كي لا تقع الكارثة.. خارطة لانقاذ قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان

إن إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة ممكن وضروري، ويبدأ بمؤسسات الكهرباء والاتصالات.

17 كانون الثاني، 2024

ملخص تنفيذي

 

تعاني الشركات المملوكة للدولة في لبنان من مشاكل جمّة، تضعها في حالةٍ حرجة للغاية إذ أنّها ترزح اليوم تحت ضغط سوء الإدارة والاضطرابات الماليّة وعدم الكفاءة النّظاميّة. وقد أدى الافتقار إلى إطار تشريعي يحدد عمل الشركات المملوكة للدولة وحوكمتها إلى ترسيخ الغموض المحيط بالرقابة والمساءلة. فضلاً عن أن نموذج الملكية اللامركزية – الذي تديره ظاهرياً وزارات فردية – يحجب تضارباً مثيراً للقلق في المصالح، حيث تقوم هذه الوزارات بتنظيم وامتلاك هذه الشركات في نفس الوقت؛ وهذا يتعارض بشكل واضح مع المعايير الدولية ويسلط الضوء على قضايا خطيرة تتعلق بالحوكمة. وبالتالي ينعكس هذا على  تصنيف الشركات المملوكة للدولة باستمرار ضمن الأولويات القصوى لصندوق النقد الدولي للعمل الفوري في لبنان.

وقد كان صندوق النّقد الدولي قد وجّه تقريراً تحذيرياً حاداً للحكومة اللبنانية، في حزيران 2023، جاء في مضمونه أنّه : “من دون إصلاحات هيكلية للشركات المملوكة للدولة، فإن الظروف المعيشية اللبنانية سوف تتدهور أكثر نظراً للتأثير المتتالي على الخدمات العامة.” والآن، وبعد مرور سبعة أشهر على صدور التقرير، لم تتحقق الوعود الوزارية لصندوق النقد الدولي بتعيين الهيئات التنظيمية وإجراء عمليات التدقيق وإجراء مسح لممارسات الإدارة المؤسسية مما كان من شأنه أن يقيّض التأثيرات المتتالية التي حذر منها. 

كما لم يحدّ من فساد الوزراء الحاليين في حكومة  تصريف الأعمال في لبنان، الذين استمروا في اتباع تقليد راسخ وهو جعل الشركات المملوكة للدولة أداة رئيسة للفساد في الدولة. إذ تشمل الأولويات الوزارية الحفاظ على شبكات المحسوبية والعلاقات، ومركزية السلطة داخل مكاتبهم، وتحويل اللوم عن أوجه القصور في خدمات المرافق العامة. وبالطبع، فإنّ نتيجة كلّ هذه التراكمات كانت في أن أهملت الوزارات الإصلاحات العاجلة لتعزيز توفير الخدمات العامة الأساسية بطريقة عادلة وشفافة.

إنّ الاطلاع على تاريخ مؤسسة كهرباء لبنان وحدها كفيلٌ بأن يكشف لنا فساد الدّولة ومؤسساتها، إذ ما تستمر عمليات سوء تخصيص الأموال وعدم الكفاءة، ومقاومة عمليّات التدقيق الخارجي حتى هذا اليوم، مما يؤدي إلى خسائر مالية فادحة، تخطّت آخرها الـ 40 مليار دولار من الدين العام للبنان بحلول عام 2018. لم تنتهي المسألة هنا، فقد وصلت الاضطرابات إلى ذروتها وسط الأزمة المالية الحاليّة في لبنان، مع مقترح لتغيير تعرفة الكهرباء فشل في معالجة الأسباب الأساسية، مما ترك المواطنين يتصارعون مع انقطاع التيار الكهربائي اليومي. وبالفعل فإن فقر الطاقة أصبح الواقع الحالي في جميع أنحاء البلاد، وفقاً لـبحث لـ “هيومن رايتس ووتش”. وبالتالي فإن لبنان تكبّد دفع التكلفة ببيئته وصحة شعبه وثرواته.

أما بالنسبة للسلطات التنظيمية التي تم تشكيلها منذ عام 2002 فليس لها أيّ تواجد اليوم، حيث تتولى الوزارات أدوارها، مما ساهم في وضع لبنان ضمن تصنيف عالمي سيء للغاية في مجال الحوكمة والتنظيم. إذ لا تقتصر المشاكل على شركة الكهرباء فيه والأقبية التابعة لها بل ينطبق الشيء عينه على شركة الاتصالات المملوكة للدولة، مثل (Ogero) و(MIC1) (Alfa)، و(MIC2)و(Touch)، التي تعاني جميعها من تحديات الإدارة وسوء الإدارة المالية، رغم أنها تولد إيرادات كبيرة. وقد وثّق تقرير لاذعٌ  صدر في نيسان 2022 من قبل ديوان المحاسبة اللبناني، سوء تخصيص الأموال العامة من هذه المؤسسات المملوكة للدولة والانتهاكات القانونية من قبل وزارة الاتصالات.

لا يمكن تفادي هذه المشاكل من دون إرساء التدابير اللازمة للشفافية والمساءلة أولاً، بما في ذلك عمليات تدقيق خارجي تجريها شركات دولية ذات سمعة جيدة، بدعم من محكمة عليا تتمتع بالصلاحيات لمراجعة الحسابات. إن تعيين هيئات تنظيمية مستقلة للقطاع، تلتزم بمعايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من شأنه أن يوفر الفصل المطلوب بشدة بين السلطات ويضمن حيادية القرارات الصادرة.

إن إصلاحات الحوكمة المؤسسية، المستوحاة من المبادئ التوجيهية لحوكمة الشركات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ضرورة أساسية لعمل الشركات المملوكة للدولة بشكل مستقل وشفاف. ومن شأن استعادة سلطة تحديد التعريفات للهيئات التنظيمية أن يمنع الزيادات غير المنتظمة وأن يعمل على مواءمة التكاليف مع ظروف السوق. ومع ذلك فإنه من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التعريفات وحدها لا تستطيع إنقاذ القطاعات جميعها، بل من الضروري إجراء إصلاح شامل يتضمن عمليات التدقيق السنوية والتنشيط التنظيمي وإصلاحات الحوكمة، فضلاَ عن سنّ قانون جديد للشركات المملوكة للدولة يترافق مع هذه الخطوات التدبيريّة ويحددّ أطر عملها وينظّمها. 

أمّا بالنسبة للخصخصة – ورغم كونها حلاً محتملاً – فهي تتطلب تخطيطاً دقيقاً. إن غياب استراتيجية وطنية، وبيئة تنظيمية سليمة، وأطر واضحة لمكافحة الفساد، يستلزم اتباع نهج حذر، كي لا تتكرر الأخطاء الماضية. وينبغي للمجلس الأعلى للخصخصة، معززاً بالرقابة التنظيمية، أن يوجّه هذه العملية، ويضمن تخصيص العائدات بشفافية وبما يتماشى مع أهداف السياسة العامة. وعلى هذا المجلس والتابعين له، أن يحيدوا عن ما يسمى بـ “الصندوق السيادي” الذي يبدو جلياً أنّه ليس في مصلحة العامّة والذي – رغم ذلك – ما يزالُ يقترحه القطاع المصرفي والعديد من السياسيين، والذي سيشهد استخدام أصول الدولة لتغطية الالتزامات المستحقة على البنوك التجارية.

قد لا يبدو إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة ظاهرياً أولويّة فوريّة، اليوم، وسط الأزمة المالية الحادة التي تعيشها البلاد، ومع تضخم بنسبة %252 تقريباً وانهيار فيض قيمة العملة بنسبة 90%. كلّ هذا مشروع، لكنّ حقيقة الأمر التي لا يمكن تجاهلها هي أن إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة يقع في قلب الانتعاش الاقتصادي، خاصّةً في لبنان حيث تراكم هذه المؤسسات الديون وتوابعها وتعزّز المحسوبية في القطاع العام. وبالتوازي فإن كلا الجانبين – أي الشركات المملوكة للدولة والدولة اللبنانية نفسها –  يساهمان اليوم في ترسيخ الأزمة الحالية وسيطرة النخبة على الدولة. ومن دون إصلاح حقيقي للشركات المملوكة للدولة، ليس هناك أمل كبير في أن يتعافى لبنان حقاً من مأزقه الحالي، ناهيك عن توفير الخدمات الأساسية لشعبه.

 

مقدمة

 

 يمكنُ فهم المؤسسات المملوكة للدولة بشكل عامٍ على أنها كيانات مملوكة للقطاع العام تعمل باستقلال إداري ومالي، وتخضع لملكية وسيطرة الحكومة -جزئياً أو كلياً – وتمارس نشاطات تجارية أو اقتصادية، على النحو المحدّد من قبل صندوق النقد الدولي. يوجد في لبنان، اليوم 22 مؤسسة مملوكة للدولة وفقاً لهذا المعيار، تتراوح من مقدميّ الخدمات العامة إلى المؤسسات التجارية.3 إلّا أن هذه الشركات المملوكة للدولة لم يتم تعريفها أو تفصيلها رسمياً في التشريعات القائمة في لبنان، مما يسهم في خلق الغموض حولها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالرقابة والمساءلة.

تعمل الشركات المملوكة للدولة في لبنان حالياً بموجب نموذج “لامركزية” الملكيّة وفق معيار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وفي إطار اللامركزية هذا يتم تكليف الوزارات الفردية بملكيّة كل مؤسسة وإدارتها. ومع ذلك، لم يتم توضيح هذا النظام بشكل صريح في التشريعات القائمة، مما يؤدي إلى غموض وتضاربات حول إدارة هذه المؤسسات. وفي حالة غياب الهيئات التنظيمية النشطة في لبنان، فإنّه غالباً ما تتولى الوزارات المعنية المهام التنظيمية والملكية للشركات المملوكة للدولة الخاضعة لسلطتها، متجاوزةً بذلك التشريعات اللازمة التي تقتضي الفصل والتنظيم، إذ تتعارض هذه الازدواجية في الوظائف مع المعايير الدولية بشكل مباشر وتدلّل على مشكلة مفصلية في مجال الحوكمة.

يتطلب إصلاح الشركات المملوكة للدولة في لبنان استراتيجية متوازنة تعالج القضايا الأساسية التي تؤثر على الشركات في جميع المجالات، مع تقديم نهج مصمم خصيصاً لمعالجة التحديات المحددة لكل مؤسسة على حدة. أما على مستوى الشركات بشكل عام، فإن قانوناً جديداً للشركات المملوكة للدولة سيتوكلّ مهمة وضع استراتيجية واضحة للملكية وبالتالي تحديد الأهداف الرئيسة ومبادئ الرقابة والإدارة وفقاً لما جاء توصيات صندوق النقد الدولي صدر عقب زيارة ممثليه للبنان في حزيران 2023.

غالباً ما تكون الشركات المملوكة للدولة الناشطة في قطاعي الكهرباء والاتصالات في لبنان على النقيض من بعضها فيما يتعلق بالأداء الوظيفي، نظراً للخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات التي تكشف عن فجوة الخسائر التي تكبدتها كل واحدة على حدة، مقابل الأرباح الخاصة بأخرياتها.  ومع ذلك، تعاني كلّ واحدة من هذه الشركات تحديات نظامية ومؤسسية عميقة تتطلب الإصلاح بشكل عاجل لتحسين جودة وتكاليف الخدمات التي تقدّمها للبنانيين. سوف نعرض فيما يلي أدناه دراسات حالة أساسية موجزة عن كلا القطاعين، مع تقديم التوصيات اللاحقة كأمثلة على المنفعة العامة التي يمكن تحقيقها عبر عملية إصلاح مجموعة الشركات المملوكة للدولة في لبنان بأكملها.

غالباً ما تكون الشركات المملوكة للدولة الناشطة في قطاعي الكهرباء والاتصالات في لبنان على النقيض من بعضها فيما يتعلق بالأداء الوظيفي، نظراً للخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات التي تكشف عن فجوة الخسائر التي تكبدتها كل واحدة على حدة، مقابل الأرباح الخاصة بأخرياتها.

نبذة تاريخية عن شركة كهرباء لبنان

 

أُنشأت مؤسسة كهرباء لبنان (EDL) بالمرسوم رقم 16878 الصادر في 10 تموز/يوليو 1964، واعتبرت هذه المؤسسة المملوكة للدولة، المسؤولة الوحيدة عن توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها في لبنان.3 وبهذا، وبموجب هذا التشريع تم وضع مؤسسة كهرباء لبنان تحت وصاية وزارة الطاقة والمياه، المسؤولة عن التخطيط الاستراتيجي ووضع السياسات في مزود الكهرباء. وفي الوقت نفسه، مُنحت وزارة المالية سلطة الإشراف المالي الشامل على المؤسسة. 

منذ نشأتها، واجهت شركة كهرباء لبنان تحديات كبيرة، تزامن أوّلها مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. لقد ألحقت الحرب أضراراً جسيمة بالبنية التحتية لقطاع الكهرباء، مما أدى إلى تدمير شبكة الكهرباء الوطنية. ولم يقتصر الأمر على هذا إذ سيطرت الجماعات المسلحة على العديد من مرافق شركاتها، وتلاعبت بسيطرتها على الوصول إلى الكهرباء لأغراض عسكرية ونفوذ سياسي.  وفي ظلّ هذه الظروف المأساوية أدى عدم قدرة الدولة على فرض رسوم الكهرباء، إلى عدم دفع الفواتير على نطاق واسع، مما أدى إلى مزيد من الضغط على الشركات المملوكة للدولة المحاصرة.

ومع انتهاء النزاع، التزمت الحكومة اللبنانية بإعادة تأهيل البنية التحتية، بما في ذلك قطاع الكهرباء، مع الاعتماد جزئياً على الاستثمار الأجنبي. إلّا إنّ سوء تخصيص الأموال وعدم الكفاءة وانعدام المساءلة أعاقت بمجملها عمليات مؤسسة كهرباء لبنان، مما ساهم في أن ترزح المؤسسة في عجزٍ دائم في ميزانيتها، وكان ولا يزال السبب الرئيس في انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر. وإلى جانب ذلك، تراكمت الخسائر المالية من خلال الاعتماد على واردات زيت الوقود (الفيول) المشتراة بالدولار الأمريكي، زيادةً على توفير الكهرباء المدعوم بشكل كبير. فمن عام 1996 إلى عام 2023، تم تثبيت تعريفة شركة كهرباء لبنان عند 0.095 دولار أمريكي لكل كيلووات في الساعة، على الرغم من ارتفاع التكلفة الحقيقية لتوفير الكهرباء في لبنان إلى نسبة تتراوح ما بين 0.16 و0.23 دولار أمريكي لكل كيلووات ساعيّ. 

لم تقتصر المشكلات على داخل المؤسسة، بل جاء اعتماد وزارة الطاقة والمياه على أموال الدولة لتمويل العجز في ميزانية مؤسسة كهرباء لبنان ليزيد من حدّة المشكلات وتفاقمها. إذ بلغ إجمالي التحويلات من الخزينة لتغطية خسائر مؤسسة كهرباء لبنان بين عامي 1993 و2020 نحو 43 مليار دولار، أي بمتوسط ​​يقترب من 1.6 مليار دولار سنوياً. ومع ذلك أثبتت الحكومة اللبنانية مقاومتها للضغوط الدولية من أجل إجراء تدقيق مالي شامل لقياس حجم المشاكل المالية التي يعاني منها قطاع الكهرباء. تنتظر مؤسسة كهرباء لبنان حالياً إجراء تدقيق مستقل – بناءً على طلب البنك الدولي – مقابل الحصول على الأموال من أجل صفقة نفط وغاز إقليمية. وعلى الرغم من فوز واحدة من الشركات المحلية بمناقصة التدقيق منذ أكثر من عام، إلاّ أن التدقيق لم يدخل حيّز التنفيذ حتى الآن. 

ومنذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2019، تفاقمت الصعوبات المالية التي تواجه شركة كهرباء لبنان بشكل كبير وسط انخفاض قيمة العملة اللبنانية. شهد شهر شباط 2023 محاولة وزارة الطاقة والمياه لرفع تعرفة الكهرباء إلى 0.10 دولار أمريكي لكل كيلووات ساعي لأول 100 كيلووات و0.27 دولار لكل كيلووات ساعيّ لما يتجاوز ذلك. إلا إنّ الصعوبات الناجمة عن سوء تحصيل الفواتير، والتي تتعامل معها أربع شركات خاصة متعاقدة من الباطن منذ عام 2012، تعني أن مكاسب الإيرادات المتوقعة من زيادة التعريفة لم تتحقق بعد.

بلغ إجمالي التحويلات من الخزينة لتغطية خسائر مؤسسة كهرباء لبنان بين عامي 1993 و2020 نحو 43 مليار دولار، أي بمتوسط ​​يقترب من 1.6 مليار دولار سنوياً.

ظلت الهيئة الناظمة للكهرباء، المكلّفة بالإشراف التنظيمي على قطاع الكهرباء، بدون أعضاء مجلس إدارة لأكثر من 20 عاماً بعد إنشائها بموجب القانون 462 لعام 2002. ترافق هذا مع ترددٍ مستمر من جانب وزارة الطاقة والمياه في تنفيذ إصلاحات الحوكمة التي من شأنها التخلص من شبكات المحسوبية الداخلية. ويعود هذا التأخير الأخير في تعيين أعضاء مجلس الإدارة إلى أن “قائَمة المرشحين المقبولين كانت صغيرة جداً”، بحسب ما قال وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض، في مقابلة سابقة مع البديل. لم تكفي الضغوط التي يمارسها البنك الدولي من أجل التعيين الفوري لهيئة تنظيمية في منع التأخيرات وعرقلة المسالك أمام وجود حلول واضحة ومحققة، إذ ما يزال الطريق طويلًا ومسألة التعيين الفوري المقترحة ها هنا هي مطلب آخر للبنان للحصول على الأموال اللازمة للوصول إلى صفقة الكهرباء الإقليمية. وفي غياب مجلس الإدارة التنظيميّة (ERA)، تولت الوزارة العديد من صلاحيات الجهة التنظيمية وتفويضها، في الوقت الذي وقعت فيه على اتفاقيات توريد النفط مع العراق للتعويض عن عدم تأهلها لصفقة الكهرباء للبنك الدولي. 

تعمل الكهرباء التي توفرها الدولة عادةً لمدة تتراوح بين 1 إلى 3 ساعات يومياً اعتباراً من عام 2023. وقد حصل هذا نتيجة للشلل الداخلي الحالّ في مؤسسة كهرباء لبنان، ما دفعها لتلبية الطلب السائد على الكهرباء في البلاد؛ وللتعويض عن هذا النقص، أصبحت مولدات الديزل أو أنظمة الطاقة الشمسية الآن بدائل واسعة النطاق أو احتياطية لمؤسسة كهرباء لبنان، دون أن يتمّ إجراء تعديلات مضمونة النتائج داخل كوادر المؤسسة نفسها.  

في ظلّ هذه الأزمات المتتالية، تمثّل شركة كهرباء زحلة حالةً خاصّةً في قطاع الكهرباء اللبنانيّ. يشكّل وجود هذه المؤسسة امتيازاً خاصاً في جميع أنحاء البلاد، إذ أنّ هذه الشركة التي تأسست خلال الفترة العثمانية، والتي ظلت فيما بعد جزءاً من شركات تابعة لمؤسسة كهرباء لبنان بموجب المرسوم رقم 16878 لعام 1964. تقدّم لعملائها في وادي البقاع عموماً إمداداتٍ عامة متواصلة من الطاقة، حيث تقوم شركة كهرباء زحلة بشراء الكهرباء المدعومة من مؤسسة كهرباء لبنان عندما تكون متاحة وتولد الكهرباء بشكل مستقل عندما لا تكون إمدادات مؤسسة كهرباء لبنان متاحة، مما يسمح لها بتوليد الطاقة وإمداد المستفيدين منها بإمداداتٍ متواصلة من الكهرباء. وتشير مجموعة من الأبحاث إلى أنه على الرغم من قيام شركة كهرباء زحلة (EDZ) بتحسين الخدمة لعملائها، إلا أنها لا تزال تعاني من مستويات كبيرة من الفساد. ولم تنفذ العديد من المبادئ القياسية للممارسات الجيدة وفقاً للمعايير الدولية، بما في ذلك تفكيك عمليات التوليد والنقل والتوزيع، أو تنفيذ التنظيم القطاعي.  

 

نبذة تاريخية عن مؤسسات الاتصالات في لبنان 

 

يتألف قطاع الاتصالات في لبنان من ثلاث شركات مملوكة للدولة: أوجيرو المسؤولة عن خدمات الهاتف الثابت، (MIC1) و(Alfa) و(MIC2)  و(Touch) لخدمات الهاتف المحمول. 

تأسست أوجيرو في الأصل كمؤسسة عامة بموجب القانون رقم 21 لسنة 1972، المكلفة بإدارة الاستثمارات في شركة راديو أورينت الفرنسية. لكن دور أوجيرو توسع بشكل كبير ليتجاوز نطاقه التشريعي الأوّلي من خلال القرارات المتعاقبة الصادرة عن مجلس الوزراء. لكنها سرعانَ ما تطورت لتصبح المشغل الرئيسي لشبكة الاتصالات الثابتة في لبنان، حيث تولت مسؤوليات مختلفة مثل صيانة الكابلات البحرية، وشراء النطاق الترددي الدولي، وتوفير خدمات الإنترنت عالية السرعة. 

في عام 1993، حصلت شركة LibanCell المملوكة لشركة Telecom الفنلندية، وشركة Cellis – وهي شركة تابعة لشركة France Telecom – على عقود تشغيل للهاتف المحمول في لبنان من خلال اتفاقيات البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT). تم إنهاء عقدي كلا المشغّلين في عام 2001، وبالنتيجة تم نقل ملكية وتشغيل الشبكات الخلوية للدولة اللبنانية، مما أدى إلى إنشاء MIC1 (ألفا) في عام 2002. ولضمان استمرارية شبكة الهاتف المحمول، تم التعاقد مع شركات الخدمات الخليويّة الجديدة. وهكذا وقعت مع شركة الاتصالات السابقة LibanCell في عام 2004، مما أدى إلى إنشاء (MIC2)و(Touch). وأنشأ بموجب هذا العقد مجلس إشرافي لمراقبة الحوكمة الداخلية، يتألف من: ممثل عن الوزير، وخبير في مجال الاتصالات الدولية، وممثل عن المستشار المالي لعملية البيع.13 لكن المجلس لم بدم طويلاً إذ تم حله فيما بعد، وانتقلت صلاحياته إلى الوزير. 

حصلت شركة Zain ومقرها في الكويت على عقد تشغيل قابل للتجديد للقطاع الخاص لـ MIC2 في عام 2004، وبدأت شركة Orascom ومقرها في أمستردام في تشغيل MIC1 في عام 2009. وفي أيار 2020، أنهت وزارة الاتصالات هذه العقود وتولت بعد ذلك إدارة الشركتين. نظرياً، كان هذا مجرّد إجراءٍ مؤقت حتى يتم الفوز بعقود الإدارة من قبل مشغلين بديلين. لكن وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، لم تقم وزارة الاتصالات حتى الآن بإعداد أو تقديم كتيب مواصفات جديد أو اتفاقية إدارة أو تقترح أي شروطٍ لمناقصة دولية جديدة إلى مجلس الوزراء وفقاً لما يتطلبه قرار مجلس الوزراء رقم 3 الصادر بتاريخ 5 أيار 2020. 

تشير مجموعة من الأبحاث إلى أنه على الرغم من قيام شركة كهرباء زحلة (EDZ) بتحسين الخدمة لعملائها، إلا أنها لا تزال تعاني من مستويات كبيرة من الفساد. ولم تنفذ العديد من المبادئ القياسية للممارسات الجيدة وفقاً للمعايير الدولية، بما في ذلك تفكيك عمليات التوليد والنقل والتوزيع، أو تنفيذ التنظيم القطاعي.

لقد أرسى القانون رقم 431 الصادر في سنة 2002 قواعد النّقل الكامل أو الجزئي لإدارة القطاع وتحويلها إلى القطاع الخاصّ، كما أنشأ هيئة تنظيم الاتصالات. تمثّلت مهمة هذه الهيئة في صياغة المراسيم واللوائح لتنفيذ القانون، وتعزيز المنافسة داخل القطاع، وإدارة الامتيازات، وإصدار التراخيص، ومراقبة التعريفات. إلّا أن هذه الهيئة الموكلة إليها جميع هذه التفويضات قد ظلّت بدون مجلس إدارة طوال معظم العقدين الماضيين.  وعلى الرغم من الأحكام التي تشجّع خصخصة القطاع، إلا أن قطاع الاتصالات في لبنان ما يزال مملوكاً بالكامل ومداراً ومنظماً من قبل وزارة الاتصالات.

وفي مقابلة مع البديل،أكد وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني قرم، أن تعيين أعضاء مجلس إدارة الهئة الناظمة للإتصالات كان من أولوياته عندما تولى منصبه الوزاري في عام 2021، لكنّه انتهى إلى التصريح بأنّ الأمر :”كان سياسياً بحتاً حيث لم أتمكن من تجاوز النظام”. حيث أنّ الجمود السياسي قد ضيّق عليه الطريق وجعل الأمر مستحيلاً. هذا في الوقت الذي يصرّح فيه اليوم بأن تعيين جهة تنظيمية هو مسألة مستحيلة ما لم يتمّ انتخاب رئيس جديد يتمتّع بسلطة الموافقة على تعيينات مجلس الإدارة.  

ومع ذلك، فإن الهيئة الناظمة للإتصالات التي تبدو خاملة لا تزال تخدم غرضاً قيماً، بكونها منفذاً للرعاية الوزارية. وعلى الرغم من غياب أعضاء مجلس الإدارة، فإن موظفي الهيئة الناظمة البالغ عددهم 33 موظفاً يحصّلون على رواتب مرتفعة للغاية مقارنةً بانخفاض إنتاجيتهم، وفق تقرير خاص أعدّه ديوان المحاسبة الأعلى في لبنان في نيسان 2022. ونتيجة لذلك يحتل قطاع الاتصالات في لبنان حالياً المرتبة 119 من حيث الحوكمة و126 من حيث التنظيم من بين 131 دولة على مستوى العالم حسب مؤشر جهوزية الشبكة. 

شكلت الإيرادات التي حققتها الشركات المملوكة للدولة في قطاع الاتصالات مورداً مالياً أساسياً للحكومة اللبنانية، حيث درّت ما يقرب من 17 مليار دولار بين عامي 2010 و2020. وهذا يضعها في مرتبة أخرى مقارنةً بالشركات المملوكة للدولة التي تدر الإيرادات في البلاد. وعلى الرغم من كونها إيجابية مالياً، فإن غياب تدابير الشفافية والمساءلة المتزامنة يعني أن هذه المؤسسات ما تزال تعاني من مشكلات هيكلية  تتعلق بسوء الإدارة المالية، كما ورد في تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022. إن أنظمة المحاسبة الداخلية في شركات تشغيل الهاتف المحمول وهيئة أوجيرو غير كافية، لأسباب أبرزها أنها لا تلتزم بقانون المحاسبة العامة في نفقاتها ولا تخضع لعمليات تدقيق منتظمة للنفقات أو لرقابة ديوان المحاسبة. وقد أدى ذلك إلى انتشار سوء تخصيص الأموال التي يتم إنفاقها على الأنشطة الترويجية، على الرغم من قلة المنافسين في القطاع والإيجارات وعقود الصيانة المبالغ فيها. 

 

 

الإصلاحات الموصى بها 

 

يستعرض هذا الدليل بعض الخطوات الراشدة التي من الممكن اتّباعها من أجل إصلاح عمل الشركات المملوكة للدولة في مجاليّ الاتصالات والكهرباء خصوصاً، وتحديداً كلّ من (Ogero)، و(MIC 1) ألفا، و(MIC 2) تاتش، ومؤسسة كهرباء لبنان. كما يستند على مجموعة من الأبحاث التي أجرتها بعض المنظّمات الدّوليّة بما فيها منظّمة التّعاون الإقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدولي.  جميع هذه التوصيات الصادرة عن هذه المجموعات تصبّ في سياق البيئة اللبنانية وهي نتيجة مقابلات تمّت مع خبراء في الشركات المملوكة للدولة في لبنان، مع أخذ التشريعات والمؤسسات والتحديات القائمة في البلاد، بعين الاعتبار.

1. رفض إنشاء صندوق سيادي للشركات المملوكة للدولة 

يجب التعامل مع ضرورة إصلاح الشركات المملوكة للدولة في لبنان من منظور تعزيز الصالح العام بدلاً من إثراء الطبقة الغنية. ففي عام 2020، طرحت جمعية مصارف لبنان (ABL) خطة إنقاذ بديلة اقترحت تحويل أصول الدولة – بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة – إلى “صندوق سداد الديون الحكومية” الذي يشرف عليه مصرف لبنان. وكان الهدف هو استخدام الإيرادات المتأتية من هذه الأصول لتسوية ديون الدولة لمصرف لبنان والمصارف التجارية. لكن سرعانَ ما تطوّر هذا النموذج المستحدث والذي أطلق عليه ما يسمى بـ “الصندوق السيادي” إلى “نموذج مقترح هو المؤسسة اللبنانية للاستثماروتمّ ذلك في العام 2021. تمّ تصميم هذه الشركة المساهمة – التي يديرها مصرف لبنان – لإدارة أصول الدولة واستخدام إيراداتها لتسوية الديون، مع الحفاظ على ملكية الدولة لهذه الأصول. 

أمّا من الناحية المؤسساتية فهناك خطر كبير من أن يقوم هذا الهيكل بتركيز السلطة على أصول الدولة في أيدي مجلس واحد تعيّنهُ قمّة النخبة السياسية في لبنان. ولن يقتصر الأمر على هذا، إذ سرعان ما ستصبّ السلطة في جوهره، وسيصبح أداةً موثرةً للغاية، وغير خاضعة للمساءلة ديمقراطياً. وليسَ بعيداً القولُ بأن الصندوق السيادي نفسه يتعارضُ بشكل أساسي مع الحلول العادلة لفكّ الأزمة المالية؛ لأنه سيحمل الدولة وحدها المسؤولية عن الانهيار المالي في لبنان، مما يعفي كلّ من مصرف لبنان والمصارف التجارية الأخرى من أي دور. علاوة على ذلك، فإن استخدام الأصول العامة لتغطية خسائر الدولة للبنوك يمثل سوء استخدام صارخ للموارد العامة. وفي ضوء هذه المخاوف، يجب رفض إنشاء صندوق سيادي للشركات المملوكة للدولة في لبنان بشدة لأنه لا يخدم المصلحة العامة.  

ليسَ بعيداً القولُ بأن الصندوق السيادي نفسه يتعارضُ بشكل أساسي مع الحلول العادلة لفكّ الأزمة المالية؛ لأنه سيحمل الدولة وحدها المسؤولية عن الانهيار المالي في لبنان.

2. تنفيذ تدابير الشفافية والمساءلة 

لا يمكن أن تتمّ عمليّة إصلاح الشركات المملوكة للدولة، في مجالي الاتصالات والكهرباء إلّا من خلال إجراء تدقيق مالي واضح ومفصلّ، من شأنه أن يفحص الأداء المالي والتشغيلي لهيئات أوجيرو وشركتي الاتصالات الخليوية ومؤسسة كهرباء لبنان. إذ أنّ هذه الشركات المملوكة للدّولة لا تلتزم اليوم بتقديم بياناتها الماليّة إلى وزارة الماليّة إلّا على أساس مخصص في شكل موازنة سنويّة؛ وهذا لأنّ مجالس إدارة هذه الشّركات ليست ملزمة قانونياً بتقديم مثل هذه المعلومات، وعليه تبقى هذه المعلومات غائبةً بشكلٍ عامّ.  

على التدقيق أن يتمّ من قبل شركة دولية ذات سمعة جيدة، على عكس هيئات أو إجراءات المراجعة الموجودة داخل الدولة، ووفقاً لتوصيات صندوق النقد الدولي.19 كما يجب العمل على تعزيز عمليات التدقيق الخارجي من خلال وضع ديوان محاسبة يتمتع بصلاحيات واسعة، مع تفويض وميزانية وقوى عاملة موسعة لتقييم ومعالجة نتائج التدقيق. لقد أظهر الديوان سابقاً قدرته على تحديد المخالفات المالية صراحةً داخل الشركات المملوكة للدولة. ومن شأن هذا التدقيق السنوي المنشور للشركات المملوكة للدولة أن يضمن مراقبة الأنشطة المالية على أساس منتظم. ومن أجل الالتزام بجميع هذه الخطّوات، فإنّه سيتم العمل على تقديم منصّة رقميّة مركزيّة، تتولّى إدخال المعلومات المالية السنوية من قبل موظفي الخدمة المدنية في كل مؤسسة مملوكة للدولة، ثم تجميعها ونشرها في سياق التقارير الكاملة من قبل الموظفين العموميين والخبراء في وزارة المالية. 

لاستكمال هذه المراجعة توصي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنشر تقرير إجمالي يغطي كافة أنشطة الشّركات المملوكة للدولة في لبنان بشكل سنوي. يشمل هذا التقرير معلومات تتضمّن القيمة الإجمالية لمحفظة الدولة من الشركات المملوكة للدولة، والمعلومات المالية الإجمالية والتقارير الصّادرة عن مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة، والنظر في المخاطر المالية المستمرة عبر مختلف القطاعات. 

وأخيراً، فإنّه من الضروري أن يتمّ إنشاء نظام متكامل لإدارة المخاطر في كل شركة مملوكة للدولة على حدة، يتولّى مهمّة قوم إعداد تقييمات دورية للمخاطر لقياس المخاطر الداخلية والخارجية من حيث احتمال حدوثها وتأثيرها. ومن شأن هذا النظام أن يعالج بشكل مباشر مجمل المخاطر المرتبطة بالفساد وأن يدرس أيضاً المجالات الأخرى التي من المحتمل أن تكونَ عالية المخاطر مثل العلاقات بين مجلس إدارة الشركات المملوكة للدولة والجهات التنظيمية والحوكمة. ومن المفضّل أن تكون نقطة البداية لهذا النظام اعتماد أداة فحص صحة المؤسسات المملوكة للدولة من صندوق النقد الدولي لتقييم السلامة المالية للشركات المملوكة للدولة من خلال مؤشرات تعكس ربحية الشركة وملاءتها وسيولتها، على أن يتمّ دمج تقييمات المخاطر مع التخطيط المركزي للسياسة المالية لوزارة المالية للحصول على نتائج مضمونة.  

 

 3. تعيين منظمي القطاع 

منذ عام 2002، تم تكليف قطاعيّ الاتصالات والكهرباء في لبنان بإيجاد هيئات ناظمة، وفقاً للقانون رقم 462/2002 والقانون رقم 431/2002. اليوم، وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على وضع القوانين السابقة، يلاحظ أن كلتا المؤسستين خارج نطاق العمل، وبدون أعضاء مجلس إدارة. وقد تمّت في هذه الفترة الممتدة، عملية نقل السلطات المندرجة ضمن اختصاص الهيئة التنظيمية، بما في ذلك، على سبيل المثال، القدرة على رفع ومراقبة التعريفات، إلى الوزراء المعنيين من خلال سلسلة من التدابير التشريعية.  

أما في الوقت الحاضر، فإنّ كلّ من القانون رقم 462/2002 والقانون رقم 431/2002 يخصّص لوزارتي الاتصالات والكهرباء – كل على حدة – صلاحية ترشيح أعضاء مجلس الإدارة، بطريقةٍ تخضع المرشّحين بعد ذلك لموافقة مجلس الوزراء. وهكذا، فإنّه كلما اتسعت المسافة بين التأثيرات السياسية والجهة التنظيمية، زادت الفوائد، وفقًا لما ورد في تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ومن المرجح أن تنتج هكذا مسافة قرارات تنظيمية متسقة ويمكن فهمها على المدى البعيد، كما وإن التطبيق المحايد للقرارات التنظيمية يتم ضمانه بشكل أفضل من خلال إبقاء هذه الكيانات “بعيدة عن الوزراء والوزارات”. 

لتفادي اتّساع هذه الفجوات، من الضروري أن تتمّ عملية تعيين أعضاء المجلس التنظيمي في قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان من قبل هيئة مستقلة تعطي الأولوية لمبادئ الجدارة في التوظيف، مع مصادقة البرلمان اللبناني لاحقاً على هذه التعيينات. كذلك‘ فإنّه يجب إخضاع أعضاء المجلس التنظيمي لمعايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للاستقلالية؛ ويشمل ذلك ضمان تعيين أعضاء الهيئات التنظيمية ومجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة وفقًا لتدابير تضارب المصالح، وتوفير تمويل “مسوّر” يحمي الأعضاء من التأثيرات غير المشروعة على قراراتهم الإدارية. 

يجب ترشيح أعضاء المجالس التنظيمية في قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان من قبل لجان اختيار مؤلفة من موظفي الخدمة المدنية والخبراء المعنيين.

4. إصلاح الحوكمة المؤسساتية 

إن إيجاد تدابير حوكمة، مع إعطاء الأولوية للشفافية والاستدامة، يقع في قلب إصلاح الشّركات المملوكة للدولة في مجاليّ الاتصالات والكهرباء. ومع القدرة على إعادة تشكيل الشركات المملوكة للدولة مؤسسياً وتقليص الصلاحيات الوزارية، فإن الإصلاح لا يزال من آخر الأولويات الوزارية في قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان. 

هذا في الوقت الذي تقع فيه ترتيبات الحوكمة للشركات المملوكة للدولة في لبنان “دون المستوى الأمثل” وفقاً لبحث أجراه معهد باسل فليحان المالي. وينطبق ذلك على مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة التي تكون إمّا غير معينة أو تخضع للمحسوبية الطائفية والضغوط السياسية. وأحدث مثال على ذلك تعيينات 2020 لمجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، التي أدانها الخبراء باعتبارها محاصصة طائفية. 

يجب أن تكون الخطوة الأساسية في إصلاح الحوكمة المؤسساتية للشركات المملوكة للدولة في لبنان التزامها الفوري بالمبادئ التوجيهية لحوكمة الشركات حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويستلزم ذلك أن تعمل مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة في مجال الاتصالات والكهرباء ضمن إطار قانوني وتنظيمي قوي يحمي استقلاليتها. كذلك، فإنّه يجب أن يكون هناك تطبيقٌ مصاحبٌ لمعايير حوكمة الشركات المملوكة للدولة التي تحترم وتعزز “ثقافة النزاهة المؤسسية” عبر كيانات إدارة الشركات المملوكة للدولة، على النحو المبين في تدابير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمكافحة الفساد للشركات المملوكة للدولة. خصوصاً في ظل غيابها في الوقت الحاضر، إذ تم إحالة ثلاثة من أعضاء مجلس إدارة أوجيرو إلى ديوان المحاسبة بتهمة ارتكاب مخالفات قانونية في سنة 2020. كما، أنّه من الضروري أن تتضمن التدابيرالمتّبعة سياسةً واضحةً ومحددة تحظر الفساد، وتلتزم صراحةً بالضوابط الداخلية من قبل مجالس الإدارة والطواقم الإدارية، وبتدابير أخلاقيات المهنة والامتثال بالمعايير، وتشجيع الثقافة المفتوحة التي تحثّ على الحكم الرشيد والنزاهة. 

 

5. إعادة عملية التعريفة إلى الجهة التنظيمية 

على التعريفات أن تعكس التكلفة العادلة لتقديم الخدمات وألّا تستخدم الزيادات الحاصلة عليها لتجنب الإصلاح وتغطية خسائر الإيرادات المفرطة الناجمة عن العمليات المؤسسية غير الفعالة والبالية، أو سوء الإدارة. كما من شأنها حين ترفع تكاليفها أن تراعي ظروف السوق التي تتم فيها هذه الزيادة.  

لقد كانت زيادة التعرفة سابقاً من اختصاص الجهات التنظيمية للقطاع، إلا أن التعديلات التشريعية المختلفة قد منحت سلطة تحديد ومراقبة تعرفة المرافق العامة إلى الوزارات المعنية واختصاصاتها. ومع ذلك، ونظراً للمستوى المطلوب من الخبرة لدى أعضاء المجالس التنظيمية، فإنهم سيكونون أكثر ملاءمة لتصميم منهجيات التعريفات. إنّ الالتزام بهذه المسألة من شأنه أن يسهّل الطريق أمام الجهة التنظيمية للتأكد من أن الأسعار النهائية التي يدفعها المستهلكون تعكس التكلفة المبررة للخدمات المقدمة وكافية لظروف السوق الحالية. لأنّه وفي غياب تنظيم سليم للتعرفة، فقد سعت وزارتا الطاقة والاتصالات لفرض زيادات غير منتظمة وسيئة التخطيط وغير فعالة على التعريفات منذ بداية الأزمة المالية في لبنان. 

تم الإعلان عن رفع التعرفة للكهرباء التي توفرها الدولة في نهاية عام 2022، وتم تطبيق هذه الزيادة في شباط 2023. وكان من المفترض أن زيادة تعرفة الكهرباء ستعني “الوصول إلى استرداد التكلفة من اليوم الأول”، وفقاً لما صرّح به فياض في مقابلة سابقة مع البديل . منذ ذلك الحين اعترف وزير تصريف الأعمال أن عدم القدرة على تحصيل فواتير الطاقة من العملاء يعني أن الخطة فشلت. جددت وزارة الطاقة والمياه جهودها لاسترداد التكاليف في أيلول 2023 على شكل مقترح دولرة تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان جزئياً. وقد هدف هذا الإجراء إلى التغلب على النقص الذي تعاني منه وزارة الطاقة والمياه في احتياطيات العملات الأجنبية اللازمة لتمويل صيانة البنية التحتية ودفع مستحقات موردي الوقود. لكن ذلك سيتطلب من مشتركي مؤسسة كهرباء لبنان تسديد فواتيرهم نقداً – بالدولار أو الليرة – بسعر صرف أعلى من السوق الموازية. 

أمّا في قطاع الاتصالات فقد شهدت تعرفة المكالمات الثابتة والإنترنت من أوجيرو زيادة بمقدار سبعة أضعاف في أيلول 2023. وفي هذا الصدد، قال جوني قرم في مقابلة مع البديل: “أنظر إلى الأمر على أنه تخفيض في التعريفة الجمركية”. وأوضح الوزير المكلّف أن ذلك يرجع إلى أن سعر التعرفة بالدولار أصبح الآن أقل من تكلفة خدمات الاتصالات مقارنةً بسعر الصرف قبل الأزمة. 

إنّ الانهيار المالي الذي بدأت تتمظهر تبعاته ابتداءً من العام 2019 قد بدأ يشهد انخفاضاً مصاحباً في القوة الشرائية، مما يعني أن التعريفات الجمركية كانت وما تزال تشغل جزءاً أكبر من ميزانيات الأسر. وكانت مجموعة من المتظاهرينَ قد تجمّعت أمام مقرّ شركة كهرباء لبنان في بيروت للتنديد بارتفاع فواتير الكهرباء في ظل غياب تحسن في الخدمات في أيلول 2023. والجدير بالذّكر، أنّه وبعد زيادة تعرفة الاتصالات في عام 2022، فقد أظهرت بعض التقارير بأن الأسر الضعيفة في لبنان – غير القادرة على دفع فواتير هواتفها – معزولة عن وكالات الإغاثة والمنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات الدعم الأساسية. 

وعلى الرغم من أنّ استمرار الإعانات لم يكن سيؤدي سوى إلى المزيد من استنزاف خزينة الدولة، فإن زيادة التعريفات وحدها لا يمكن أن تكونَ تدبيراً مستداماً للإصلاح في الشركات المملوكة للدولة في مجالي الاتصالات والكهرباء. كما أنّها تستغلّ غياب الإصلاحات المؤسساتية المصاحبة، لتضخّ الأموال إلى مؤسسات بالية وحسب، بهدف تمكينها من الاستمرار في العمل بشكل غير فعّال وغير منتج. ولذلك، يجب أن تكون التعريفات مصحوبة بالإصلاحات المؤسساتية المبينة في هذه الورقة، بما يتضمّن تفعيل هيئة ناظمة وإصلاح الحوكمة، والبدء بعمليات التدقيق السنوية، وإيجاد قانون جديد للشركات المملوكة للدولة.  

في غياب تنظيم سليم للتعرفة، فقد سعت وزارتا الطاقة والاتصالات لفرض زيادات غير منتظمة وسيئة التخطيط وغير فعالة على التعريفات منذ بداية الأزمة المالية في لبنان.

6. وضع المعايير والمبادئ المناسبة للخصخصة 

في عام 2021، حدد ألبير كوستانيان، الخبير الاقتصادي اللبناني الزميل في قسم السياسات في معهد عصام فارس التابع للجامعة الأمريكية في بيروت، سلسلة من المتطلبات المسبقة للنظر في خصخصة الشركات المملوكة للدولة في لبنان.20 شملت هذه المقترحات استراتيجية وطنية للشركات المملوكة للدولة، وبيئة تنظيمية سليمة، وقوانين وأطر مكافحة الفساد، وعمليات شراء كاملة وشفافة. ومع دخولنا في العام الجديد (2024) يلاحظ أن جميع هذه المتطلبات ما تزال غائبة عن التطبيق وغير محقّقة.  

تحمل كل مرحلة من عملية الخصخصة مجموعة فريدة من المخاطر المتعلقة بالفساد المحتمل – أي إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية – وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.  لهذا، يجب أن يخضع مشترو المؤسسات أو الشركاء المحتملون في الخصخصة إلى إجراءات التدقيق وتضارب المصالح وفقاً لما هو منصوص عليه في معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهذا مهم بشكل خاص نظراً إلى ما إذا كانت الخصخصة ستؤدي في الواقع إلى إزالة التدخل السياسي الشائع في العديد من القطاعات في الاقتصاد اللبناني. إذ ما تزال هناك مخاطر جمّة في عمليّة بيع أصول الدولة لشركة خاصة مملوكة أو تابعة لشخصية سياسية. 

وبالتالي فإن عملية الخصخصة – إذا تم إصلاحها – تتطلب وجود هيئة مستقلة ومحايدة وخبيرة تتمتع بسلطة على العملية. ويمتلك لبنان بالفعل الأسس لمثل هذا الكيان على شكل المجلس الأعلى للخصخصة الذي أنشئ بموجب القانون رقم 228/2000، والمكلف بالإشراف على تخطيط وتنفيذ برامج الخصخصة في لبنان؛ وهو يتشكل في الوقت الحاضر من لجنة وزارية يرأسها رئيس مجلس الوزراء وتتكون من أربعة أعضاء. وعليه، يجب أن تكون سلطة المجلس متوازنة من خلال إشراك الجهة التنظيمية للقطاع المعني بالشركة المملوكة للدولة. 

يجب توضيح أهداف الخصخصة ومبرراتها في شكل وثيقة ملزمة قانوناً يعدها المجلس الأعلى للخصخصة بالاشتراك مع مجلس تنظيمي، والتي سيكون من شأنها أن تتأكد من المدى الذي لم يعد مبرراً أن تقع المؤسسة المعنية فيه ضمن ملكية الدولة، وما هي أسباب ذلك.  كما يجب أن تتضمن الوثيقة خططًاً واضحة بشأن تخصيص العائدات المالية من خصخصة الشركة المملوكة للدولة. وبمجرد تسويتها، على الوثيقة  أن تقدّم لاحقاً إلى البرلمان بهدف الموافقة عليها قبل المضي قدماً في عملية الخصخصة. 

ويجب اتخاذ عدة خطوات بعد الخصخصة، بما في ذلك مراجعة الصفقة من قبل ديوان المحاسبة الأعلى. ومن المهم والفعّال أن يكون هناك مستوى عالٍ من المساءلة والشفافية في التعامل مع العائدات المالية لعملية الخصخصة، خاصة إذا تم تحويلها لتحقيق أهداف معينة في السياسة العامة مثل تخفيض الديون، أو إعادة استثمار العائدات لدعم الخدمات العامة، أو غيرها من أولويات السياسات. ويتم ضمان ذلك من خلال الوثيقة المذكورة أعلاه التي تحدد أين سيتم تخصيص الأموال قبل الخصخصة.  وعلى المجلس الأعلى للخصخصة، والجهة التنظيمية المختصة، التأكد بعد ذلك من تخصيص الأموال وفقاً للغرض الأصلي منها. 

 

التطلع قدماً 

 

تواجه الشركات المملوكة للدولة في قطاعيّ الاتصالات والكهرباء في لبنان عدداً كبيراً من التحديات، تتراوح بين الديون الباهظة وسوء الإدارة المالية المنهجية. وقد أدت هذه المصاعب – التي تم وضعها في سياق الأزمة المالية الحالية في لبنان – إلى انقطاع شديد في الخدمات ونزيف مالي على مدى سنوات طويلة. وما يفاقم من هذا الأمر، تضخّم الفجوة الملحوظة بين التفويضات القانونية والعمليات الفعلية، حيث تتجاوز الوزارات في كلا القطاعين حدودها في مجالات متعددة. 

يتطلب إحياء الشركات المملوكة للدولة في مجال الاتصالات والكهرباء في لبنان نهجاً متعدد الأوجه يعطي الأولوية للشفافية والحوكمة الفعّالة والاستقلال التنظيمي، والنظر الحذر في الخصخصة. وما لم يتمّ الالتفات إلى جميع هذه الخطوات المفصّلة ودعمها عن طريق الوزراء الذين لا يرغبون حالياً في التخلّي عن السيطرة على هذه الشركات في مجالات عدّة، فإنّه لن يتمّ تنشيط هذه القطاعات الحيوية لخدمة احتياجات لبنان الاقتصادية ومواطنيه بشكل أفضل.  

 

ملاحظة المحرر: يتوّجه كلّ من المحررين والمؤلفين التابعين لفريق العمل بالشّكر لكلّ من سابين حاتم وألبرت كوستانيان ولمياء المبيض على مساهماتهم في ورقة السياسات هذه.

المواضيع ذات الصلة