من انجاز انتخابي إلى قوةٍ اجتماعية: خريطةُ طريق للحركة العلمانية لإنتخابات 2026

للحفاظ على مكاسبها المحدودة، على القوى العلمانية النظر أبعد من صناديق الاقتراع، والتعامل مع الانتخابات باعتبارها فرصة للتجدّد.

8 تشرين الأول، 2025

تتجه الحركة الإصلاحية العلمانية في لبنان نحو الانتخابات البرلمانية لعام 2026 بخطة عمل مترهّلة. فالزخم الذي أطلقته انتفاضة 2019 أفضى إلى مكاسب انتخابية محدودة في عام 2022 دون أن يترجم إلى قوة تنظيمية قادرة على بناء نفوذ سياسي مستدام. واليوم تجد القوى التقدّمية نفسها أمام خيار مفصلي: إمّا أن تستثمر الانتخابات المقبلة كمنصّة لإعادة البناء من القاعدة الشعبية، وإمّا أن تخاطر بخسارة المساحة التي انتزعتها داخل النظام الطائفي الراسخ.

 

الفوز بالمقاعد، وخسارة الأرض

يساعد مسار الحركة على تفسير هذا المأزق. فقد بدأت القوى العلمانية تكتسب زخماً متجدّداً في عام 2011 حين دعت الاحتجاجات المتأثرة بالربيع العربي إلى إصلاحات جذرية في النظام الطائفي اللبناني. وتواصل الزخم خلال العقد اللاحق إلى أن بلغ ذروته مع انتفاضة تشرين الأول 2019. ثم في 2022 انتقل النشطاء من الشارع إلى صناديق الاقتراع، ففازوا بثلاثة عشر مقعداً نيابياً تحت راية «كتلة التغيير». غير أنّ المنظّمين تراجعوا بعد الانتخابات عن العمل القاعدي، تاركين للنواب الجدد مهمّة قيادة الحركة.  وقد دخل معظم التغييريين إلى البرلمان دون أن يمتلكوا بنى حزبية أو شبكات محلية أو خبرة سياسية تمكّنهم من صياغة أجندة إصلاحية متماسكة.

اعتُبر تعيين نواف سلام رئيساً للحكومة مطلع عام 2025 دفعةً رمزيةً للقوى الإصلاحية العلمانية، لكنه لم يترجم إلى تعزيز فعلي لحضورها على الأرض. فسلام، وهو قاضٍ مرموق وناقدٌ قديم للنظام الطائفي، يستمد شرعيته من خبرته التكنوقراطية ومكانته الدولية، دون أن يخوض أي استحقاق انتخابي أو يبني قاعدة شعبية خاصة به. ومع تصاعد الاستقطاب الطائفي، تلاشى إلى حدٍّ كبير الدعم الشعبي الذي حمل مرشّحي «كتلة التغيير» إلى البرلمان عام 2022. والانتخابات البلدية الأخيرة  وثّقت هذا التراجع، إذ شكّلت نتائجها – باستثناء بعض المناطق في جبل لبنان – نكسة واضحة للمرشحين العلمانيين.

على القوى العلمانية أن تتجاوز عقلية المكاسب الظرفية، وأن تعيد تصوّر العملية الانتخابية كأداة للتعبئة الشعبية وبناء المجتمع

وأمام هذا الواقع العالق بين ضعف البنية التنظيمية وتراجع التأييد الشعبي، تواجه الحركة اختباراً وجودياً: كيف يمكنها أن تستثمر انتخابات 2026 لا للفوز بالمقاعد فحسب، بل لإعادة بناء ذاتها أيضاً؟ فعلى المستوى التكتيكي، يتمثّل التحدّي في ترشيح شخصيات موثوقة قادرة على استثمار التحوّلات السياسية لخوض حملات فعّالة. أمّا على المستوى الاستراتيجي فالمطلوب أعمق من ذلك بكثير: على القوى العلمانية أن تتجاوز عقلية المكاسب الظرفية، وأن تعيد تصوّر  العملية الانتخابية كأداة للتعبئة الشعبية وبناء المجتمع، وهذا يعني بالضرورة العمل على مشروع سياسي وثقافي قادر على الحفاظ على الزخم بين الدورات الانتخابية، واستعادة الثقة مع جمهورٍ فقدَ الأمل في التغيير.

 

نموذج «بيروت مدينتي»: مبتكر لكنه غير مستدام

واجه الناشطون اللبنانيون تحدّي تحويل الطاقة الشعبية إلى بنى سياسية منظَّمة خلال أزمة النفايات عام 2015. فعندما تراكمت النفايات في شوارع بيروت ذلك الصيف، اندلعت موجة من الاحتجاجات المناهضة للسلطة والتي حملت شعار «طلعت ريحتكم». شكّلت تلك الحملات الشعبية ضد النخب الطائفية نقطة تحوّل في النشاط السياسي، إذ نجحت في تعبئة الشارع عبر شبكة من المتطوّعين لا عبر منظمات أو أحزاب رسمية.

من رحم هذه الموجة وُلدت حركة «بيروت مدينتي» لخوض الانتخابات البلدية عام 2016، مقدّمةً بديلاً جديداً عن السياسة الطائفية التي تسبّبت بأزمة النفايات قبل عام. جمعت هذه الحملة، بقيادة مجموعة من الناشطين والأكاديميين، بين هيكلية مرنة ونزاهةٍ مشهودٍ لها، وبرنامج يتمحور حول المواطن والذي حظي بقبول شعبي واسع. وقد صيغ برنامجها المؤلف من عشر نقاط ضمن هوية بصرية مصقولة، واقترح حلولاً تكنوقراطية لمشكلات الحياة اليومية مثل إدارة النفايات والنقل العام والسكن الميسور. لم تُضعف هذه البراغماتية النقد الموجَّه إلى النظام الطائفي لكنها غيّرت زاوية الخطاب، إذ ركّزت على المسؤولية المدنية وصون المصلحة العامة بدل المواجهة الأيديولوجية المباشرة، وهو نهج لاقى صدى لدى شريحة واسعة من الناخبين السأمين من الاعتلال المزمن الحوكمة.

تكرّر هذا النموذج في الانتخابات النيابية لعامي 2018 و2022 وفي معظم الانتخابات النقابية. وأصبحت الصيغة مألوفة: استثمار الأزمات السياسية لتحقيق مكاسب ظرفية، وبناء علامات انتخابية لامعة تقوم على الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين الفاعلين التقدميين، وركوب موجات السخط الشعبي ضد الأحزاب الحاكمة. وكانت النتيجة تحوّلات محدودة في الخطاب العام مقابل تقدّم تنظيمي شبه معدوم.

تحوّلت تجربة واعدة في السياسة القاعدية إلى عبرة لمن يعتبر: فإن النموذج أظهر ما هو ممكن، لكنه فشل في إرساء حالة سياسية أكثر استدامة.

أثبتت حملة «بيروت مدينتي» فعاليتها على المدى القصير، مسجّلة أداءً قوياً في صناديق الاقتراع، لكنها عجزت عن التحوّل إلى قوّة سياسية مستدامة. فقد تفكّكت معظم الهياكل التنظيمية بعد الانتخابات ومعها بيانات الناخبين وقدراتها التعبوية. كما افتقر المرشّحون إلى آليات مساءلة أمام القواعد الشعبية، ولم تبقَ بنيةٌ مؤسسية تستوعب الجدد أو تضمن استمرارية العمل. في المحصلة، تحوّلت تجربة واعدة في السياسة القاعدية إلى عبرة لمن يعتبر: فإن النموذج أظهر ما هو ممكن، لكنه فشل في إرساء حالة سياسية أكثر استدامة.

 

الانتخابات كمحرّكات للتنظيم الشعبي

على القوى العلمانية أن تستخلص دروس المرحلة السابقة لبناء تنظيمات متينة الجذور داخل المجتمعات المحلية. شكّلت النقابات العمالية تاريخياً أداةً رئيسيةً للمشاركة القاعدية، لا سيما قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. غير أنّ الأحزاب الطائفية استحوذت لاحقاً على هذه المؤسسات مستفيدةً من غنائم الدولة وشبكات الزبائنية التي أفرزها النظام ما بعد الحرب لترسيخ نفوذها. وفي الوقت نفسه أدّت الانهيارات الاقتصادية والهجرة الجماعية واتساع رقعة العمل غير النظامي إلى تفكيك الطبقة العاملة وتآكل البنى التقليدية للتضامن النقابي. كما كانت لجان الأحياء في السابق مساحةً أخرى للتنظيم، لكنّ المشهد تبدّل أيضًا هنا: فقد انتقل التفاعل المباشر إلى الفضاء الرقمي، فيما ترك نزوح الشباب الأحياء في حالة سيولةٍ مستمرّة.

تُدار اللعبة الانتخابية داخل الجماعات الطائفية بقدرٍ أكبر من التنظيم والاحتراف. فهذه القوى تُفعِّل مبكراً شبكاتها العائلية وقادتها المحليين ومتطوعيها ووكلاءها الميدانيين (المندوبين) قبل وقتٍ طويل من موعد الاقتراع.

في هذا السياق، تؤدي الانتخابات وظيفةً محورية، إذ إنها تُجبر المنظّمين على بلورة استراتيجيات انتخابية بسرعة وبناء تحالفات وصقل الخطاب السياسي، والتواصل مع عشرات الآلاف من الناخبين ضمن إطارٍ زمنيٍّ ضيّق. ومن ثمّ تُشكّل الحملات الانتخابية بطبيعتها منصّة فعّالة للتعبئة الجماهيرية. غير أنّ الفاعلين العلمانيين غالباً ما يُختزل حضورهم في صورة «مرشّحين على منصّات»، يتصرّفون كأفراد مؤثّرين في تفاعل مع جمهور المتابعين، أكثر من كممثّلين لحركة سياسية منظَّمة.

في المقابل تُدار اللعبة الانتخابية داخل الجماعات الطائفية بقدرٍ أكبر من التنظيم والاحتراف. فهذه القوى تُفعِّل مبكراً شبكاتها العائلية وقادتها المحليين ومتطوعيها ووكلاءها الميدانيين (المندوبين) قبل وقتٍ طويل من موعد الاقتراع. والأهم أنّها لا تعتمد على الحملات القصيرة الأمد، بل تبني مجتمعات سياسية مستدامة عبر استقطاب أعضاء جدد والاستثمار في القيادات المحلية وترسيخ المبادئ الجامعة. تجسّد الحركات الإسلامية في بيروت هذا النموذج بوضوح، إذ تُظهر كيف يمكن للاتساق والمركزية والانغماس العميق في الحياة المجتمعية أن يؤسّس لقوةٍ تراكميةٍ مع مرور الوقت.

يتمثّل جوهر هذه الخارطة في إعادة توجيه البوصلة نحو القواعد الشعبية، حتى وإن خفتت تلك الروح في السنوات الأخيرة.

إذاً على الحركة العلمانية أن تتعلّم من هذه الأساليب وأن تتعامل مع الانتخابات كمرحلة ضمن مسارٍ أطول لبناء قواعد ثابتة ومؤمنة بمشروعها. أوّلاً: عليها إنشاء تكتلات اجتماعية-سياسية ذات هوية مشتركة وقيادة مستقرة وقدرة على استقطاب وتدريب الأعضاء على مدار العام. ثانياً: عليها إبراز القيادات المحلية التي تجسّد قيم الحركة وتبقى فاعلة داخل مجتمعاتها خارج مواسم الانتخابات. ثالثاً: أن توحّد حلفاءها حول مبادئ وأهداف جامعة، متجاوزةً الخلافات التكتيكية التي شتّتت صفوفها في الماضي. وأخيراً: أن تنفتح على النقاش العام وأن تواجه منتقديها بثقة سعياً إلى كسب ثقة المواطنين الذين يراقبون من خارج المشهد السياسي، بانتظار بديلٍ موثوق.

 

وما بعد 2026؟

يتمثّل جوهر هذه الخارطة في إعادة توجيه البوصلة نحو القواعد الشعبية، حتى وإن خفتت تلك الروح في السنوات الأخيرة. فالفوز بالأصوات ما يزال ذي الأهمية القصوى، لكنّ النجاة من انتخابات 2026 لا يمكن أن تكون الغاية الوحيدة. ما تحتاجه القوى العلمانية اليوم هو إشراك الناس في عملية بناء حركة قادرة على الصمود أمام العواصف المقبلة. وذلك يتطلّب إعادة النظر في الانتخابات لا بوصفها استحقاقات معزولة للتمثيل، بل فرصاً متكرّرة لتوسيع قاعدتها الشعبية وتعميق روابطها المجتمعية وتعزيز قدراتها التنظيمية. وهذا عملٌ يجب أن يبدأ من الآن.

المواضيع ذات الصلة