إحياءُ المقاومة وتجدّدها: زخمٌ مكتسبٌ لـ حركة مقاطعة إسرائيل في أعقاب الإبادة الجماعيّة في غزة

رغم محاولات إسكات الناشطين، الدعم لفلسطين ينمو ويتنشر

بقلم بنجامين فيف

25 آذار، 2024

ملخص تنفيّذي

منذ السابع من تشرين الأوّل 2023 حتى يومنا الحاليّ لم يعد ممكناً تجاهل المعطيات التي تكشفها التحولات الجذرية في النشاط الدّاعم لفلسطين. إنّ هذا النشاط الداعم ليس ردة فعلٍ لحظية على حرب غزّة وحسب بل هو أيضاً إعادة تنظيمٍ أوسعٍ للمسألة في التصور العالمي والتعامل مع الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. تكشف موجة الدعم الكبيرة – الواضحة بشكل خاص في الغرب – عن خطاب متطوّر، واحدٌ يتجاوز الحدود الأيديولوجية التقليدية ويتردد صداه بنطاق أوسع مع السكان وفيهم، مدفوعاً بالمطلب المشترك لتحقيق العدالة وحقوق الإنسان في المنطقة.

 

إن الآثار المترتبة عن هذا التحول عميقةٌ ومتعددة الأوجه. إذ إنّ السخط المتزايد والنقد اللاذع لسياسات الدول تجاه إسرائيل – خاصةً بين الفئات السكانية الشابة وبعض الفصائل السياسية – قد يكون قادراً على إعادة توجيه السياسات مستقبلاً، سواءً في الولايات المتحدة أو على المستوى الدولي.

 

لكنّ هذا وحده ليس كافياً. إنّ رحلة الناشطين الداعمين لفلسطين – لا سيما من خلال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) والمبادرات الشعبية التابعة لها – ما تزال عرضةً للكثير من التعقيدات والتحديات. وعلى الرغم من الزيادة الملحوظة في التحركات الجماعية وإنشاء هياكل تنظيمية قوية، فإن التأثير الفعلي على أرض الواقع ما يزال متواضعاً. يرجع ذلك في المقام الأول إلى العلاقات السياسية والاقتصادية المعقدة بين إسرائيل والغرب، والعقبات القانونية، والتأييد المستمرّ لإسرائيل في الخطاب الغربي السائد.

ومع هذا فإنه لا يمكن تجاهل التطورات الأخيرة في النشاط الداعم لفلسطين أو القول بانعدام جدوى التحركات المندرجة فيه. إنّ تشكل الشبكات المحلية والإقليمية والوطنية، وإشراك شرائح ديموغرافية متنوعة، فضلاً عن الحالات الناجحة للمقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل – على الرغم من محدوديتها – تشير جميعها إلى تحولٍ بطيء ولكن مستمرّ في النظر إلى الأمور. كما يبدو واضحاً أنّ هذه الجهود القائمة لا تؤدي إلى تضخيم التكلفة التي تتحملها الكيانات المتعاملة مع إسرائيل فحسب، بل إنها تخلق أيضاً ساحة أكبر للمناصرة والخطاب الداعم للفلسطينيين.

صحيح إذن أنّ الطريق إلى نشاط هادفٍ ومؤثرٍ مؤيدٍ لفلسطين ما يزال مليئاً بالعقبات، إلّا إنّ التطورات الأخيرة تشير إلى تحول نموذجي في الوعي العالمي. وعلى هذا النحو، فإن هذه التغييرات – رغم أنّها ما تزال في طور الولادة – تمثّل بمجملها حركةً مزدهرة تحمل في طيّتها إمكانية إحداث تأثير كبير على المدى الطويل.

 

الدعم لفلسطين ينمو بشكل عميق وموسّع

أعقبت حرب غزة تحولاتٌ “كميّة ونوعية” ملحوظة في التضامن مع فلسطين في الغرب – وفقاً لما ذكره ساي إنجليرت – المحاضر في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط في جامعة لايدن في هولندا. تمثّل الدليل الأكثر وضوحاً في المظاهراتالحاشدة التي اندلعت منذ 7 تشرين الأول. إذ شهدت الولايات المتحدة أكبر مظاهراتها الداعمة لفلسطين في تاريخ البلاد بينما وصفت الاحتجاجات في المملكة المتحدة بأنها الأكبر منذ تلك التي اندلعت ضد غزو العراق عام 2003. وفي باريس, وروما, ومدريد، كما في العديد من المدن الأخرى في جميع أنحاء الغرب شهدت جميع هذه الأماكن هي أيضاً مسيراتٍ كبيرة تأييداً لحقوق الشعب الفلسطيني.

وقد ساعدت استطلاعات الرأي التي – تمّ العمل عليها في الأشهر الأخيرة – في قياس هذا التعاطف العام المتزايد مع الفلسطينيين. أوضح الاستطلاع الأولي الذي أجرته مجلة الإيكونوميست ويوجوف بين 8 و 10 تشرين الأول أن 9% من الأميركيين كانوا متعاطفين مع فلسطين، لترتفع هذه النسبة إلى 17% في آذار 2024. وخلال الفترة نفسها، انخفض التأييد لإسرائيل من 42% إلى 32%. وبالمثل، ارتفعت نسبة الذين يصرّحون بأنهم يدعمون الجانب الفلسطيني في بريطانيا من 15% إلى 28% بين .9 تشرين الأول و 8 آذارلا تزال هذه الأرقامُ منخفضةً نسبياً، إلّا إنّ المشاعر الإيجابية تجاه الفلسطينيين هي أقوى بكثيرٍ بين شرائح محددة من السكان مثل: المشاركين (الدّاعمين) الأصغر سناً، الأقليّات العرقيّة والأشخاص ذوو التوجهات الليبرالية

«شملت هذه «النقلة النوعية» شخصياتٍ بارزةً ومؤثرةً أعربت عن دعمها لفلسطين. ... الأمر الذي أدى إلى خلق نطاقٍ واسع من الدعم يتجاوز الحدود الإيديولوجية التقليدية.»

ففي الولايات المتحدة أظهرت استطلاعات الرأي المنجزة في شهر آذار أن المشاركين الذين تراوحت أعمارهم بين 18 و29 عاماً كانوا أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين – 27% مقابل 17%. وتنعكس حقيقة هذه الإحصائية في الاحتجاجات المتكررة في الجامعات.كما أظهرت مجموعاتٌ أخرى تعاطفاً أكبر مع الفلسطينيين (من السابق) مثل بعض الجماعات أي حزب الديمقراطيين (25% مقابل 19%) والليبراليين (35% مقابل 16%). أما في جانب البريطانيين يلاحظ أنّ 47% ممّن استجابوا لاستطلاعات الرأي كانوا من الفئة العمريّة المتراوحة بين 18 إلى 24 سنة وكانوا بأغلبهم يتعاطفون مع الفلسطينيين مقابل 9% ممن كانوا مؤيدينَ لإسرائيل. بينما يدعم 48% من أعضاء حزب العمل القضية الفلسطينية (انظر الشكل 1 أدناه).

الشكل 1: التعاطف المؤيد للفلسطينيين والمؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة.

شملت هذه “النقلة النوعية” شخصياتٍ بارزةً ومؤثرةً أعربت عن دعمها لفلسطين. فعلى سبيل المثال، يشير إنجلرت إلى أن “الأشخاص داخل الخدمة المدنية – مثل موظفي الدولة – قد بدأوا بأشكال من العصيان، حتى بدأ بعضهم يستقيل أيضاً”.

ومن بين الأمثلة الأخرى السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز الذي شكك في المساعدات غير المشروطة المقدمة لإسرائيل، والسيناتور الأمريكية إليزابيث وارن التي أعلنت هي نفسها أنه: “لا يجب الاستمرار في تقديم الشيكات الفارغة لنتنياهو“. الأمرُ نفسه ينطبق على المدير السابق لوزارة الخارجية جوش بول الذي استقال عقب تسليم الأسلحة إلى الدولة اليهودية، كما استقال كريغ مخيبر مدير مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في نيويورك. وفي إسبانيا، علقت بلدية برشلونة علاقاتها مع إسرائيل بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان، كما دعت وزيرة الحقوق الاجتماعية إيوني بيلارا الاتحاد الأوروبي لمعاقبة إسرائيل. وكانت آخر ردات الفعل هذه ما قام به رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الذي أعلن في 9 آذار 2024 أنه سيقترح اعتراف البرلمان الإسباني بالدولة الفلسطينية. وفي أيرلندا أعلن رئيس الوزراء ليو فارادكار أيضاً أن حكومته ستؤيد الاعتراف بدولة فلسطين. وفي هولندا أصدرت محكمة هولندية حكماً ضد الحكومة وأمرتها بوقف تسليم قطع غيار الطائرات المقاتلة من طراز F-35 التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي. وفي فرنسا أعربت وزارة الخارجية عن الإحباط من تعامل الرئيس الفرنسي مع الحرب الدائرة.

ونتيجة لهذا فقد تم تعميم القضية الفلسطينية، التي كان يُنظر إليها غالباً باعتبارها قضية هامشية في السياسة الغربية – في الاتجاه السائد – الأمر الذي أدى إلى خلق نطاقٍ واسع من الدعم يتجاوز الحدود الإيديولوجية التقليدية.

ارتفاع زخم حركة المقاطعة (BDS) وردود الفعل العنيفة

تأسست حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عام 2005، بهدف ممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي على إسرائيل لإعادة النظر في سياسات الاضطهاد والفصل العنصري التي تنتهجها تجاه الفلسطينيين. يتضمن جانب المقاطعة قيام المستهلكين بتجنب المنتجات والخدمات المرتبطة بإسرائيل، أما إجراءات سحب الاستثمارات فتعني دفع المؤسسات والشركات إلى سحب استثماراتها من إسرائيل. وتهدف جهود العقوبات إلى الضغط على الحكومات لفرض قيود اقتصادية وسياسية على إسرائيل لردعها.

لقد حققت حركة المقاطعة (BDS) العديد من النجاحات حتى قبل السابع من تشرين الأوّل 2023. إذ كانت حملاتها المستهدفة قد أدت إلى خروج شركات متعددة الجنسيات مثل Veolia وOrange وG4S وجنرال ميلز وCRH من السوق الإسرائيلية. كما هي الحال مع بنك إتش إس بي سي وصندوق الثروة السيادية النرويجي اللذان سحبا استثماراتهما من شركة إلبيت – أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في إسرائيل. إلّا إنّ هذه الشركات والمؤسسات المعنية تشير دورياً إلى المخاوف التجارية أو التنظيمية باعتبارها الدافع الأوّل وراء قراراتها . في حالةٍ مماثلة يبدو صعباً قياس مدى تأثير حملات المقاطعة على قرارات مجالس إدارة هذه الشركات في سحب استثماراتها. فمثلاً، حتى عندما صرحت شركة NSWF علناً بأن دور شركة “إلبيت” في تأمين المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية دفعها إلى سحب استثماراتها، إلّا إن هذا الإعلان لم يشر بصراحةٍ إلى حركة المقاطعة.

ومع استمرار القوات الإسرائيلية بتدمير قطاع غزة عسكرياً في الأشهر التي تلت عملية فيضان الأقصى، تزايد الزخم الشعبي في الغرب للمطالبة بالانفصال عن إسرائيل تجارياً ومالياً. فعلى سبيل المثال، قام عدد من صناديق التقاعد العالمية بسحب استثماراتهم الإسرائيلية، فيما ساهم قيام صندوق التقاعد النرويجي ببيع ما يقارب نصف مليار دولار من سندات الحكومة الإسرائيلية لوكالة “موديز” بخفض التصنيف الائتماني لإسرائيل لأول مرة في تاريخها في شباط من هذا العام بحسب ناشطين في منظّمة “الصّوت اليهودي من أجل السّلام”. من الصعب إذن تحديد طبيعة العلاقات الناشئة بين الشركات وردود أفعالها، والجزم حقيقةً بما إذا كانت هذه التحركات قد استندت فعلاً إلى حسابات تجارية مفادها أن الدولة التي تخوض حرباً ليست بيئة آمنة للاستثمار، أو إذا كانت مرتبطة بالمخاطر الأخلاقية أو الضرر لسمعة الشركات؛ إذا تم اعتبارها شريكة بتمويل المذبحة التي ترتكبها إسرائيل ضد سكان غزة وسياسات الفصل العنصري في الضفة الغربية – أو ربما مزيج من الاثنين معاً.

وإذا كانت الدوافع غير واضحة ههنا، فإنّه يمكن تحديدها في حالات أخرى. ففي شباط 2024 قامت الحكومة الطلابية في جامعة كاليفورنيا – ديفيس بالتصويت على حظر وتقييد جميع ميزانيتها (البالغة 20 مليون دولار) من الإنفاق على “شركات متواطئة في الاحتلال والإبادة الجماعية” أي شركات مثل ماكدونالدز، وشركة الحمص الأمريكية “صبرا” وستاربكس وإير بي إن بي وديزني وشيفرون.

وعلى وجه الخصوص، أصبحت شركة ستاربكس رمزاً لحركة المقاطعة بعد أن رفع مجلس إدارة الشركة دعوى قضائية ضد “نقابة عمال ستاربكس المتحدة” التي تضم حوالي 360 متجراً و9000 موظف، بسبب منشور على X (تويتر سابقاً) في 9 تشرين الأول أعرب عن “التضامن مع فلسطين“. كما وأصبحت ماكدونالدز هدفاً للمقاطعة بعد أن أعلنت الشركة التابعة لها في إسرائيل تقدمة آلاف الوجبات المجانية إلى عناصر جيش الدفاع الإسرائيلي. إلاّ إنّ للمحللين رأيٌ آخر، إذ يعتبرون أنّ حملة المقاطعة ضد ستاربكس لم تلقَ سوى نجاح ضئيل التأثير. وهذا ما عززته تقارير لاحقة تفيد بأن “مجموعة الشايع” وكيلة ستاربكس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كانت تخطط لخفض 4% من قوتها العاملة في جميع أنحاء المنطقة “نتيجة للظروف التجارية الصعبة خلال الأشهر الستة الماضية.” وفي نفس الوقت أبلغت ماكدونالدز عن تأثير سلبي “ملموس” على أعمالها في الشرق الأوسط، على الرغم من أن المنطقة لا تشكل سوى 5% من أعمال الشركة العالمية. 

لم تأت هذه الجهود وحدها، إذ اتخذ عدد متزايد من النقابات العمالية على مستوى العالم خطواتٍ تابعةٍ لإعلان تضامنهم مع فلسطين. وشمل ذلك عمال الموانئ في دولٍ مثل الولايات المتحدة وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا واليونان ممن رفضوا التعامل مع المعدّات العسكرية المتجهة إلى إسرائيل. وفي الشهر الماضي في الهند رفض العمال في 11 ميناء التعامل مع أي سفن شحن تنقل الأسلحة إلى إسرائيل بناء على اقتراحٍ من أحد كبرى النقابات العمالية في البلاد. لم يقتصر الأمر على العمّال في الموانئ وحسب، ففي القطاع التعليميّ أيضاً كان عدد كبير من الأكاديميين قد دعا إلى قيام مؤسساتهم بقطع علاقتها مع الجهات الأكاديمية الإسرائيلية في ظل الصراع المتصاعد في غزة.

من جهةٍ أخرى حاول بعض المشرّعين الأمريكيين والأوروبيين درء الانتقادات العامة مؤقتاً من خلال فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين المتطرّفين في الضفة الغربية. على الرّغم من أنّ الضغوط الدولية المفروضة على الدولة الإسرائيلية ما تزال غير مستساغة سياسياً بالنسبة لمعظم الحكومات الغربية.

بناء شبكات مقاومة وسط ردود الفعل العنيفة

على الرغم من الدعم المتزايد لأهداف حركة المقاطعة، إلا أنها لم تثبت فعاليتها في ردع إسرائيل عن هجومها الدموي على غزة – والذي وصفته محكمة العدل الدولية بأنه يشكل إبادة جماعية. كما أن التضامن المتزايد الداعم للفلسطينيين لم يدفع أقوى حلفاء إسرائيل – الولايات المتحدة – إلى الامتناع عن الاستمرار في تزويد الحملة الإسرائيلية بالسلاح ولا عن استخدام حق النقضّ على قرارات مجلس الأمن التي دعت إلى وقف إطلاق النار.

إنّ نظرةٍ سريعةٍ على تاريخ حركة المقاطعة يكشف التحديات الطويلة التي واجهتها منذ تشكلها، إذ سعى صنّاع السياسة الغربيون إلى مواجهة حركة المقاطعة بشكل مباشر لسنواتٍ طويلة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، ومنذ عام 2014، تم طرح ما يقرب من 300 مشروع قانون في مختلف الولايات الأمريكية لمحاولة الحدّ من التحركات المتعلقة بحركة المقاطعة. واعتباراً من آذار 2024 تمّ إقرار من هذه القوانين في 38 ولاية أمريكية، وبالمثل فقد حاول المشرعون في المملكة المتحدة تقويض النشاط القائم حول مقاطعة إسرئيل.

إن الموقف التشريعي، إلى جانب الحملات العامّة التي تصنف أنصار حركة المقاطعة على أنهم معادون للسامية، قد عزز مناخاً عدائياً وردع الحلفاء المحتملين وألقى بظلالٍ من الشك على نوايا الحركة وشرعيتها، وبالتالي أثر على فعاليتها وانتشارها. ولم يسلم حتّى الطلاب والأكاديميين الذين تظاهروا من أجل فلسطين، إذ أصبحوا هم أيضاً – في الكثير من الأوقات – أهدافاً للانتقام في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا.

لا يمكن عدم الاعتراف بالنشاط المتصاعد الدّاعم لفلسطين في ظلّ هذه السياقات المتناحرة إلّا أنه ما يزال ضئلاً نسبياً مقابل دعم إسرائيل الأكثر رواجاً في المجتمعات الغربية. ويتجلى هذا التفاوت في الرأيّ العام والتمثيل الإعلامي والخطاب السياسي، مما يحدّ من فعالية الدعوة والمناصرة للفلسطينيين في هذه المجالات.

ومع ذلك فقد أتاحت التعبئة الشعبية الحالية فرصة للناس لأن ينتظموا محلياً ووطنياً ودولياً. وكما يشير إنجلرت: “قام النشطاء بإنشاء هياكل تنظيمية قوية، مثل اللجان والشبكات، والتي لا تعزز أسساً متينة للمناصرة فقط، بل توفر أيضاً منفذاً بنّاءً للناس للتعبير عن مخاوفهم والمشاركة بنشاط في الحركة.”

اتخذ عددمتزايد من النقابات العمالية على مستوى العالم خطواتٍ تابعةٍ لإعلان تضامنهم مع فلسطين. وشمل ذلك عمال الموانئ في دولٍ مثل الولايات المتحدة وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا ممن رفضوا التعامل مع المعدات العسكريةالمتجهة إلى إسرائيل

ليست هذه الحالات فريدةً من نوعها، إذ لطالما رافقت التصعيدات السابقة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي تعبئةٌ متزايدة على الصعيد الشعبي. يقول سامي هرمز – الأستاذ المشارك في الأنثروبولوجيا بجامعة نورث وسترن في قطر: “الحروب على غزة، مثل تلك التي اندلعت في الأعوام 2021 و2018 و2014، تثير دوماً زيادة في النشاط السياسي.” ويضيف أن هذا يجذب “أفراداً جدد ومتحمسين إلى حركة المقاطعة، مدفوعين بالحاجة الملحة للمساهمة في التغيير.” وفي الأوساط الأكاديمية والثقافية، ساعد الذين تم حشدهم سابقاً في ضمّ المنخرطين حديثاً في النضال الفلسطيني. وعلى الرّغم من تماشي الشرائح الاجتماعية الداعمة للفلسطينيين مع أيديولوجية حركة المقاطعة وإطارها، إلا أنها لا ترتبط بها بشكل صريح، مما يساعد على عزلها وأعضائها عن المخاطر القانونية أو المخاطر المتعلقة بالسّمعة.

وتتجلى أهمية التحولات الكمية والنوعية في السياق الغربي اليوم والذي يشهد – بحسب جوزيف ضاهر المؤلف والأكاديمي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط – تنامي الشعبوية اليمينية التي “تصطف تقليدياً ضد التضامن الفلسطيني بأوسع أشكاله.”

لا ينبغي إذن النظر إلى تحقيق الأهداف التي طرحتها حركة المقاطعة على أنّها أهداف مطلقة. إذ يرى إنجلرت أنه “من المفاهيم الخاطئة الاعتقاد بأن حركة المقاطعة ستوقف الحرب بشكل مباشر أو ستنهي المشروع الاستعماري في فلسطين”؛ إلا أن “الفعالية الحقيقية للحركة تكمنُ في تصعيد التكلفة التي تتحملها الشركات والمؤسسات والحكومات المتعاملة مع إسرائيل” وهو ما يؤدي بدوره إلى تضخيم “الضغط من أجل التغيير وفتح مساحة أكبر للقرار الفلسطيني.”

وبهذا المعنى فإن التكاليف التي من الممكن أن يتحمّلها الغرب بسبب حرب غزة قد تكون باهظةً. وفي حين لا يزال من الصعب تقييم التكلفة الاقتصادية المرتبطة بنشاط حركة المقاطعة، إلّا إنّ الثمن السياسيّ قد بدأ يتضح منذ الآن. فقد ساهم السخط المتزايد بين قطاعات كبيرة من الناخبين الديمقراطيين في تعزيز مشاعر القلق لجهة إدارة بايدن بشأن إعادة انتخاب الرئيس في تشرين الثاني 2024 حيث يعتبر نصف الشباب الأميركي أنّ ما يحدث في غزةَ إبادة جماعية، ومثلهم الأعضاء المنتسبون إلى الحزب الديمقراطي.

التطلع قدماً

في حديثٍ له أخيراً، أكّد عمر البرغوثي – أحد مؤسسي حركة المقاطعة – على ضرورة العمل الجماعي بكل الطرق المتاحة. وأشار خصوصاً إلى الحاجة إلى تعطيل عقلية “العمل كالمعتاد” في مؤسسات الدولة والشركات والمؤسسات الثقافية المتواطئة، وتصعيد حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات ضد أهدافٍ مختارة استراتيجياً، بدلاً من ملاحقة القائمة التي لا نهاية لها من الشركات المتواطئة مع إسرائيل. ودعا البرغوثي كذلك إلى الضغط على الحكومات لتطبيق عقوباتٍ قانونيةٍ على إسرائيل وتغيير الخطاب السائد في الغرب من خلال التواصل الحثيث والحشد الأخلاقي. كما شدد على ضرورة بناء “قوة شعبية” تقدمية ومتقاطعة لإحداث تغيير في السياسات، مؤكداً أن التغيير الحقيقي يتجاوز الحجج القانونية والأخلاقية ويتطلب جمهوراً قوياً ومجهزاً لتحقيق أهداف العدالة الاجتماعية والعرقية والقومية.

إنّ كل هذه المحاولات الداعمة تتطلب عمليةً متآلفة من التنمية والتعزيز بين شبكات التضامن والعمل. ومن الضروري تشجيعُ الأفراد والجماعات المتعاطفة مع القضية الفلسطينية على إنشاء أو الانضمام إلى دوائر دعم المقاطعة المحلية. إنّ لهذه التّجمعات دورٌ محوريّ في تعزيز الشعور بالتضامن، ومشاركة الأفكار القيّمة، وتنظيم حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات بشكل محلّي ومنسّق. كما تكمن قوة هذه الشبكات في قدرتها على جمع الأصوات والموارد المتنوعة، وخلق قوة موحدة للدفاع عن القضية الفلسطينية.

مــن المهــّم مواجهة المفاهيم الخاطئة، وتعزيز الصورة الإيجابية لحركة المقاطعة

على هذه الجهود أيضاً أن تمتدّ إلى ما هو أبعد من المبادرات الشعبية، إذ ينبغي أن تشمل أيضاً القطاعات المهنية مثل نقابات العمال، والأوساط الأكاديمية والثقافية، والخدمة العامة (أي موظفي الحكومات) كما نوقش أعلاه. تلعب هذه الشبكات المهنية دوراً محورياً في تضخيم تأثير الحركة لأنها قوة دمجٍ عمودي في المجتمع. لهذا فإنّ التآزر بين هذه الشبكات المهنية والمبادرات الشعبية يخلق قوة متعددة الأوجه، مما يعزز وصول التحركات الجماعية وفعاليتها. ومع هذا فإنّ أخذ الحذر واجبٌ، إذ يشير هرمز إلى اعتبارٍ رئيسيّ وهو “التأكد من أن شبكات الحركة آمنة وغير مخترقة، وهو أمر سيحاول الإسرائيليون استغلاله” مما يجعل “الارتفاع الهائل في عدد المؤيدين تحدياً وفرصة في نفس الوقت.”

أما الخطوة الحاسمة الأخرى فيجب أن تصبّ في تمكين القادمين الجدد وتحسين الجهود الجماعية. إذ من الضروري اليوم توفير التوجيه والموارد الشاملة لتعريف المؤيدين الجدد إلى أهداف الحركة ومنهجياتها. وهنا يصبح دور الشبكات الراسخة حاسماً. ففي حين أن اللجان الوطنية لحركة المقاطعة تقدم بالفعل توجيهاتٍ جوهرية، فإن الواقع هو أن الأفراد الذين يسعون إلى الانخراط في الحركة يأتون من خلفيات متنوعة وفريدة. وبالتالي فمن غير الكافي اتخاذ “نهج واحد يناسب الجميع”. فعلى سبيل المثال، يعمل الطلاب والعاملون والأكاديميون في بيئاتٍ مختلفة ويمتلكون درجات متفاوتة من التأثير والموارد، ولذلك يجب تشجيعهم على بذل جهودٍ متميزة عن بعضها لكنها متماسكة ومتكاملة مع بعضها البعض في الآن نفسه.

هذا مهمٌ بشكل خاص نظراً إلى أن القادمين الجدد، الذين من المحتمل أن يكونوا عديمي الخبرة في التعبئة السياسية، عرضة لخلق المزيد من الفوضى بدلاً من المشاركة في التنظيم. إذ إنّ الأفراد المندفعين على القيام بأي شيء كان، قد يبدؤون – على سبيل المثال – بتوزيع قوائمَ طويلةٍ للشركات المتواطئة في سلوكيات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ومن المحتمل أن تشمل هذه القوائم مئات الأسماء. إلا أن “قوائم المقاطعة” هذه – والتي ظهرت حقاً في أعقاب حرب غزة رغم حسن نيتها – قد تسبب الإرباك بسبب طولها وتوسعها، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية بالنسبة للقادمين الجدد. ووفقاً لهرمز فقد سبق وأن حرّفت بعض هذه القوائم الموسعة للشركات التي يمكن مقاطعتها، التركيزَ عن الأهداف الاستراتيجية المحددة للحركة، والتي تتضمن شركات وكيانات معروفة بتواطؤها المباشر في السياسات الإسرائيلية.

 

تتمثّل الخطوة الأخرى في بناء علاقات قوية مع حركات العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان في العالم. إن تحديد الحركات التي لها أهداف متداخلة والتوافق معها – مثل حركات مناهضة العنصرية وحرية التعبير – يخلقُ جبهةً موحدة لمواجهة تحديات مشتركة. إن إقامة الحوار والتفاهم المتبادل هو أمرٌ في بالغ الأهمية لأنه يرسي الأسس المركزيّة للعمل التعاوني. وهذا ما يساهم في تعاونها وتكاتفها، إذ من خلال إدراك الترابط بين نضالاتها، تستطيع هذه الحركات المتنوعة تجميع مواردها، وتقاسم الاستراتيجيات، وتضخيم صوتها الجماعي. وهذا كلّه من جملة الأمور التي صرّح بها عمر البرغوثي، في مقابلته الأخيرة والذي أبرز أن مناهضي حركة المقاطعة “متداخلون جداً وكلهم متحدون ضدنا، فيجب بالتالي على حركات الأقليات أن تتواصل وتتحد وتكشف الظلم الذي يربطنا. إنها ليست مجرّد قضية أخلاقية مبدئية؛ إنها فكرة عملية. نحن بحاجة لبعضنا البعض لتحقيق النجاح لأن أعداءنا أقوياء للغاية.”

تلعب المبادرات والحملات المشتركة دوراً أساسياً في هذا الجهد التعاوني. إذ يمكن للناشطين الداعمين لفلسطين أن يتعاونوا مع الجماعات التي تحارب العنصرية النظامية لتسليط الضوء على أوجه التشابه بين نضالاتهم، مثل التمييز والتنميط والقمع العسكري. إنّ تنظيم الاحتجاجات المشتركة وحملات التوعية وورش العمل التعليمية يمكن أن يلفت الانتباه بشكل فعال إلى هذه القضايا المشتركة. ومن الممكن أن يؤدي هذا النّهج إلى زيادة وضوح وتأثير الحركات المعنية، وأن يسهم أيضاً في تثقيف وإشراك جمهور أوسع، مما يعزز فهماً أعمق للترابط بين قضاياها.

إنّه لمن الضروري اليوم أيضاًَ التأكيد على أهميّة التواصل الفعال ومعالجة الخطاب حول النشاط المناصر لفلسطين. ويجب أن يشمل ذلك التواصل الاستراتيجي والتعليم والشفافية. تتمثل هذه الاستراتيجيات في التالي:

أولّا: من الجوهري أن تبذل جهود واضحة لتثقيف الجمهور حول أسباب اتخاذ الإجراءات واختيار التحركات والنهج والاستراتيجيات. وفي سياق المقاطعة، ينبغي التركيز على تثقيف الجمهور حول مقاطعة شركات معينة والأثر المتوقع لهذه الإجراءات.

ثانياً: من المهمّ مواجهة المفاهيم الخاطئة، وتعزيز الصورة الإيجابية لحركة المقاطعةمع التأكيد على أن الحركة متركزة حول حقوق الإنسان والقانون الدولي والمسارات الأخلاقية للنضال. وبناءً على الحاجة إلى خلق تقاطعات بين المجموعات التي تناضل من أجل العدالة الاجتماعية، فإن الحفاظ على صورة إيجابية للحركة يستلزم التعاون مع المنظمات التي تدعم حقوق الإنسان وتعارض السياسات غير العادلة، بغض النظر عن خلفيتها الدينية أو الثقافية.  كما يجب صياغة جميع تصريحات حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بعناية للتأكد من أنها “لا تعطي ذريعة إضافية للقمع”، كما أكد عمر البرغوثي. 

ثالثاً: إن تطوير آليات قوية لتقييم مدى فعالية حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات من شأنه أن يمكّن الحركة من تتبع تطورها وتحسين استراتيجياتها. إذ إنّ إنشاء أنظمة لرصد التأثير المالي للمقاطعة، والتغيرات في الرأي العام، والتحولات في السياسات المؤسسية لأمر شديد الأهميّة اليوم. كما إن التعاون مع المؤسسات البحثية لتحليل اتجاهات السوق وسلوك المستهلك، وتوصيل هذه البيانات بشفافية، سيؤدي تبعاً إلى بناء الثقة وإظهار المساءلة والإحساس بالتأثير الملموس لجهود الحركة. 

المواضيع ذات الصلة