منصة صيرفة: توزيع الثروة والفتات لشراء الوقت

"أداة نقدية ضعيفة وغير فعالة"

جوناثان كول

14 حزيران، 2023

تعد منصة صيرفة الأداة الأساسية التي يستخدمها المصرف المركزي للتدخل في سوق العملات. حين تواجه العملة الوطنية مأزقاً وتنهار قيمتها، يتدخل المركزي عبر منصة صيرفة لإنقاذ الوضع عبر ضخ دولارات في السوق للحفاظ على استقرار في سعر الصرف وإنقاذ اللبنانيين من تدهور العملة والتضخم. هذه هي السردية التي أراد المركزي تثبيتها في الأذهان، ونظراً إلى تمكن المركزي من إحاطة المنصة، وطريقة عملها بكثير من الغموض فإنه جعل إمكانية دحض هذه السردية أكثر صعوبة.

لكن المعلومات والمؤشرات المتوفرة تقدم رواية مختلفة تماماً، فقد أعلن مصرف لبنان المركزي منذ بداية عام 2022 عن ست تدخلات أساسية في سوق العملات مستخدماً منصة الصيرفة، وكان لها تأثير محدود على سعر صرف السوق، باستثناء التدخل الأحدث في آذار (مارس) 2023. في الواقع، يتبيّن أن وظيفة منصة صيرفة الأساسي هي توفير نوع مستحدث من “الدعم” تستفيد منه بشكل أساسي المصارف، بالإضافة إلى المستوردين والأثرياء عبر بيعهم دولارات “مدعومة” من المركزي مقارنة بسعر السوق الموازي، ثم السماح لهم بالاستفادة من الفرق لتحقيق الأرباح، وبحسب المؤشرات والمعلومات المتوفرة يبدو أن معظم الأموال التي يتم تداولها على منصة صيرفة تصب في هذا الإطار.

لقد تآكلت معها الرواتب والأجور بالليرة اللبنانية منذ انهيار قيمة العملة الوطنية في عام 2019، وقد أدى ذلك إلى تلاشي قدرة السلطة السياسية للحفاظ على تماسك قبضتها المتحكمة بالقطاع العام. هنا أتى دور عبر السماح للموظفين العاملين في القطاع الحكومي بسحب رواتبهم بالدولار على سعر منصة صيرفة لتكون بمثابة داعم مالي لهم، لكن قيمة المبلغ الذي يستفيد منه العاملين في القطاع العام يعد ضئيلاً مقارنة بحجم التداول على المنصة. وعلى الرغم من تأمين “الدعم” الذي يوفره المركزي لهذه الشريحة سنداً للموظفين العامين، فإنه خفف أيضاً من الضغط الذي تواجهه السلطة السياسية من شريحة تعد جزءاً أساسياً من قاعدتها الشعبية.

في الشرح التالي، يحلل موقع “البديل” طريقة عمل منصة صيرفة الشهيرة، ويفند عدداً من المغالطات التي تحيط بها:

المركزي.. جلاد الليرة وحاميها

استقر سعر صرف الدولار الأميركي تجاه الليرة اللبنانية عند مستوى يتراوح ما بين 97 ألف و94 ألف ليرة لبنانية خلال شهري نيسان (أبريل) وأيار (مايو) الماضيين، وعكس ذلك في الشكل على الأقل قدرة لدى المصرف المركزي بالسيطرة على تقلبات سعر الصرف وإبقاءه تحت السيطرة. وجاءت هذه الفترة من الاستقرار النسبي بعد إعلان المصرف المركزي أنه سيبدأ بيع عدد غير محدود من الدولارات الجديدة لدعم الليرة بعد انخفاض حاد في قيمتها في شهر آذار (مارس) حين وصل سعر الدولار إلى 141 ألف ليرة لبنانية.

وقام المصرف المركزي بضخ الدولارات في السوق بنفس الطريقة التي اعتمدها أكثر من مرة في السابق منذ بداية عام 2022 (خمس تدخلات)، على الرغم من أن التدخلات السابقة لم تحقق نجاحاً مقارنة بالتدخل الأخير، وعليه يمكن اعتبار المنصة “أداة نقدية ضعيفة وغير فعالة”، كما وصفها البنك الدولي في تقرير حديث، مع وجود ترابط ضعيف بشكل عام، بين التدخلات وسعر الصرف.

أنشأ المصرف المركزي منصة الدفع الإلكترونية داخلياً في عام 2020، وقام بتوسيع نطاقها بين شهري أيار (مايو) وآب (أغسطس) 2021، ووجه المصارف التجارية بإجراء معاملاتها بالعملات الأجنبية حصراً عبر منصة صيرفة. كما منح المركزي وبشكل مستغرب بالإضافة إلى العاملين في القطاع العام لاعبين كبار ولوجاً إلى المنصة، كتجار العملة والمستوردين وعملاء محظيين، لكن غموض المعلومات حول هوية الأفراد والكيانات التي تستفيد من المنصة صعّب من معرفة المستفيد الأكبر من التداولات على المنصة.

كان توحيد التداول في العملات على منصة واحدة رسمية، وتهدئة السوق غير المنظمة المتزايدة من بين الأهداف التي أنشأت على أساسها منصة صيرفة، حيث كان التلاعب والمضاربات يساهمان في تسبب تقلبات حادة بأسعار الصرف، وما شجع مشاركة لاعبين كبار في سوق التداول بمنصة صيرفة هو تحديد المركزي سعراً أقل من سعر السوق الموازي، الأمر الذي استقطب هؤلاء لشراء الدولارات من المنصة بسعر أقل، وبقي الفرق بين دولار المنصة ودولار السوق الموازي بمعدل وسطي بلغ 21 في المائة. هذا الفرق لا يشجع أي جهة باستثناء المصرف المركزي على بيع الدولارات للمنصة بقيمة أقل من السوق الموازية، وعليه استخلص البنك الدولي أن “المصرف المركزي هو البائع الوحيد للعملات الصعبة على منصة صيرفة”.

لم يعلن المركزي عن الطريقة التي يجمع فيها الدولارات، وأغلب الظن أن الدولارات التي يقوم ببيعها على منصة صيرفة هي خليط بين دولارات يقوم بشرائها من السوق الموازية، وما تبقى من احتياطات لديه بالعملة الصعبة، مع ترجيح أن حصة الأسد من هذا الخليط تأتي من عمليات الشراء من السوق الموازية.

إذا أخذنا أحدث تدخل للمصرف المركزي في 21 آذار (مارس) 2023 الذي يعتبر السادس من نوعه منذ بداية عام 2022، فإن إجمالي حجم التداول بالدولارات عبر منصة الصيرفة بلغ في الشهر التالي (نيسان/أبريل) 1.22 مليار دولار أميركي. ومع ذلك، انخفضت احتياطات صرف العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي بمقدار 127 مليون دولار أميركي فقط. إذاً من أين جاء المركزي بـ1.09 مليار دولار أميركي؟

لنتذكر أن الليرة انهارت قبل تدخل المصرف المركزي، إذ يرجح البنك الدولي أن المصرف المركزي نفسه هو الذي حرك السوق، حيث استخدم الليرة اللبنانية التي كان يطبعها لشراء كميات ضخمة من الدولارات من السوق الموازية، وهو ما أدى إلى انخفاض سعر صرف الليرة مؤقتاً. يمكن ملاحظة ذلك في حجم تداول الليرة الذي ارتفع من 67 تريليون إلى 83 تريليون بين 15 كانون الثاني (يناير) و28 شباط (فبراير) بزيادة قدرها 24 في المائة في ستة أسابيع فقط، وقد شهد ذلك أحدث تدخل في صيرفة بعد قيام مصرف لبنان باستخدام المنصة لبيع هذه الدولارات مقابل الليرة بخسارة، وإعادة استيعاب العملة المحلية المطبوعة الزائدة من السوق، مما أدى إلى انخفاض بالليرة المتداولة بسرعة مرة أخرى إلى 67 تريليون بحلول نيسان (أبريل).

هذا الترجيح يتقاطع مع ما قاله أحد العاملين في سوق الصرافة لـ”البديل” شرط عدم الكشف عن هويته، فقد وصف صاحب محل الصيرفة نفسه على أنه واحد من جيش من الجنود الذين يعملون تحت أمرة المركزي، ويشترون الدولارات لحسابه، وهو وحده يجمع يومياً بين مليونين وخمسة ملايين دولار لصالح المركزي. وإذا كان المبلغ الأكبر الذي يتم التداول فيه على المنصة يسحب من السوق الموازية، فإن مسؤولاً رفيعاً في أحد المصارف التجارية يشرح لـ”البديل” دور الاحتياطي في المصرف المركزي في هذه العملية، ويقول إن: “المركزي يقوم بتغطية الفرق بين الدولارات التي يجمعها من السوق الموازية والتي يعيد بيعها على منصة صيرفة بسعر مخفض من الاحتياطي”. 1

هذه الدورة، حيث يقوم المصرف المركزي بشراء الدولارات من السوق ويبيعها بخسارة على منصة صيرفة، هي دورة غير مستدامة، نظراً لمحاولة منصة صيرفة خدمة المركزي والحكومة لشراء الوقت بأموال ليست ملكهما، وتأجيل التعامل مع المشكلات الهيكلية التي أدت إلى حصول الأزمة المالية وتفاقم الفقر في البلاد. إن منصة الصيرفة ليست فقط أداة نقدية غير فعالة، بل هي أيضاً أداة لتوزيع غير عادل للثروة من الخزينة العامة إلى النخبة، وتخدم أيضاً كأداة للحفاظ على تماسك السلطة الحالية في البلاد.

إثراء الأثرياء وتقديم الفتات للعاملين في القطاع العام

وفرت منصة الصيرفة منذ بدء عملها، بحسب البنك الدولي، أكثر من 2.5 مليار دولار أميركي كأرباح لمن سمح له باستخدامها، وكان أبرز المستفيدين من هذه الأرباح المصارف والمستوردين ورجال الأعمال الكبار، ويستثنى من هذا المبلغ ما تمكن من الاستفادة منه العاملين في القطاع العام، والذين سمح لهم بسحب رواتبهم بالدولار بسعر منصة صيرفة.
يُعد تحديد مقدار استفادة الموظفين العامين أمراً صعباً، نظراً لتنوع وتعدد مستويات الاستفادة بحسب الفئات والوظائف العامة. ومع ذلك، عند النظر في الأرقام التراكمية يتضح أن المبلغ الذي يمكن أن يستفيد منه الموظفون العامون هو مبلغ ضئيل مقارنة بحجم التداول المعلن على المنصة.

على سبيل المثال لا الحصر، بلغ إجمالي حجم التداول على منصة الصيرفة لأشهر آذار (مارس) ونيسان (أبريل) وأيار (مايو) 1.1 مليار دولار، 1.22 مليار دولار، و2.41 مليار دولار على التوالي، وفقاً لأرقام المصرف المركزي. وفي الوقت نفسه، كانت تكاليف رواتب الموظفين العامين لكل من هذه الشهور بين 33 و35 مليون دولار أميركي، بناءً على ميزانية عام 2022 في حال احتسابها على سعر السوق الموازي. وعليه لا يشكل هذا المبلغ الإجمالي المحتمل للدولارات الذي استفاد منه الموظفون العامون على منصة الصيرفة خلال هذه الفترة أكثر من 2 إلى 3 في المائة من مجمل المبالغ المتداولة على المنصة في الفترة نفسها.

على الرغم من أنها نسبة ضئيلة مقارنةً بحجم استفادة عملاء آخرين، إلا أن هذا الدعم للموظفين العامين مهم للحفاظ على سيطرة السلطة على هذا القطاع وتأمين استقرار اجتماعي نسبي. فقد سبّب التضخم وتراجع قيمة رواتب القطاع العام بالليرة تهديداً مباشراً للطبقة السياسية، مما أضعف شبكات الرعاية الواسعة التي استخدموها في الخدمة المدنية للحفاظ على سيطرتهم على مجتمعات طائفية تشكل قاعدة شعبية لمختلف مكونات السلطة. وتمظهر ذلك بشكل كبير من خلال الإضرابات المتكررة للعاملين في القطاع العام والمطالبة برواتب أفضل، حيث تكررت المظاهرات أمام السراي الحكومي (مقر رئيس الوزراء)، مما أدى إلى عرقلة عمل القطاع العام وتوقف عدد كبير من الخدمات العامة، ناهيك عن ترك حوالي خمسة آلاف عنصر من القوات المسلحة اللبنانية الخدمة بدون إذن منذ عام 2019.

دفعت هذه الاضطرابات الحكومة إلى زيادة رواتب القطاع العام ورفعت ميزانية عام 2022 التي صادقت عليها في وقت متأخر من العام الماضي رواتب العاملين في القطاع العام بالليرة اللبنانية إلى ثلاثة أضعاف، تلاها مكافأة مؤقتة أخرى صدرت بمرسوم من مجلس الوزراء في نيسان (أبريل) 2023، وباتت الزيادات تعادل أربعة أضعاف رواتب الموظفين بالمقارنة مع الأول من كانون الثاني (يناير) 2020، فازداد الإنفاق الحكومي الشهري على الرواتب من 1.1 تريليون ليرة لبنانية إلى ما بين 3.7 و3.9 تريليون ليرة لبنانية، ما يعادل 33 و35 مليون دولار أميركي شهرياً بسعر السوق الموازي  (94 ألف ليرة لبنانية لكل دولار أميركي)، مما عزز القدرة على سحب الرواتب بالدولار بسعر مدعوم على المنصة، والحفاظ على العقد الاجتماعي القائم بين زعماء الطوائف السياسية وناخبيهم.

وبالتالي، تشكل منصة الصيرفة وسيلة أخرى ابتكرتها النخبة اللبنانية للاستمرار في سلب الأموال العامة، وإعادة توزيعها كفتات على بعض الفئات السكانية.

حاولنا التواصل مع مصرف لبنان للإجابة على بعض الأسئلة، لكن المصرف لم يتجاوب مع أي من هذه المحاولات.

الهوامش

1- وفقاً لمصادر “البديل”.

لقراءة المقال بنسخته الإنكليزية اضغط على الرابط التالي ليحيلك على الأساس

المواضيع ذات الصلة