تجنباً للإرتطام الكبير: الفرصة الأخيرة لاسترداد ودائع اللبنانيين

دليل استعادة جنى عمر المودعين اللبنانيين

1 كانون الأول، 2023

حررت بواسطة: سبنسر أوسبرغ

المقدمة

يمر لبنان منذ أربع سنوات بواحدة من أسوأ الانهيارات المالية في التاريخ الحديث، في ظل تعثر الجهود المبذولة لحل الأزمة. وتتحمل المسؤولية الأساسية عن هذه الأزمة نخبة سياسية ومالية، على رأسها رياض سلامة الذي كان حتى وقت قريب حاكماً لمصرف لبنان (البنك المركزي اللبناني). لقد أدت السياسات المُنفلتة من الضوابط القانونية التي وضعها سلامة بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019، عندما تخلفت البنوك التجارية عن سداد التزاماتها تجاه عملائها باستثناء النافذين منهم، إلى حماية تلك البنوك من الإفلاس. كما سمحت سياسته في تعدد أسعار الصرف للنخبة المصرفية والتجارية بمواصلة نهب مليارات الدولارات من الأموال العامة، حتى عندما منعت البنوك التجارية عملاءها العاديين من سحب مدخراتهم. 

لم يُحاسب مساهمو وأعضاء مجالس إدارة بنوك “الزومبي” هذه أبداً، لا على مسؤوليتهم المباشرة في فشل مؤسساتهم المالية ولا على دورهم في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد. وفي الواقع، فقد تهربوا قانونياً ومالياً من المسؤولية عن كارثة كان لهم اليد الطولى في إحداثها. ويصبح ذلك مفهوماً إذا كانت معظم هذه النخب المصرفية والمسؤولين عن محاسبتهم، أي الطبقة السياسية، هم مجموعة واحدة، أو على الأقل يأكلون على الطاولة نفسها، كما يقال، نتيجة علاقاتهم العائلية والتجارية.

لكن درع الإفلات من العقاب بدأ بالتصدع. لأن بعض الدول الغربية أدرجت رياض سلامة، مهندس مخطط بونزي المنظم الذي دمر النظام المالي الهش أصلاً في لبنان، على قائمة عقوباتها، وهو على وشك المثول أمام محاكم دولية، مما أثار قلق أعضاء آخرين في النخبة المصرفية والسياسية على حساباتهم المصرفية الأجنبية الخاصة، ومنازلهم الفخمة لقضاء العطلات في الريفييرا الفرنسية، وشققهم الفاخرة في العواصم الغربية، متسائلين هل تكون مصادرة ثرواتهم هي الخطوة التالية. وبالفعل، فإن توقيف السلطات الفرنسية لرئيس بنك الموارد مروان خير الدين أثناء عبوره من مطار شارل ديغول في باريس أبرز مدى الخطر الذي يواجه النخبة المصرفية. وإذا أضيفت أسماء أخرى إلى قائمة العقوبات الدولية، ونأمل أن تُضاف، فسيدفع ذلك البقية بسرعة لإبرام صفقة. ومن هنا تأتي أهمية الاستمرار في الضغوط الدولية إذا أردنا إنهاء أزمة لبنان وبدء المسار الطويل نحو التعافي المالي والاقتصادي. 

طرح كل من الحكومة والقطاع المصرفي التجاري، على التوالي، خطتين تحددان رؤيتهما لحل الأزمة. ورغم اختلاف الخطتين في جوانب عدة، فإنهما تتفقان على تحميل عموم المودعين العبء الأساسي لخسائر البنوك. ولا يخفى الظلم الناجم عن هذه الممارسة على أي صاحب ضمير، وقد انتقدها صندوق النقد الدولي ومعظم الخبراء المعنيين الآخرين. يجب استعادة الودائع بموجب رؤية تعويضية تحظى بشرعية محلية ودولية. وهذا يعني أن يرى الشعب اللبناني الذين تسببوا في أزمته، ولا يزالون يستفيدون منها، وراء القضبان، وأن يحصل من تحمل وزرها دون مبرر على تعويضات مناسبة. ويجب أن تلتزم الأطراف المعنية الدولية، التي ينتظر أن تلعب دوراً حاسماً في نجاح الخطة، بالمعايير المصرفية الدولية في الامتثال والحوكمة والتنظيم. والأهم من ذلك، يجب أن تراعي الخطة الحقائق السياسية والتاريخية في لبنان، واتخاذ كل ما هو ضروري لإجبار من بيدهم مقاليد السلطة على التحرك، وأن تعترف بأن الازدهار الاقتصادي يتطلب من البنك المركزي وقطاع الخدمات المصرفية التجارية استعادة مقومات الحياة والنمو. وخطة الاسترداد التدريجي للودائع (الخطة) الواردة أدناه تلبي جميع هذه المعايير.

 على صنّاع السياسات النظر في هذه الخطة بصورة عاجلة أيضاً، نظراً للتكلفة الباهظة للتقاعس عن التحرك، فلو أنها نفذت في عام 2020، لحصل نحو 98% من المودعين (أي كل من لديهم مدخرات أقل من 500,000 دولار) على كامل أموالهم فوراً. لكن مليارات الدولارات سُرقت من النظام المالي اللبناني منذ ذلك الحين، مما يعني أن الدفع الآن سيشمل على الأرجح فئة المودعين تحت 100,000 دولار، وهذا الرقم مرشح للانخفاض مع كل يوم تستمر فيه الأزمة المصرفية دون حل.

إلى جانب الاتفاق على مستوى الموظفين بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، تعد الخطة خطوة أولى ضرورية لبدء عملية التعافي الاقتصادي العام. وكلما تأخرنا في تنفيذها وتنفيذ الاتفاق، كلما ترسخت دورات الأعمال غير المنظّمة وتراجع احتمال تعافي الحكومة أكثر مما سبق. لبنان على شفير هاوية التحول إلى دولة فاشلة، وعلينا أن نبعده عنها.

 خطة الاسترداد التدريجي الودائع: 

المرحلة الأولى: التدقيق المالي الشامل، وإجراءات الامتثال، وسداد المودعين، واسترداد الفوائد

يجب أن تبدأ عملية السداد للمودعين بإجراء تقييم تفصيلي للقطاع المصرفي، ولاسيما مقدار الأموال التي تحتفظ بها البنوك حالياً، والمبالغ المستحقة عليها. وبالتالي، فإن الشرط الأساسي لانطلاق المرحلة الأولى من الخطة هو إجراء تدقيق مالي شامل للبنوك التجارية ومصرف لبنان. ولهذا التدقيق حسنات كثيرة، بينها تحديد الحجم الدقيق لـ “الفجوة المالية”، أي الفرق بين مقدار دين البنوك للمودعين وبين الأموال المتوفرة لديها للدفع الفوري لهم. وتقدر التزامات البنوك التجارية تجاه المودعين حالياً بنحو 93 مليار دولار، في حين تُقدر الأصول السائلة للبنوك وودائعها الاحتياطية الإلزامية في مصرف لبنان في حدود 13 مليار دولار، مما يعني أن الفجوة المالية تصل إلى 80 مليار دولار. والتدقيق المالي الشامل كفيل بإزالة أي غموض في هذا الصدد.

بعد التدقيق، يبدأ على الفور تنفيذ التدابير المالية الواردة في المرحلة الأولى من الخطة، مما يضمن استعادة صغار المودعين، الذين يشكلون الغالبية العظمى من أصحاب الحسابات، لجميع مدخراتهم، ويسمح بإطلاق عملية إغاثة اجتماعية سريعة وواسعة النطاق في خضم الأزمة الإنسانية القاسية التي تعصف بالبلاد. أما المرحلة الثانية (الواردة أدناه) فتتضمن استرداد الودائع الكبيرة وتتطلب إجراءات قانونية معينة، مما يجعل عملية الاسترداد التدريجي لهذه المدخرات تستغرق وقتاً أطول.

والأهم من ذلك، أن جميع مدفوعات الودائع في المرحلتين الأولى والثانية من الخطة ستكون بعملة الوديعة الأصلية، مما يقطع الطريق نهائياً على ما يسمى “التليير”، ويُميزها عن خطة الحكومة السابقة التي تضمنت سداد نصف الودائع بعملة الإيداع الأصلية والنصف الآخر بالليرة اللبنانية.

تحديد سقف السداد في المدى القريب

تعد جميع الحسابات التي تقل عن عتبة الامتثال (الواردة أدناه) مؤهلة لاستعادة جزء من مدخراتها على الأقل في عملية السداد في المدى القريب. وذلك على غرار التأمين على الودائع المطبق في الاقتصادات المتقدمة الذي يجعل جميع الحسابات المعنية مؤهلة للسداد حتى مبلغ محدد مسبقاً. وكما ذكرنا، يُحدد سقف السداد هذا وفق الاحتياطيات النقدية للبنوك التجارية والاحتياطيات المتاحة في مصرف لبنان.

الجدير بالذكر أنه لو نفذت خطة استرداد الودائع في عام 2020، عندما بلغت احتياطيات مصرف لبنان نحو 33 مليار دولار، لارتفع سقف السداد في المدى القريب إلى 500,000 دولار وغطى 98% من جميع المودعين. لكن احتياطيات مصرف لبنان انخفضت منذ ذلك الحين إلى حدود 8-9 مليار دولار جرّاء برنامج الدعم باهظ التكلفة الذي وضعة الحاكم رياض سلامة الذي أتاح كمية هائلة من الدولارات بأسعار مخفضة للمصرفيين ونخبة العملاء.

لن يُعرف سقف السداد الحالي ما لم تكتمل عملية التدقيق المالي الشامل، لكن التقديرات الحالية تشير إلى أن الاحتياطيات النقدية المتاحة للبنوك التجارية ومصرف لبنان ليست كافية لتغطية سقف السداد البالغ 100,000 دولار الذي اقترحته الحكومة اللبنانية. والأمر الواضح أيضاً أن سقف السداد المحتمل سيستمر في الانخفاض كلما طال الوقت.

مع ذلك، سيظل معظم المودعين الصغار جداً، رغم عددهم الكبير، قادرين على الاسترداد الفوري لأموالهم بموجب الخطة إذا نُفذت في وقت قريب. إن الحسابات المعفاة من الامتثال التي تتجاوز سقف السداد على المدى القريب، سيتم استردادها إلى حدود السقف المذكور، فيما تعالج بقية الوديعة في المرحلة التالية من الخطة.

تطبيق معايير الامتثال

إن أحد الاعتبارات المهمة في استرداد الودائع هو أن الاقتصاد اللبناني غير المشروع، الذي يغذيه الفساد المستشري والمحسوبية الممنهجة والتنفيذ التعسفي للقوانين والأنظمة، أصبح يشكل جزءاً كبيراً من التجارة الكلية ومن الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك يمكن افتراض أن جزءاً كبيراً من الودائع المصرفية المتبقية هي، جزئياً أو كلياً، عائدات عمليات فساد وغسل أموال وتهرب ضريبي، ويجب ألا تكون مؤهلة للاسترداد. لكن كمّ الوقت والجهد والتعقيد الذي يتطلبه تطبيق إجراءات الامتثال على جميع الحسابات الحالية البالغ عددها 1.42 مليون حساب يجعل الخطة بأكملها غير قابلة للتنفيذ. ولذلك يجب وضع عتبة تُعفى بموجبها الحسابات الواقعة تحتها من إجراءات الامتثال. وبتطبيق توزيع باريتو (20-80) على أحجام الودائع المصرفية، حيث يمتلك جزء صغير من المودعين الجزء الأكبر من الأموال، فإن وضع سقف مناسب يسمح بتدقيق معظم الأموال وتجنب عملية مرهقة للغاية.

فمثلاً، هناك 1.3 مليون حساب (نحو 94% من إجمالي أصحاب الحسابات) لديها ودائع أقل من 200,000 دولار، ولكن قيمة ودائعهم تشكل 30% فقط من قيمة جميع الحسابات (كما ورد في الشكل 1 أعلاه). أما نسبة 70% المتبقية من قيمة جميع الودائع (65.54 مليار دولار) فهي موجودة في 87,000 حساب فقط. فإذا وضعت العتبة (السقف) عند 500,000 دولار، يتم إعفاء نحو 98% من جميع الحسابات من الخضوع لإجراءات الامتثال. أما نسبة 2% المتبقية من الحسابات الخاضعة لإجراءات الامتثال، التي يبلغ مجموعها 28,000 حساب، فستظل تحتفظ بنحو 47 مليار دولار، أي أكثر من 98% من الحسابات الأخرى مجتمعة.

الشكل 2: توزيع الحسابات حسب العدد والقيمة، 2022

وهذا يتطلب التفاوض على عتبة امتثال دقيقة ومراعاة الموارد المتاحة لتنفيذ هذه الإجراءات. ويُمنح أصحاب الحسابات الذين تتجاوز ودائعهم عتبة الامتثال مدة ستة أشهر لتقديم وثائق تثبت أن أموالهم جاءت من مصادر شرعية. وبعد ذلك، تخضع لتصديق متعدد المراحل، تُنفذ البنوك التجارية المرحلة الأولى، وتُنفذ المرحلة الثانية لجنة متخصصة في مصرف لبنان، ثم تصدر المحاكم قراراً نهائياً. وإذا لم يقدّم المودعون وثائق تثبت شرعية أموالهم، أو لم تحظ بالتصديق، يفقد المودع حقوقه في الحساب المعني، ويُحذف المبلغ الموجود فيه من الالتزامات المصرفية. ثم تحول المبالغ الموجودة في تلك الحسابات إلى حساب مجمّد في مصرف لبنان، شريطة شطبه بعد فترة زمنية محددة.

استرداد مدفوعات سداد الفائدة المفرطة اعتباراً من عام 2015</h3

بعد الانتهاء من السداد في المدى القريب، يبقى نوعان من الودائع مؤهلان للاسترداد: أولاً، الودائع تحت عتبة الامتثال التي لم تُسدد بالكامل، ثانياً، الودائع التي اجتازت إجراءات الامتثال. والمهم أن استبعاد الحسابات التي لم تحقق شرط الامتثال يخفض إجمالي الالتزامات المصرفية المتبقية. ويزداد تخفيض الالتزامات المتبقية بعد استرداد الفائدة المفرطة التي دفعتها البنوك التجارية بموجب برنامج الهندسة المالية وفق مخطط تمويل بونزي الذي اتبعه مصرف لبنان. ولاسيما، تطبيق استرداد مدفوعات الفائدة اعتباراً من عام 2015. وتكمن أهمية هذا العام في أن صافي احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية أصبح سلبياً، وذلك بالدرجة الأولى نتيجة الفائدة الخيالية التي كان يدفعها للبنوك التجارية التي دفعت بدورها جزءاً منها للمودعين.

اختلفت الفوائد التي قدمتها البنوك التجارية للعملاء لجذب الودائع بالعملات الأجنبية والمحلية حسب البنك، لكنها عموماً لم تتفق كثيراً مع المعايير الدولية. وقدمت البنوك التجارية بين عامي 2015 و2019 فوائد وصلت في بعض الأحيان إلى 25% على الودائع بالعملات الأجنبية – وحتى أعلى من ذلك على الودائع بالليرة اللبنانية – في حين كان السعر السائد في السوق في تلك الفترة على الودائع بالدولار بحدود 3%. ولهذا السبب ستقوم الخطة بحساب مدفوعات سداد الفائدة في الحسابات المتبقية بمعدل 3%. ويتوقع أن يخفض ذلك التزامات الودائع المستحقة بنحو 9 مليار دولار.

المرحلة الثانية: السحب النقدي الطوعي، وخطة إنقاذ داخلية للقطاع المصرفي، وصندوق استرداد الودائع

تتضمن المرحلة الثانية من الخطة ثلاث طرق لاسترداد الودائع المتبقية في البنوك التجارية: السحب النقدي الطوعي، وخطة إنقاذ داخلية للقطاع المصرفي، وإنشاء صندوق لاسترداد الودائع، على أن يحتوي جدول استرداد الودائع للمودعين مزيجاً من هذه المصادر. وتعتمد نسب هذا المزيج على المبالغ المتاحة في كل مصدر من هذه المصادر الثلاثة التي يُموّل كل منها بشكل مختلف.

السحب النقدي الطوعي

يستطيع المودعون استرداد جزء من مدخراتهم من خلال السحب النقدي الطوعي. وهذا يعني حصول المودع على جزء من أمواله ولكن بموجب معدل خصم محدد، شريطة ألا يتجاوز هذا المبلغ 10% من حجم إيداعاته. وهذا الشرط ناجم عن محدودية مصدر تمويل هذه الطريقة لاسترداد الودائع.

ويمول السحب النقدي الطوعي من استرداد أرباح الأسهم التي دفعتها البنوك التجارية لمساهميها منذ بداية برنامج الهندسة المالية في مصرف لبنان في عام 2015. ومنذ عام 2009 وحتى هذا العام، دفعت البنوك أكثر من 80% من إجمالي أرباحها للمساهمين على شكل توزيع أرباح الأسهم.

تشير نسبة توزيع الأرباح ذات الارتفاع الخيالي، التي حالت دون إعادة الاستثمار في العمليات التجارية الأساسية، إلى أن البنوك أصبحت أداة شفط لتزويد المساهمين بالنقد بدلاً من ممارسة عملياتها التجارية المعتادة. وقد ساهم هذا التربّح المتهور بشكل مباشر في إفلاس القطاع المصرفي، ثم برر التراجع عن استرداد توزيعات الأرباح. وسيتعرض المساهمون الذين لا يمتثلون لإعادة توزيع أرباح الأسهم إلى مصادرة قانونية لأموالهم في لبنان، وفي الخارج عندما يصبح ذلك ممكناً.

خطة إنقاذ داخلية

يقدم التدقيق المالي الشامل للبنوك التجارية حساباً لجميع أصول البنك، السائلة وغير السائلة. وفي حين يتم توزيع الأصول السائلة في المرحلة الأولى من الخطة لسداد ودائع صغار المودعين على الفور، فإن غير السائلة تسمح بتحديد القيمة السوقية العادلة للبنك.

بسبب إفلاس المصارف، قد يفقد المساهمون الحاليون حقوقهم في حصصهم من الأسهم المعرضة للمصادرة ما لم تطرح “خطة إنقاذ داخلي” تعتمد على هؤلاء المساهمين، يضعون بموجبها رأس مال جديداً يساوي قيمة الأسهم التي يرغبون في الاحتفاظ بها. وبدلاً من سداد الودائع للمودعين، يمكنهم، بموجب “خطة إنقاذ داخلي”، الحصول على أسهم مصادرة في بنكهم تساوي قيمتها الودائع التي يختارونها، على أن يتم تسعير الأسهم وفق القيمة السوقية العادلة للبنك. ويحق للمودعين بعد ذلك بيع هذه الأسهم أو الاحتفاظ بها، في إطار خضوع القطاع المصرفي اللبناني لعمليات دمج وإعادة هيكلة. ومن المهم أن كل بنك، بصفته مؤسسة مالية، سيحتفظ ببعض رأس المال لأغراض تشغيلية.

صندوق استرداد الودائع

تقترح الخطة إدخال الالتزامات المتبقية للبنوك التجارية في صندوق استرداد الودائع. ويكمن الفرق الأساسي بين هذه الخطة والخطة التي اقترحتها الحكومة اللبنانية في نيسان/أبريل 2020 في أن الأخيرة دعت إلى استخدام الأصول والإيرادات العامة، ومنها إيرادات النفط والغاز المتوقعة، لتمويل استرداد الودائع، في حين تعارض هذه الخطة استخدام أي أصول أو إيرادات عامة لتغطية خسائر البنوك التجارية. وهذا يتفق مع المعايير الدولية المعتمدة في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008. ويُمول صندوق استرداد الودائع من ثلاثة مصادر:

  1. الدين الحكومي: تُحوّل جميع سندات اليورو الصادرة عن الحكومة التي تحتفظ بها البنوك التجارية والبنك المركزي إلى صندوق استرداد الودائع، وتلتزم الحكومة بسداد هذه الالتزامات. وهذه هي المساهمة المالية الوحيدة للحكومة في الخطة. ولا يوضع جدول زمني لسداد سندات اليورو هذه إلا بعد التفاوض مع جميع حاملي سندات اليورو، بمن فيهم الدائنون الدوليون، لتحديد القيمة الإسميّة الجديدة للسندات وغيرها. 
  2. الأصول التي استحوذ عليها مصرف لبنان: شهد مصرف لبنان تعرض بنوك تجارية عدة في البلاد للإفلاس. ومن الأمثلة البارزة إفلاس بنك إنترا وبنك المشرق. وبموجب القانون، استحوذ مصرف لبنان على هذه البنوك وعلى جميع أصولها. وبذلك حصل على حصص مسيطرة في مؤسسات تجارية عدة، كطيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان، إلخ، ويجب أن تُنقل ملكية هذه “الأصول المكتسبة” المنتجة للإيرادات إلى صندوق استرداد الودائع. ومن المهم التأكيد على أن ذلك ليس عملية خصخصة بأي شكل من الأشكال، بل هي عملية نقل ملكية من هيئة عامة إلى أخرى. كما تُحول الأصول المنتجة للإيرادات للبنوك التي أعلن عن إفلاسها إلى صندوق استرداد الودائع بموجب الخطة. وتُخصص الإيرادات المتكررة الناتجة عن هذه الأصول للاستخدام الفوري والحصري للنقابات المهنية اللبنانية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لتقديم الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية وغيرها من أشكال الحماية الاجتماعية لأعضائها حتى استرداد هذه الودائع الكبيرة. 
  3. الإجراءات القانونية: قد تشكل الإجراءات القانونية ضد من تسبب بالأزمة المالية الحالية واستفاد منها، ولا يزال، أكثر الجوانب تعقيداً واستنفاداً للوقت والجهد والمشاحنة السياسية في الخطة. لكنها الأكثر أهمية أيضاً لأغراض المساءلة. وتندرج الإجراءات القانونية في أربع فئات رئيسية: 
    1. استرداد جميع التحويلات الاستنسابيّة الضخمة التي أجراها النظام المصرفي اللبناني في الأشهر التي سبقت مباشرة توقف البنوك التجارية عن السداد في تشرين الأول/أكتوبر 2019، والسنوات التي أعقبت ذلك، ففي آذار/مارس 2019، بدأت البنوك التجارية بتطبيق إجراءات متصاعدة أعاقت سحب مدخرات معظم المودعين، وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه أوقفت تقريباً جميع عمليات السحب لهؤلاء المودعين. بالتوازي مع ذلك، تمكنت قلة من المودعين الذين تتجاوز حساباتهم 100 مليون دولار من تحويل أكثر من 5 مليارات دولار من النظام المصرفي اللبناني بين حزيران/يونيو 2019 وتشرين الثاني/نوفمبر 2022 . وسيسمح التدقيق المالي الشامل بمعرفة التفاصيل الدقيقة عن عمليات التحويل المذكورة. ويجب فتح تحقيق مع كبار المودعين من الشخصيات السياسية البارزة الذين سحبوا مبالغ ضخمة من حساباتهم قبل تخلف البنوك عن السداد مباشرة وتوجيه تهمة الاستفادة غير القانونية من معلومات داخلية لهم. فالتحويلات الكبيرة بعد تخلف بنك تجاري عن السداد تُعد تمييزاً بين المودعين، أي السماح لبعضهم فقط بسحب أمواله، وهي عملية غير قانونية بموجب قانون النقد والتسليف. والمودعون الذين لا يمتثلون لذلك يجب أن تُصادر أموالهم بموجب القانون في لبنان، وفي الخارج عندما يصبح ذلك ممكناً. كما يجب استرداد الأموال التي ثبت تحويلها بشكل غير قانوني.
    2. فرض عقوبات مالية على من سهّل إجراء تحويلات غير قانونية ومن استفاد منها: تشمل الفئة الأولى كبار مديري البنوك وأعضاء مجالس الإدارة وأصحاب البنوك التجارية، في حين تشمل الفئة الثانية الشخصيات السياسية البارزة التي استغلت علاقاتها ونفوذها لتحويل أموالها إلى الخارج. وتحسب الغرامات المالية على شكل نسبة مئوية من قيمة المبالغ المحولة التي تُحسب على أساس الفرق بين ما ثبت تحويله بشكل غير قانوني وما لم يتم استرداده بعد. وهذه الطريقة تشجع على إبداء التعاون مع المحققين. ويرتبط التفاوض على تخفيف العقوبة بزيادة هذا التعاون. ومن يمتنع عن دفع الغرامات المالية ستُصادر أمواله في لبنان، وفي الخارج عندما يصبح ذلك ممكناً.
    3. الاستيلاء على الأموال الناتجة عن أنشطة غير مشروعة: فتح تحقيق مع أصحاب الحسابات التي لم تحقق شرط الامتثال (كما ورد في المرحلة الأولى) للكشف عن الفساد والأنشطة الإجرامية، ومصادرة أصولهم عند الاقتضاء. وينصب التركيز على الشخصيات السياسية البارزة وكبار الموظفين العموميين والمصرفيين والدائرين في فلكهم. ويهدف ذلك إلى محاسبة من استغل سلطته، أو قربه من السلطة، للقيام بعمليات فساد ومحسوبية واختلاس للأموال العامة. وعند الضرورة وتوفر الإمكانية، تجري تحقيقات دولية لتعقب الأموال غير المشروعة المحولة إلى خارج لبنان.
    4. السعي للحصول على تعويض عن القروض التجارية التي تزيد عن مليون دولار وجرى سدادها بأسعار صرف مخفضة في البنوك المحلية بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019: كان معظم القروض التجارية بيد بضع عشرات من المقترضين عندما بدأت الأزمة في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وبعد أن بدأت القيمة السوقية للدولار الأمريكي “المحتجز” في البنوك اللبنانية، الذي يسمى “لولار” تهكماً، بالانخفاض، نشأت سوق ثانوية جراء سعي أصحاب القروض إلى تسوية مستحقاتهم في البنوك عبر شراء اللولار بسعر مخفض. [مثال نظري: تدفع الشركة “س” 500,000 دولار نقداً إلى الشركة “ع” مقابل شيك بقيمة مليون دولار، تودعه الشركة “س” بعد ذلك لدى البنك التجاري تسديداً لقرضها]. ومع مرور الوقت، وصل سعر اللولار إلى 10% من قيمته فقط، وأصبحت قيمة شيك المليون دولار تساوي 100,000 دولار فقط. وتشير بعض التقديرات إلى أن أصحاب القروض التجارية كسبوا نحو 15 مليار دولار من هذا الدعم الضمني. لقد شكل ذلك تحويلاً للثروة من المودعين إلى أصحاب القروض التجارية، نظراً لنفاد الدولارات الحقيقية في سجلات البنوك وما يترتب على ذلك من انخفاض في الودائع القابلة للاسترداد. يجب تشجيع أصحاب القروض التجارية الذين استفادوا بهذه الطريقة على إجراء تسوية مناسبة، أو الخضوع للضريبة عن هذه القروض، أو فرض رسوم تعويضية على عملياتهم التجارية في لبنان. وفي جميع الأحوال، ستوضع هذه الأموال في صندوق استرداد الودائع.

وسيكون هذا الصندوق مؤسسة عامة تدير مبالغ كبيرة، مما يتطلب إخضاعه لمستوى شفافية عال وإجراءات رصد مشددة. وتشمل الترتيبات المحتملة لإدارة الأموال ممثلين عن مجموعات المودعين، ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة التابعتين لمصرف لبنان، ولجنة المال والموازنة في البرلمان، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، وذلك تحت إشراف البرلمان الذي تُرفع التقارير إليه. إن الحد الأدنى من آليات الشفافية يتطلب تقديم تقرير سنوي يتضمن مخططاً تفصيلياً لمبادرات الصندوق، ومدى إيفائه بالمهام المكلّف بها.

وعلى المدى الطويل وبعد السداد الكامل لمستحقات المودعين، يجب تحديد مآل الإيرادات المتبقية في الصندوق. ومن الخيارات المحتملة إنشاء بنك مملوك للقطاع العام، أويوضع تحت إشراف صندوق ثروة سيادي، أو تحت حساب فرعي في البنك المركزي.

الحفاظ على مصرف لبنان وقطاع مصرفي تجاري قابل للحياة

بعد مساهمة مصرف لبنان في سداد مدفوعات المدى القريب – باستخدام الاحتياطيات الإلزامية التي أودعتها البنوك التجارية في البنك المركزي – يصبح مصرف لبنان بريء الذمة لجهة التزاماته للبنوك التجارية. ويتوخى صندوق استرداد الودائع إعادة رسملة البنك المركزي على غرار خطة الحكومة في ترك البنك المركزي يتولى مهامه المعتادة في إدارة السياسات النقدية الأساسية.

خلاصة القول، في المرحلة الأولى من الخطة، يساهم البنك المركزي في سداد تعويضات المودعين على المدى القريب من الاحتياطيات المتاحة التي يحتفظ بها. وفي المرحلة الثانية، يتخلى عن أصوله المكتسبة وسندات اليورو لصالح صندوق استرداد الودائع، على ألا يمس احتياطيات الذهب والأصول الأخرى، كما يحتفظ بمتطلبات الاحتياطي بنسبة 10% لصالح البنوك التجارية التي لا تزال تعمل (انظر أدناه ). وبعد ذلك، تقوم الحكومة اللبنانية بإعادة رسملة مصرف لبنان بمبلغ 2.5 مليار دولار، وفق ما نصت عليه خطتها. 

وبالنسبة لقطاع الخدمات المصرفية التجارية، فإن الخطة تنطلق من اعتباره قطاعاً مُعسراً بشكل عام، وتضع على هذا الأساس مخصصات لبنوك محددة لمواصلة العمل. ويجري اختيار هذه البنوك بعد أن تجتاز ثلاث مراحل معيارية متتالية (انظر أدناه) تجنبهم الدخول في خطة الاسترداد التدريجي الأوسع من خلال جعلهم يسددون التزامات مودعيهم المحددين.

أولاً، يجب أن يتمكن البنك من السداد الكامل لمستحقات جميع المودعين تحت عتبة السداد الفوري. ثانياً، هي مرحلة “الإنقاذ الداخلي”، وفيها تُحول أسهم المساهمين الحاليين إلى المودعين المتبقين تعويضاً عن ودائعهم، أو يخضع البنك لإعادة رسملة إذا أراد الحفاظ على هيكل المساهمين الحالي. ويتضمن ذلك قيام المساهمين بضخ رساميل جديدة في البنك تعادل قيمة الأسهم المحتفظ بها، وبهذه الأموال تُسدد مستحقات المودعين.

وإذا نجح البنك في إنجاز هاتين الخطوتين ينتقل إلى الخطوة الثالثة وهي استعادة حصته من الالتزامات في صندوق استرداد الودائع، بالإضافة إلى سندات اليورو التي احتفظ بها سابقاً، وبالتالي يحافظ على التزاماته وأصوله. وبعد ذلك، يجب على البنك جمع أموال كافية لتحقيق نسبة كفاية رأس المال الجديدة. فمثلاً، إذا بلغت حصة البنك من التزامات صندوق سداد الودائع 2 مليار دولار، وكانت نسبة كفاية رأس المال الجديدة 3:1، فيجب على البنك إضافة 700 مليون دولار من رأس المال الجديد إلى ميزانيته العمومية. وبعد ذلك، يخصص جزءاً من جميع الأرباح المستقبلية للوفاء بالتزاماته تجاه المودعين الحاليين حتى يتم سدادها بالكامل.

على الرغم من الأزمة الحالية في قطاع الخدمات المصرفية، تظل البنوك التجارية اللبنانية القلب النابض لأي تعافي اقتصادي في المستقبل. وتتوخى الخطة فصل الجهات الراغبة في الاستمرار بتقديم الخدمات المالية الأساسية، والقادرة على ذلك، عن الجهات التي ليست كذلك.

الخطوات المستقبلية

يتطلب نهوض القطاع المصرفي المعسر في لبنان عمليات إدماج وإعادة هيكلة واسعة النطاق، وهذه مسألة أساسية لكنها تتجاوز نطاق هذه الورقة. كما تحتاج البلاد إلى وضع خطة متكاملة لمعالجة نقاط الضعف المزمنة للاقتصاد الكلي، إذا أريد إجراء إعادة تأهيل ناجحة ومستدامة بعد هذه الأزمة المالية المستمرة. لكن لا هذا، ولا إعادة هيكلة القطاع المصرفي يمكن تحقيقهما قبل التوصل إلى حل عادل يستعيد الأموال التي سرقتها النخبة المصرفية والسياسية من السكان على رؤوس الاشهاد.

لن يكون “هضم” الخطة التي عرضناها هنا سهلاً على كثيرين. فهي غير مكتملة وعرضة للنقد. فاليأس الاقتصادي دفع بالفعل أكثر من مليون من صغار المودعين إلى سحب مدخراتهم باقتطاعات تصل إلى حد 90% من ودائعهم الأصلية. وكانت أغلبية هؤلاء من أفقر المودعين الذين لم يكن لديهم وسيلة أخرى يلجؤون إليها. وهذه الخطة لا تعالج الخسائر التي تكبدها هؤلاء ظلماً وعدواناً. وبالمقابل، يجب على من يعتبر أن مدخراته قد استعيدت، التخلي عن أي مطالبات قانونية فردية محتملة أخرى ضد البنوك التجارية، بغض النظر عن أحقية هذه المطالبات.

ورغم أن الخطة تسعى إلى استرداد الأموال من المسؤولين عن الأزمة والمستفيدين منها واتخاذ تدابير عقابية مالية بحقهم، إلا أنها تفتح لهم أيضاً نافذة للتساهل مقابل التعاون. وتبرر ذلك بضرورة فتح مسار جانبي للنخبة المصرفية والسياسية يجنبهم العوز ودخول السجن، ويحول دون تصلبهم وسعيهم لعرقلة المضي قدماً في هذه الخطة.

إن إضافة شخصيات جديدة إلى العقوبات الدولية التي طالت محافظ مصرف لبنان السابق تزيد من الزخم الحالي، وتقنع الأطراف المعنية الأساسية باتباع حلول قابلة للتطبيق سياسياً ومقبولة اجتماعياً. وتعد خطة الاسترداد التدريجي للودائع الواردة أعلاه خطوة أولى على طريق لبنان الطويل نحو التعافي المعمد بالتضحيات.

إن تقديم هذه التضحيات ضروري لتقدم البلاد نحو مستقبل أفضل، لأن الانتظار في هذا الطريق المسدود يسهم في نمو الاقتصاد غير المنظّم ويقلص فرص الحكومة في تمويل نفسها، الأمر الذي لا يفيد أحداً. وفي الواقع، كلما طال أمد الوضع الراهن وتعثر النمو، كلما أصبح لبنان على شفا دولة فاشلة حقيقية لا تتطلب عودة اندلاع نزاعاته الأهلية العنيفة سوى شرارة بسيطة. إن النافذة المفتوحة لتجنب هذا المآل تضيق شيئاً فشيئاً، ولذلك يحتاج لبنان إلى خطة واقعية وعادلة وخاضعة للمساءلة وتدرّجية لاسترداد الودائع.

المواضيع ذات الصلة