سردية حزب الله: تصريحات حربية لكن بلا حرب

كيف تطورت سردية حزب الله منذ بدء الحرب الأخيرة على غزة؟

فيتوريو ماريسكا دي سيراكابريولا

30 كانون الثاني، 2024

لا يمكن أن نبقى صامتين أمام مثل هذا الانتهاك الخطير“. هكذا قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله مستهلّاً كلامهُ أمام حشود كبيرة من مناصريه في وقت سابق من هذا الشهر. في خطابه هذا، والذي ألقاه في اليوم التالي على اغتيال القيادي والنائب السابق لرئيس المكتب السياسي لحماس صالح العاروري، بغارة إسرائيلية بطائرة مسيرة في الضاحية الجنوبية لبيروت، توعد نصر الله بالانتقام من هذه الضربة. 

تهافتت وسائل الإعلام للتكهن بما قد يعنيه ذلك بالنسبة لانخراط حزب الله في حرب غزة الدائرة. ففي الواقع، ومنذ بدء الصراع في السابع من تشرين الأوّل، جاءت خطابات نصر اللهعلى ندرتهامحطّ جدلٍ وتركيز هائلين للمحللين السياسيين الذين تدافعوا لمعرفة موقف الحزب فيما يتعلق بالحرب ومعطياتها الجارية. 

 إلّا أنّ هذا التكهن قد تجاهل بمعظمه التدفق المنتظم للرسائل التي كان الحزب يرسلها لجمهوره من خلال نوابه في البرلمان وغيرهم من كبار ممثليه. فعلى سبيل المثال، كان النائبان إبراهيم الموسوي وحسين الحاج حسن من بين مسؤولي حزب الله الذين دأبوا على التغريد حول حرب غزة، في الوقت الذي أعطى فيه نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم تعليقاً على ذلك في مقابلة مع NBC News في أوائل نوفمبر 2023. 

ووسط تصاعد التوترات والكم الكبير من البيانات العامّة المترافق معها، فإنّه من الممكن اليوم ملاحظة التطورات المواتية في سردية حزب الله حول الحرب واعتباراته السياسية وسط المشهد الجيوسياسي والعسكري المتقلّب.

جهوزية للحرب  

لا يمكن لأي تحليل سردي لحزب الله أن لا يأخذ في اعتباره السياق المعياري الذي يضع فيه الحزب السياسي-العسكري نفسه بالنسبة لصراعه الطويل الأمد مع إسرائيل: إذ إنّه مقدّر له أن ينتصر وأن يصبح أقوى باستمرار وأن يفرض قوته على إسرائيل بلا هوادة. وقد ظهرت هذه الثقة المعلنة بالنفس ملحوظةَ على الفور في الخطاب الذي أبداه مسؤولو حزب الله في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأوّل، وظهرت فيه سمات التحدّي، التي تشير إلى استعداد الحزب وجهوزيّته لشنّ الحرب 

شهد يوم 7 تشرين الأول تحول الجناح الإعلامي لحزب الله بسرعة إلى وضعية الحرب، مما يمثل تحولاً جذرياً في محتوى وتواتر رسائل الحزب. فوفقاً لقاعدة بيانات البديل لرصد وسائل الإعلام، فإنّ الخطاب العام لحزب الله قبل الشهور الأربعة الأخيرة لبداية الهجوم الذي قادته حماس على إسرائيل، كان متركزاً  بشكل عام حول تسوية لبنان للانتخابات الرئاسية التي طال انتظارها، مع أكثر من 80 تصريحاً وبياناً ذا صلة من قبل مسؤولي الحزب والجهات الإعلامية التابعة له في ذلك الوقت. لكن منذ 7 تشرين الأول تمحور جوهر تصريحات الحزب بشكل كبير حول قضايا الدفاع والأمن، مصحوبة بزيادة كبيرة في وتيرة رسائله، مع الإدلاء بأكثر من 300 بيان حول هذه المواضيع تباعاً حتى لحظة كتابة هذه المقالة 

إنهم يديرون محرّكاً محكماً فيما يتعلق بالإعلام“، صرّح نيكولاس نو، أحد مؤسسي موقع Mideastwire.com ومحرر كتاب صوت حزب الله: تصريحات السيد حسن نصر الله. وأضاف قائلاً: “لقد رأيت تماسكاً وإجماعاً نسبياً في رسائلهم العامة“. 

لم تقتصر هذه التصريحات على نو وحسب، إذ أظهرت تصريحات ممثلي حزب الله السياسيين دعم حماس واصفة الهجوم بأنه ردّ حاسم على استمرار الاحتلال الإسرائيلي وخطوة نحو انتصار المقاومة. وفي تغريدة  للنائب ابراهيم الموسوي في 8 تشرين الأول، قال: ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصاراتما بعد 7 تشرين أول 2023 ليس كما قبله، هذا مفصل تاريخي استراتيجي. اسرائيل لن تستمر كما كانت وكذلك المقاومة ومحورها.” 

في كتابها حزب الله: الدين والسياسة تناقش أمل سعد غريب كيف يدمج الحزب فكرةالعناية الإلهيةفي سرديته، ويستبعد فعلياً أي احتمال لفشل استراتيجي في صراعاته الطويلة. توضح أمل أن مسؤولي حزب الله في تأكيدهم على أن تصرفات الحزب موجهة من اللهيؤطرون مساعيهم على أنها مجزية وناجحة بشكل بديهي، مستخفّين بالجيش الإسرائيلي واعتماده على الدعم الأمريكي. وقد أكد على هذا الرّأي النائب حسين الحاج حسن، الذي صرح في 22 تشرين الأول أن كل الأساطيل والبوارج الحربية والدعم المالي والعسكري لن يرعب المقاومة ولن يفت من عزيمة وثبات المقاومين، وما النصر إلا من عند الله.” 

يعكس فحوى تصريحات الحزب المعضلة الرئيسية التي يواجهها حزب الله، وهي كيفية الرد على الهجمات الإسرائيلية نظرا لتداعيات التورط المباشر.

من ناحية أخرى، علّق دايفيد داوودالزميل في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطياتوالذي يركز في أبحاثه على لبنان وحزب الله بالتحديد، بإنّ أي تصور لضعف حزب الله أو صعود لإسرائيل يمكن أن يهدد أسس الجماعة. ومن هنا جاء قوله بضرورة وجود الحزب وإظهاره لقوته بشكلٍ مستمر ضد إسرائيل خلال طاولة مستديرةٍ كان ضيفاً فيها، في تشرين الثاني. وأضاف أن حزب الله يستمد قوّته والواجهة التي تحميه من خلال إظهار نفسه على أنّه مستعدّ دائماً لمواجهة العدوان الإسرائيلي بالرغم من حرصه على تجنب حربٍ شاملةٍ اليوم. 

 ومن جهته أوضح النائب علي فياض هذه النقطة بكل تجرّد  في 20 تشرين الأول حين صرح أنالمقاومة جاهزة لكل الخيارات الأخرى ومستعدة للتصعيد إلى أعلى المستويات.” 

الرسم البياني 1: تصريحات محور حزب الله (حزيران 2023 - كانون الثاني 2024)

تقاسم العبء 

ترافق التحوّل في الخطاب العام لحزب الله مع تصاعد المخاطر واحتمالية الانخراط المباشر في الحرب، بالتزامن مع الزيادة الكبيرة في التواجد العسكريّ الأمريكيّ في المنطقة. لاحظت ناتالي سمريكار وهي زميلة دكتوراه في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ومتخصصة في تحليل الخطاب السياسي الشيعي، هذا التغيير في مقابلة لها معالبديل؛ أشارت سمريكار إلى تركيز الحزب الجديد على حشد الدّعم الدّوليوهي استراتيجية تشير إليها باعتماداللغة الدبلوماسية.”   

وفي استعادة لدعوة من المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئيطالب سياسيو حزب الله الدول العربية  بأن تفرض حظراً على  كلّ من النفط والغاز على إسرائيل، وحثّها (الدّول العربيّة) على تقديم المساعدات لغزة عبر معبر رفح الحدودي. وفي 22 تشرين الأول صرح النائب محمد رعد، قائلاً: بدلاً من أن يبحث بعض الثرثارين عن دور المقاومة في لبنان في دعم غزة وقضيتها وشعبها، فليطالبوا الأنظمة العربية بإلغاء شرعية التطبيع الحاصل بينها وبين العدو الصهيوني.”

إن هذا الخطاب الذي كان يهدف بلا شكّ إلى إحراج بعض الزعماء العرب بسبب مواقفهم المتقاعسة، كان مقصوداً منه أيضاً إعادة توزيع المسؤوليات. يوضح بشير سعادةالأكاديمي والخبير في شؤون حزب الله أن حزب الله، الذي يواجه خطراً هائلاً يتمثل في حرب شاملة مع إسرائيل، لا يودّ هو أيضاً أن يساهم في تحويل لبنان إلى غزة أخرى. ويشير سعادة إلى أن حزب الله يرى انتصاراً استراتيجياً أكبر في تحييد إسرائيل على الحدود.

ويضيف سعادة: “هناك تحليل متشائم ممكن هنا. يقول بعض الناس لماذا لا يتدخل حزب الله لوقف قتل المدنيين؟ هذا سؤال جيّد، لكن المشكلة هي أنه إذا تدخّل، فهذا من شأنه أن يُسبب مقتل المزيد من المدنيين. إن الأمل الوحيد في تقليل عدد القتلى من المدنيين هو الفوز بشكل غير متكافئ مع إسرائيل، وإيصال إسرائيل إلى النقطة التي تقول فيها: حسناً، لا أستطيع إيقاف حماس، لا أستطيع إيقاف حزب الله، يجب أن أتفاوض وأتوصل إلى تسوية.”

من جهةٍ أخرى، يبدو أن النائب حسين الحاج حسن يعترف بالتفاوت بين خطاب استعداد حزب الله للحرب والتهديد الموازن المتمثل في تعرّض لبنان لقوة عسكرية مدمرة، داعياً جميع الأحرار في العالم، حكومات ومنظمات حقوقية وناشطين وصحفيين وسياسيين، وكل من يستطيع أن يتقدّم بطلب شكوى ضد العدو لارتكابه جرائم حرب وانتهاكات عنصرية، ولجميع الجرائم المرتكبة في غزة.” معترفاً بأنالمقاومة تعتمد على القوة الميدانية وقوة العدالة.”

صحيح أن حزب الله ما يزال في موضع قتالي خطابياً، إلّا أنه يحذرمن المزيد من التصعيد، ويدعو المجتمع الدولي إلى الدّعم والمساندةكما تقول سمريكار. وفي تغريدةٍ للنائب إبراهيم الموسوي في 22 تشرين الثاني صرّح السياسي بأنهيجب إعادة صياغة النّظام الدولي بما لا يتيح لإسرائيل وداعميها من الدّول الغربيّة التي تتدّعي الحضارة أن تكون جزءًا من منظومة المجتمع الدولي، وأن تستمرّ في موقف الدعم الكامل لجرائم إسرائيل من دون الخوف من أي مساءلةٍ ومحاسبةٍ وعقاب.” 

ماذا يخبرنا هذا التغيير في السردية عن حزب الله إذن؟ تكشف هذه التصريحات جميعها عن المعضلة الرئيسة التي يواجهها حزب الله اليوم وهي كيفيّة الرد على الهجمات الإسرائيلية مع النظر في تداعيات التورّط المباشر. مهما كان الرأي الذي يتم تداوله في وسائل الإعلام أو في البيانات السياسية، فهو ليس بأهمية ما ينتجه الواقع العسكرييلخص سعادة المعطيات الحاصلة 

الرسم البياني 2: الجدول الزمني للحرب بين إسرائيل وحماس وتداعياتها الإقليمية منذ 7 أكتوبر

القوت اليومي

بعد مرور أكثر من شهر على الأعمال العسكرية المتبادلة على الحدود الجنوبية للبنان، والتي أدت إلى أضرار اقتصادية كبيرة لسكان المنطقة من حيث الزراعة والبنية التحتية، توسعت رواية المقاومة لتشمل قضاياالقوت اليوميوانشغالات الحياة اليومية مثل التعليم وإعادة الإعمار وتعويض المتضررين من القصف الإسرائيلي في المناطق الواقعة على طول الخط الأزرق. 

تمّ إسناد هذا الخطاب المعدّل جزئياً إلى حليف حزب الله السياسيحركة أملالعضو الأصغر في ما يسمى بـالثنائي الشيعيفي البلاد. فمثلاً، وبتاريخ 1 تشرين الثاني، طالب وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال والمحسوب على حركة أمل عباس الحاج حسن بـتعويض المزارعين المتضررين من القصف الإسرائيلي“. كما أنه أكّد في مقابلة أخرى مع صحيفة الشرق الأوسط، أنالخسارة الكبرى في هذه الحرب كانت لموسم الزيتون مع احتراق أكثر من 53 شجرة معمرة ومن ثم الغابات والمساحات الحرجية والثروة الحيوانية.” 

يحكي جوزيف ضاهر، مؤلف كتاب الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني، رؤيته لهذا الجانب مع موقعالبديل، قائلاً: “يعرف حزب الله أنه معزول سياسياً واجتماعياً إلى حدٍ كبير في لبنان مقارنة بـ 2006، حين حظي بدعم شعبي أوسع بكثير من حيث المقاومة.” ويؤكد على أن سلسلة من الأحداث منذ ذلك الحينبما فيها اشتباكات 7 أيار 2008، وتدخل حزب الله في سوريا ومعارضته لاحتجاجات 17 تشرين الأول 2019 كلها ساهمت في تآكل هذا الدعم الأوسع. 

لقد شهدنا عدة حوادث بين حزب الله وشرائح أخرى من المجتمع من أبرزها حادثة الطيونةالتي تظهر حجم الشرخ الموجود  بحسب ضاهر، الذي أضاف أنه في حين أنالأيديولوجية تلعب دوراً مهماً في خطاب حزب الله، إلا أنها كانت تابعة إلى مسائل ومصالح سياسية أخرى.” 

وفي الوقت الذي تؤدي فيه التوترات على طول الخط الأزرق إلى تفاقم المعاناة في لبنان، فإن خطاب الحزب حول الحرب يتوسع اليوم ليشمل كفاح أنصاره لتدبير أمورهم المعيشية اليومية. وقد جاء في تصريحٍ للنائب حسن فضل الله في 27 تشرين الثاني، ما يلي: “صحيح أننا (في حزب الله) بدأنا بدفع التعويضات، وقمنا بالإحصاءات على المستوى الجنوبي، وبمسح هذه الأضرار (…) وما نقدّمه للمتضررين هو من مال وإمكانيات وجهود (حزب الله).” 

التطلّع نحو المرحلة القادمة

إن الخطاب الذي أدلى به حسن نصرالله  يوم 3 كانون الثاني اكتسب أهمية جديدة في أعقاب اغتيال العاروري. وفي رسائله السياسية أكد نصر الله مراراً أن حزبه لن يتفاوض مع إسرائيل لكبح التوترات على طول الحدود الجنوبية للبنان إلا إذا انتهت الحرب في غزة. إلّا أنهوكما تبيّنلا يمكن تفسير هذه الرسالة ومضامينها إلّا في وضعها في السياق الأوسع لتصريحات الحزب المتتالية منذ السابع من تشرين الأوّل 

إن تطور خطاب الحزب هو شهادة على سعيه الدائم للموازنة بين الأيديولوجيا والبراغماتية، خاصة وأن لبنان دخل في السنة الرابعة من أزمته الاقتصادية وما يزال يتعافى على قدمٍ وساق منذ انفجار مرفأ بيروت في العام 2022. في هذا السياق المليء بالتحديات، يعيش أربعة من كل خمسة لبنانيين في حالة فقر، بينهم 36 بالمئة تحت خط الفقر المدقع. وقد كشف استطلاع أجرته صحيفةالأخباراللبنانية المؤيدة لحزب الله أن 68 بالمئة من اللبنانيين كانوا قد أجابوا بالنّفي على السؤال التالي: “هل تؤيد فتح الجبهة الجنوبية والدخول الفوري في الحرب؟” هكذا إذن، وعلى الرغم من خطابها الحربيّ، فإن قيادة حزب الله تدرك جيداً أن العديد من اللبنانيين ليسوا مستعدين لحرب شاملة. 

تشير هذه السرديّة المتغيّرة حول الحرب إلى أن حزب الله أبعد ما يكون عن كونه كياناً متجانساً. بل كما قال نيكولاس بلانفوردالزميل الكبير والخبير في حزب الله في معهد المجلس الأطلسي بأنّ حزب الله: “ائتلاف وجهات نظر متغيرة“. كما تشير التغيرات المتواترة والفروق الدقيقة في خطاب حزب الله إلى أن الحركة تحتفظ ببراغماتيتها العقلانية، وتغيّر مسار السرديةكما تراه ضرورياً – بالاستناد إلى اعتباراتها الاستراتيجية والسياسية الخاصّة. أما في الوقت الراهن، فيبدو أن حزب الله يرى أن مخاطر الحرب مرتفعةٌ للغاية، ويسعى إلى السيطرة على الأمور وإبقاءها وفق صورتها الحاليّة 

المواضيع ذات الصلة