ملخص تنفيذي
تعاني الشركات المملوكة للدولة في لبنان من مشاكل جمّة، تضعها في حالةٍ حرجة للغاية إذ أنّها ترزح اليوم تحت ضغط سوء الإدارة والاضطرابات الماليّة وعدم الكفاءة النّظاميّة. وقد أدى الافتقار إلى إطار تشريعي يحدد عمل الشركات المملوكة للدولة وحوكمتها إلى ترسيخ الغموض المحيط بالرقابة والمساءلة. فضلاً عن أن نموذج الملكية اللامركزية – الذي تديره ظاهرياً وزارات فردية – يحجب تضارباً مثيراً للقلق في المصالح، حيث تقوم هذه الوزارات بتنظيم وامتلاك هذه الشركات في نفس الوقت؛ وهذا يتعارض بشكل واضح مع المعايير الدولية ويسلط الضوء على قضايا خطيرة تتعلق بالحوكمة. وبالتالي ينعكس هذا على تصنيف الشركات المملوكة للدولة باستمرار ضمن الأولويات القصوى لصندوق النقد الدولي للعمل الفوري في لبنان.
وقد كان صندوق النّقد الدولي قد وجّه تقريراً تحذيرياً حاداً للحكومة اللبنانية، في حزيران 2023، جاء في مضمونه أنّه : “من دون إصلاحات هيكلية للشركات المملوكة للدولة، فإن الظروف المعيشية اللبنانية سوف تتدهور أكثر نظراً للتأثير المتتالي على الخدمات العامة.” والآن، وبعد مرور سبعة أشهر على صدور التقرير، لم تتحقق الوعود الوزارية لصندوق النقد الدولي بتعيين الهيئات التنظيمية وإجراء عمليات التدقيق وإجراء مسح لممارسات الإدارة المؤسسية مما كان من شأنه أن يقيّض التأثيرات المتتالية التي حذر منها.
كما لم يحدّ من فساد الوزراء الحاليين في حكومة تصريف الأعمال في لبنان، الذين استمروا في اتباع تقليد راسخ وهو جعل الشركات المملوكة للدولة أداة رئيسة للفساد في الدولة. إذ تشمل الأولويات الوزارية الحفاظ على شبكات المحسوبية والعلاقات، ومركزية السلطة داخل مكاتبهم، وتحويل اللوم عن أوجه القصور في خدمات المرافق العامة. وبالطبع، فإنّ نتيجة كلّ هذه التراكمات كانت في أن أهملت الوزارات الإصلاحات العاجلة لتعزيز توفير الخدمات العامة الأساسية بطريقة عادلة وشفافة.
إنّ الاطلاع على تاريخ مؤسسة كهرباء لبنان وحدها كفيلٌ بأن يكشف لنا فساد الدّولة ومؤسساتها، إذ ما تستمر عمليات سوء تخصيص الأموال وعدم الكفاءة، ومقاومة عمليّات التدقيق الخارجي حتى هذا اليوم، مما يؤدي إلى خسائر مالية فادحة، تخطّت آخرها الـ 40 مليار دولار من الدين العام للبنان بحلول عام 2018. لم تنتهي المسألة هنا، فقد وصلت الاضطرابات إلى ذروتها وسط الأزمة المالية الحاليّة في لبنان، مع مقترح لتغيير تعرفة الكهرباء فشل في معالجة الأسباب الأساسية، مما ترك المواطنين يتصارعون مع انقطاع التيار الكهربائي اليومي. وبالفعل فإن فقر الطاقة أصبح الواقع الحالي في جميع أنحاء البلاد، وفقاً لـبحث لـ “هيومن رايتس ووتش”. وبالتالي فإن لبنان تكبّد دفع التكلفة ببيئته وصحة شعبه وثرواته.
أما بالنسبة للسلطات التنظيمية التي تم تشكيلها منذ عام 2002 فليس لها أيّ تواجد اليوم، حيث تتولى الوزارات أدوارها، مما ساهم في وضع لبنان ضمن تصنيف عالمي سيء للغاية في مجال الحوكمة والتنظيم. إذ لا تقتصر المشاكل على شركة الكهرباء فيه والأقبية التابعة لها بل ينطبق الشيء عينه على شركة الاتصالات المملوكة للدولة، مثل (Ogero) و(MIC1) (Alfa)، و(MIC2)و(Touch)، التي تعاني جميعها من تحديات الإدارة وسوء الإدارة المالية، رغم أنها تولد إيرادات كبيرة. وقد وثّق تقرير لاذعٌ صدر في نيسان 2022 من قبل ديوان المحاسبة اللبناني، سوء تخصيص الأموال العامة من هذه المؤسسات المملوكة للدولة والانتهاكات القانونية من قبل وزارة الاتصالات.
لا يمكن تفادي هذه المشاكل من دون إرساء التدابير اللازمة للشفافية والمساءلة أولاً، بما في ذلك عمليات تدقيق خارجي تجريها شركات دولية ذات سمعة جيدة، بدعم من محكمة عليا تتمتع بالصلاحيات لمراجعة الحسابات. إن تعيين هيئات تنظيمية مستقلة للقطاع، تلتزم بمعايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من شأنه أن يوفر الفصل المطلوب بشدة بين السلطات ويضمن حيادية القرارات الصادرة.
إن إصلاحات الحوكمة المؤسسية، المستوحاة من المبادئ التوجيهية لحوكمة الشركات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ضرورة أساسية لعمل الشركات المملوكة للدولة بشكل مستقل وشفاف. ومن شأن استعادة سلطة تحديد التعريفات للهيئات التنظيمية أن يمنع الزيادات غير المنتظمة وأن يعمل على مواءمة التكاليف مع ظروف السوق. ومع ذلك فإنه من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التعريفات وحدها لا تستطيع إنقاذ القطاعات جميعها، بل من الضروري إجراء إصلاح شامل يتضمن عمليات التدقيق السنوية والتنشيط التنظيمي وإصلاحات الحوكمة، فضلاَ عن سنّ قانون جديد للشركات المملوكة للدولة يترافق مع هذه الخطوات التدبيريّة ويحددّ أطر عملها وينظّمها.
أمّا بالنسبة للخصخصة – ورغم كونها حلاً محتملاً – فهي تتطلب تخطيطاً دقيقاً. إن غياب استراتيجية وطنية، وبيئة تنظيمية سليمة، وأطر واضحة لمكافحة الفساد، يستلزم اتباع نهج حذر، كي لا تتكرر الأخطاء الماضية. وينبغي للمجلس الأعلى للخصخصة، معززاً بالرقابة التنظيمية، أن يوجّه هذه العملية، ويضمن تخصيص العائدات بشفافية وبما يتماشى مع أهداف السياسة العامة. وعلى هذا المجلس والتابعين له، أن يحيدوا عن ما يسمى بـ “الصندوق السيادي” الذي يبدو جلياً أنّه ليس في مصلحة العامّة والذي – رغم ذلك – ما يزالُ يقترحه القطاع المصرفي والعديد من السياسيين، والذي سيشهد استخدام أصول الدولة لتغطية الالتزامات المستحقة على البنوك التجارية.
قد لا يبدو إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة ظاهرياً أولويّة فوريّة، اليوم، وسط الأزمة المالية الحادة التي تعيشها البلاد، ومع تضخم بنسبة %252 تقريباً وانهيار فيض قيمة العملة بنسبة 90%. كلّ هذا مشروع، لكنّ حقيقة الأمر التي لا يمكن تجاهلها هي أن إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة يقع في قلب الانتعاش الاقتصادي، خاصّةً في لبنان حيث تراكم هذه المؤسسات الديون وتوابعها وتعزّز المحسوبية في القطاع العام. وبالتوازي فإن كلا الجانبين – أي الشركات المملوكة للدولة والدولة اللبنانية نفسها – يساهمان اليوم في ترسيخ الأزمة الحالية وسيطرة النخبة على الدولة. ومن دون إصلاح حقيقي للشركات المملوكة للدولة، ليس هناك أمل كبير في أن يتعافى لبنان حقاً من مأزقه الحالي، ناهيك عن توفير الخدمات الأساسية لشعبه.
مقدمة
يمكنُ فهم المؤسسات المملوكة للدولة بشكل عامٍ على أنها كيانات مملوكة للقطاع العام تعمل باستقلال إداري ومالي، وتخضع لملكية وسيطرة الحكومة -جزئياً أو كلياً – وتمارس نشاطات تجارية أو اقتصادية، على النحو المحدّد من قبل صندوق النقد الدولي. يوجد في لبنان، اليوم 22 مؤسسة مملوكة للدولة وفقاً لهذا المعيار، تتراوح من مقدميّ الخدمات العامة إلى المؤسسات التجارية.3 إلّا أن هذه الشركات المملوكة للدولة لم يتم تعريفها أو تفصيلها رسمياً في التشريعات القائمة في لبنان، مما يسهم في خلق الغموض حولها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالرقابة والمساءلة.
تعمل الشركات المملوكة للدولة في لبنان حالياً بموجب نموذج “لامركزية” الملكيّة وفق معيار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وفي إطار اللامركزية هذا يتم تكليف الوزارات الفردية بملكيّة كل مؤسسة وإدارتها. ومع ذلك، لم يتم توضيح هذا النظام بشكل صريح في التشريعات القائمة، مما يؤدي إلى غموض وتضاربات حول إدارة هذه المؤسسات. وفي حالة غياب الهيئات التنظيمية النشطة في لبنان، فإنّه غالباً ما تتولى الوزارات المعنية المهام التنظيمية والملكية للشركات المملوكة للدولة الخاضعة لسلطتها، متجاوزةً بذلك التشريعات اللازمة التي تقتضي الفصل والتنظيم، إذ تتعارض هذه الازدواجية في الوظائف مع المعايير الدولية بشكل مباشر وتدلّل على مشكلة مفصلية في مجال الحوكمة.
يتطلب إصلاح الشركات المملوكة للدولة في لبنان استراتيجية متوازنة تعالج القضايا الأساسية التي تؤثر على الشركات في جميع المجالات، مع تقديم نهج مصمم خصيصاً لمعالجة التحديات المحددة لكل مؤسسة على حدة. أما على مستوى الشركات بشكل عام، فإن قانوناً جديداً للشركات المملوكة للدولة سيتوكلّ مهمة وضع استراتيجية واضحة للملكية وبالتالي تحديد الأهداف الرئيسة ومبادئ الرقابة والإدارة وفقاً لما جاء توصيات صندوق النقد الدولي صدر عقب زيارة ممثليه للبنان في حزيران 2023.
غالباً ما تكون الشركات المملوكة للدولة الناشطة في قطاعي الكهرباء والاتصالات في لبنان على النقيض من بعضها فيما يتعلق بالأداء الوظيفي، نظراً للخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات التي تكشف عن فجوة الخسائر التي تكبدتها كل واحدة على حدة، مقابل الأرباح الخاصة بأخرياتها. ومع ذلك، تعاني كلّ واحدة من هذه الشركات تحديات نظامية ومؤسسية عميقة تتطلب الإصلاح بشكل عاجل لتحسين جودة وتكاليف الخدمات التي تقدّمها للبنانيين. سوف نعرض فيما يلي أدناه دراسات حالة أساسية موجزة عن كلا القطاعين، مع تقديم التوصيات اللاحقة كأمثلة على المنفعة العامة التي يمكن تحقيقها عبر عملية إصلاح مجموعة الشركات المملوكة للدولة في لبنان بأكملها.