيضاً إسرائيل إلى الانسحاب من جنوب لبنان ووقف عملياتها العسكرية على أراضيه. 

 

سكين في معركة بنادق 

في الوقت الراهن، يُستبعَد أن تتمكّن الحكومة اللبنانية من تنفيذ مطالب خريطة الطريق الأميركية، وبالتأكيد ليس قبل نهاية العام. فقد استأنفت إسرائيل غاراتها الجوية وعملياتها البرّية في لبنان فور إعلان وقف إطلاق النار تقريباً – وإن بوتيرةٍ أقلّ – متمسّكةً بما تسميه «حرية العمل» ضد حزب الله. ومع ذلك تعرّضت مواقع وعناصر الجيش اللبناني بدورها للاستهداف بشكلٍ متكرّر. وبينما يواصل الجيش الإسرائيلي احتلال خمسة مواقع رئيسية في جنوب لبنان إلى جانب عملياته الميدانية المتفرّقة، يُمنع الجيش اللبناني فعلياً من الانتشار الكامل في الأراضي اللبنانية. وبالتالي فإنّ حرمان الجيش من أداء دوره في حماية البلاد وحدودها يُجرّده أيضاً من الشرعية المؤسسية باعتباره القوة العسكرية الأبرز في لبنان. 

إنّ استمرار العدوان الإسرائيلي عزّز سرديّته بأنّ الدولة اللبنانية ما زالت عاجزة، وأنّ الحزب يجب أن يحتفظ بسلاحه بوصفه قوة الردع الوحيدة القادرة في البلاد.

وفي المقابل شكّلت هذه الاعتداءات مكسباً دعائياً لحزب الله، إذ أعلن أمينه العام نعيم قاسم أنّ الحزب يرفض مبدأ احتكار الدولة للسلاح قبل التنفيذ الكامل للهدنة وانسحاب إسرائيل، محذّراً من اضطرابات داخلية ما إذا أقدمت الدولة على نزع سلاح الحزب فيما تستمرّ انتهاكات وقف إطلاق النار. ودعا الحكومة إلى ضمان التزام إسرائيل بالهدنة قبل فتح أيّ حوار حول استراتيجية الأمن القومي، وهو يدرك تماماً أنّ الدولة اللبنانية تفتقر إلى أدوات الضغط اللازمة لإجبار إسرائيل على أيّ تنازلات. 

ففي حين أضعفت الحرب صورة حزب الله بوصفه المدافع عن الوطن، فإنّ استمرار العدوان الإسرائيلي عزّز سرديّته بأنّ الدولة اللبنانية ما زالت عاجزة، وأنّ الحزب يجب أن يحتفظ بسلاحه بوصفه قوة الردع الفعّالة الوحيدة في البلاد. 

على الرغم من تأكيد المسؤولين الأميركيين دعمهم لتطلّعات لبنان نحو السيادة، فإنّ المساعدات العسكرية التي يقدّمونها للجيش اللبناني ليست كافية لتحقيق ذلك الهدف. وكما هو الحال في برامج الدعم السابقة، فإن الحزم الأمريكية الجديدة موجّهة صراحةً نحو تحقيق الاستقرار الداخلي ونزع سلاح الميليشيات، لا نحو بناء جيش قادر على الاضطلاع بالدور الذي يدّعيه حزب الله في الدفاع عن لبنان في وجه إسرائيل. وكما قال العميد السابق في الجيش اللبناني الدكتور حسن جوني للبديل فإنّ «المساعدات الأميركية قد تُسهم في تحقيق سيادة الدولة، لكنها تبقى في نهاية المطاف وفيةً للمصالح الإسرائيلية، التي تتعارض مع السيادة اللبنانية». 

النفوذ الاقتصادي الأمريكي له حدود واضحة: فليس من المرجّح أن تدفع أيّ درجة من الضغط الأميركي أو الإسرائيلي الجيشَ اللبناني إلى استخدام القوة ضدّ حزب الله.

ربطت الولايات المتحدة أيضاً المساعدات الاقتصادية ومشاريع إعادة الإعمار بتحقيق تقدّم في نزع سلاح حزب الله، ما جعلها تمسك بزمامٍ جديد على الدولة اللبنانية. فبينما كان فيتو حزب الله على قرارات الحكومة يستند إلى القوة الفعلية على الأرض، يعتمد نفوذ واشنطن على القدرة المالية التي تستخدمها لتشكيل قوة أمنية لبنانية مطواعة. هذا النهج يزوّد الجيش اللبناني بالوسائل المادية للتحرك ضدّ الجماعات المسلحة غير الحكومية، لكنه في الوقت نفسه يُرسّخ التبعية الهيكلية للدعم الخارجي ويُعزز الأجندة الأميركية في الحفاظ على اختلال ميزان القوى الإقليمي لمصلحة إسرائيل. غير أنّ حرمان الجيش اللبناني من أي قدرة ردعية تجاه العدوان الإسرائيلي يجعل من الصعب عليه أن يكتسب الشرعية الوطنية التي تؤهّله ليحلّ محلّ حزب الله في موقع المدافع عن الوطن. 

إلا أن النفوذ الاقتصادي الأمريكي له حدود واضحة: فليس من المرجّح أن تدفع أيّ درجة من الضغط الأميركي أو الإسرائيلي الجيشَ اللبناني إلى استخدام القوة ضدّ حزب الله. بصفته مؤسسةً متعدّدة الطوائف حافظت على موقعٍ من الحياد الحذر وسط الانقسامات الطائفية اللبنانية، فإنّ أيّ محاولة من الجيش للتحرك ضدّ حزب الله – وهو حزبٌ شيعي إسلامي بشكل صريح – ستُفضي حتماً إلى انقسام داخلي في صفوفه. ففي عام 2008، رفض الجيش اللبناني تنفيذ أمرٍ صادر عن مجلس الوزراء للتحرك ضدّ حزب الله وحلفائه المسلّحين أثناء سيطرتهم على مناطق من بيروت، ومن المرجّح أنّ أيّ أوامر مشابهة اليوم ستُقابَل بالنتيجة ذاتها. 

  

قرنٌ من السيادة المعلّقة 

مرّ لبنان بهذه التجربة مراراً: فكلّما ضعف راعٍ سارع آخر إلى ملء الفراغ مدّعياً – كما فعل سلفه – الدفاع عن سيادة البلاد، ولكن بشروطه الخاصة. غير أنّ عرض واشنطن اليوم يبدو أشدّ فجاجةً: إذ يُطلب من لبنان تهدئة شعبه في الداخل فيما يظلّ مكشوفاً أمام العدوان الخارجي الإسرائيلي. وفي المقابل توفّر الولايات المتحدة تمويلاً يكفي لإبقاء الدولة وجيشها على قيد العمل. لمثل هذا الترتيب أسماء كثيرة، لكنّ السيادة ليست أحدها. 

إنّ الطريق الحقيقي نحو السيادة الوطنية لا يمرّ فقط عبر تفكيك ترسانات الميليشيات أو استجداء المساعدات، بل يتطلّب ما هو أعمق: التماسك داخلياً والردع خارجياً. السيادة الحقيقية تقتضي أن يكون الجيش اللبناني قادراً على فرض النظام في الداخل وحماية الحدود في الخارج. وحتى يتمكّن لبنان من الجمع بين المهمّتين، ستبقى سيادته منقوصة ومهدَّدة. 

التحدّي وجودي، لكنه ليس ميؤوساً منه. فإن وجود استراتيجية دفاع وطني شاملة تربط بقاء الدولة بالمصلحة العامة، وتُقرَن بضمانات أمنية حقيقية لا مجرّد شعارات، قد يكون بداية ردم الهوّة بين شكل لبنان ووظيفته المعلَّقة منذ زمن. 
يبقى ما إذا كان لبنان قادراً على بلوغ ذلك أمراً غير محسوم، لكن إلى أن يحدث ذلك، ستظلّ سيادته معلّقة بين نزع السلاح والردع، وبين وعد الحكم الذاتي وواقع الوصاية الدائمة. 

المواضيع ذات الصلة