تداعيات أزمة السكن في لبنان خلال الحرب: بين التربّح أو الحماية

أثارت الحرب الإسرائيلية أزمة سكن تهدد الاستقرار الاجتماعي في لبنان

نانسي إهرنبرغ بيترز, بقلم بنجامين فيف

11 تشرين الأول، 2024

مع تصاعد القصف الإسرائيلي في جميع أنحاء لبنان، عادت الازمات السابقة التي شهدتها البلاد لتلقي بظلالها عبر أزمة إنسانية جديدة وعميقة: التزاحم الشديد على السكن. فمع نزوح ما يقدر بنحو 1.2 مليون شخص خلال أسبوعين، أصبحت المناطق التي تعتبر “أكثر أماناً” في بيروت وجبل لبنان وشمال لبنان بؤراً للتوترات التي تتمحور حول العثور على مأوى.

وقد أدى الطلب المتزايد على العقارات إلى ارتفاع أسعار الإيجارات، مما ترك الفئات الأكثر ضعفاً تحت رحمة البعض من أصحاب العقارات الاستغلاليين. إلا أنه وسط الجشع ظهر التضامن أيضاً حين فتح السكان أبوابهم للمحتاجين، في تجسيد لأفضل وأسوأ ما في الطبيعة البشرية أثناء الأزمات.

إن التدخل المتواضع وغير الكافي من جانب الحكومة اللبنانية، ووجود عقارات شاغرة وعدم تنظيم الإيجارات، قد ترك الآلاف من النازحين داخلياً عاجزين عن العثور على سكن أو تحمل تكلفته.

وبينما تتم إدانة أصحاب العقارات والسماسرة بسبب التلاعب بالإيجارات، يبدو أن هناك وضعاً أكثر حساسية في لبنان يتكشف اليوم عن مزيج خطير من الخوف، واليأس، والإهمال الحكومي.

أسعار إيجار لا يمكن تحملها، ومنازل شاغرة

في فوضى النزوح المفاجئ، كانت أول الضحايا هم الفئات الضعيفة. أي العائلات التي تفرّ من القصف الإسرائيلي العنيف في الجنوب والبقاع والضواحي الجنوبية لبيروت دون وجهة واضحة، وتتنافس على إمدادات تتقلص بسرعة بما فيها السكن بأسعار معقولة والمساحات في الملاجئ الجماعية التي تنظمها الحكومة.

في مقابلة مع البديل تحدثت تالا علاء الدين، منسقة الأبحاث في “استوديو أشغال عامّة” عن التحقيق الذي أجرته مؤسستها في عينة من أسعار الإيجارات في المناطق “الآمنة” منذ التصعيد في 23 أيلول الجاري. كشفت الدراسة (والتي ما تزال في طور البحث) أن متوسط ​​سعر الإيجار الشهري في بيروت يبلغ حالياً 728 دولار، مقارنة بـ 733 دولار في جبل لبنان و429 دولار في عكّار.

“إذا قارنت هذه الأسعار بمتوسط ​​الحد الأدنى للأجور في لبنان وهو 200 دولار شهرياً، وحقيقة أن بيروت تقصف أيضاً، فإن أسعار الإيجارات هذه مرتفعة للغاية. وأوضحت تالا أن معظم النازحين لا يستطيعون دفع هذه الإيجارات، كما أن عروض الإيجار منخفضة جداً بالمقارنة مع ارتفاع الطلب على السكن.”

وما يفاقم عجز النازحين عن تحمل أسعار الإيجارات المرتفعة هو أن الكثير فقدوا سبل عيشهم بسبب الحرب وما زالوا يتحملون وطأة الأزمة المالية والاقتصادية المستمرة منذ سنوات في لبنان.

بالإضافة إلى الطلب المتزايد، فإن الزيادات في اسعار الإيجارات هي في الواقع نتاج نيّة بعض أصحاب العقارات والسماسرة برفع الأسعار إلى أعلى مستوى ممكن. ففي الواقع، ومنذ صدور قانون الإيجارات عام 1992 أصبح أصحاب العقارات محصنين من تدابير الرقابة على الإيجارات. “في تقديرنا أسعار الإيجارات قد زادت بنحو 10-20% في جميع أنحاء البلاد، إلا أن هناك حالات زادت فيها بنسبة 100% أو أكثر” بحسب جوني عساف، المؤسس والشريك الإداري في شركة “بيروت ليفينغ العقارية”. أوضح عساف أن أزمة السكن لا يمكن تحملها على المدى الأطول “لأن الطلب الأكثر على السكن هو من النازحين داخلياً وعلى أساس الإيجار القصير لمدة تتراوح من شهر إلى ثلاثة أشهر. وإذا استمر الصراع لفترة أطول، فإن العديد من النازحين الذين يستأجرون حالياً مساكن خاصة لن يعودوا قادرين على تحمل أسعار الإيجارات. وقد يؤدي ذلك إلى خلق موجة أخرى من النازحين والمشردين داخلياً، مما يهدد بزيادة الضعف والتوترات بين الطوائف.”

وتفاقم أزمة تكاليف السكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتفاع معدل المساكن الشاغرة في بيروت. “من بين جميع الشقق الشاغرة في بيروت، والتي تمثل حوالي 30% من إجمالي عدد الشقق، أعتقد أن حوالي 35% من الشقق في الأشرفية [شرق بيروت] فيها سكان، و60% في الحمرا [غرب بيروت]،” كما أوضح عساف. وقالت تالا علاء الدين لـ البديل أن الكثير من المساكن الشاغرة يستخدمها مستثمرون أثرياء، أو مملوكة للدولة، أو خاضعة لسلطة الأوقاف، على حساب الشعب اللبناني.

عامل الخوف والتوترات

في حين أن هناك بعض التلاعب والجشع في الإيجارات، إلا أن هناك أيضاً ما يخفى من الخوف وانعدام الثقة الذي ساهم في تشكيل أزمة الإسكان الحالية في لبنان. والتي تتجلى من خلال التوترات الطائفية والعنصرية والطبقية.

أثار تدفق النازحين من البقاع والجنوب والضواحي الجنوبية لبيروت – وهي مناطق مرتبطة بحزب الله بشكل وثيق – مخاوف المجتمعات المضيفة من أن قبول هؤلاء المستأجرين قد يعرض ممتلكاتهم لخطر أن تصبح أهدافاً.

وهذه المخاوف ليست وليدة من عدم. فقد استهدفت إسرائيل بشكل مباشر أماكن إيجار بعد أن انتقلت إليها عائلات نازحة. ففي 30 أيلول استهدف الجيش الإسرائيلي منزلاً في قرية إبل السقي يستضيف عائلة نازحة من الجنوب، مما أسفر عن مقتل عدد من أفراد الأسرة بالإضافة إلى إصابة أحد كهنة القرية. ولا تزال هذه المخاوف قائمة. وتفاقم الوضع بسبب ما تناقلته وسائل إعلام لبنانية – ورددته بعض الأحزاب السياسية – بادعاءات لم يتم التحقق منها بأن أعضاء حزب الله اختبأوا بين السكان في ملاجئ جماعية.

أشار عساف في حديثه لـ البديل إلى أن “التضامن في المجتمع في بيروت ملحوظ وهو ما ينعكس في سياسة البيت المفتوح أو سياسة الجوار المفتوح للنازحين داخلياً، إلا أن بعض الأحياء كانت أكثر ترحيباً من غيرها. ففي الحمرا، أعتقد أن ما يقرب من 60% من المجتمعات المضيفة منفتحة على تأجير أو قبول النازحين داخلياً في المنطقة، ولكن في الأشرفية، وهي منطقة ذات أغلبية مسيحية، تصل النسبة إلى 30-40%”.

ونتيجة لذلك، أدت المخاوف الأمنية بشأن تدفق النازحين داخلياً إلى إشعال التوترات الطائفية من جديد. وضغطت بعض البلديات في المناطق المسيحية والدرزية، مثل فالوغا الواقعة شرق بيروت، على السكان لعدم قبول النازحين داخلياً. وحدثت حالات مماثلة في المناطق المسيحية تقليدياً مثل عين الرمانة والنبي يوشع، حيث رفض السكان بشكل صريح استضافة النازحين.

وتؤثر أزمة السكن أيضاً على اللاجئين السوريين. تشير علاء الدين إلى حالة تم فيها طرد عائلة سورية من قبل مالكها، الذي فضل الإيجار للبنانيين النازحين بسبب الحرب وتخشى علاء الدين أن هذه الحالة ليست حادثة منعزلة. وهناك أيضاً تقارير عن منع السوريين من الدخول إلى الملاجئ الجماعية.

أخيرًا، ظهرت التوترات حول الطبقة الاجتماعية، فضلاً عن تلك القائمة على أساس طائفي، كما أوضحت سهى منيمنة، مخططة حضرية وباحثة، لـ البديل: “النازحون الذين ليس لديهم موارد مالية يعيشون في ملاجئ جماعية، ويتركزون في الأحياء المسيحية، وقد تعتبر المباني العشوائية تهديداً من قبل المجتمعات المختلفة حيث يرى البعض أنها تغيير غير مرغوب فيه في التركيبة السكانية للأحياء. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، رأينا أشخاصاً من الطبقات الاجتماعية والاقتصادية الدنيا يحتلون بعض المباني في أحياء بيروت – وهو نمط مماثل كما هو الحال الآن فهو يعيد ذكريات حروب لبنان الماضية.”

ما وراء السعر وانعدام الثقة: عدم جهوزيّة الحكومة

وفي نهاية المطاف، فإن أزمة الإسكان هي من أعراض مشكلة أعمق: الانعدام المزمن للجهوزية في الدولة اللبنانية.

فعلى الرغم من أن خطة الاستجابة الطارئة للحكومة اللبنانية أدركت الحاجة إلى زيادة استيعاب الملاجئ، إلا أنها فشلت في تنفيذ تدابير فعالة لمعالجة الحجم الحقيقي للأزمة. ومع التركيز الضيق على الجنوب، قللت الخطة من احتمال توسّع للصراع، مما أدى إلى عدم كفاية الاستعدادات في مناطق مثل بيروت وجبل لبنان، والتي أصبحت الآن متأثرة بشدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الافتراض السائد أن أنماط النزوح ستكون مماثلة لحرب 2006 يعني أن الحكومة لم تتوقع الحركة الحالية للنازحين، ما أدى إلى المبالغة في تقدير احتياجات المأوى في محافظات الجنوب وإلى الاكتظاظ الشديد في الشمال وعكار. لم يستجب وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ورئيس لجنة الطوارئ الحكومية ناصر ياسين لطلب التعليق.

“فشلت خطة المأوى الطارئة التي وضعتها الحكومة في تضمين أي إجراء أو خطة مستقبلية للاستجابة لزيادة في أسعار الإيجارات مثل الحد الأقصى للإيجار. أوضحت علاء الدين لـ البديل أن البرلمان يمكن أن يصدر مرسوماً كما فعل خلال أزمة كوفيد-19 لتمديد المواعيد النهائية لجميع العقود القانونية. فإذا تم إعلان حالة الطوارئ، سيتم تجميد جميع العقود القانونية تلقائياً.

أجبر تقاعس الحكومة المركزية السلطة المحلية على التدخل. فمثلاً في 20 تشرين الأول 2023 أصدر محافظ النبطية تعميماً للحد من استغلال النازحين من خلال وضع ضوابط على الإيجارات، بهدف حماية السكان الضعفاء الذين ينتقلون من المناطق الحدودية من استغلالهم من قبل أصحاب العقارات. إلا أن هذا هو المثال الوحيد المعروف لسلطة محلية تنفذ مثل هذه الخطوة منذ بدء الحرب في تشرين الأول 2023.

وفقاً لعلاء الدين، “على الرغم من أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الأنظمة قد تم تنفيذها بشكل فعال على أرض الواقع في النبطية، إلا أنه ينبغي تنفيذ هكذا سياسات في جميع المحافظات اللبنانية، خاصة تلك التي تعد وجهات رئيسية لتدفق النازحين”.

إن استجابة الحكومة اللبنانية كان يمكن لها أن تكون أكثر فعالية، إلا أن لبنان، وبلا أدنى شك، ما كان ليجد نفسه في الوضع الحالي لولا الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل. وما يزال غير واضح ما هي إمكانية الحفاظ على التماسك الاجتماعي في خضم التهافت على الملاجئ والقصف الإسرائيلي المستمر للمناطق المدنية.

1- المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. “العائلات النازحة في لبنان عام للسلام والعودة إلى الوطن”. المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 6 تشرين الأول 2024. https://www.unhcr.org/news/stories/displaced-families-lebanon-yearn-peace-and-return-home

2- كلارا نبأ. “اللبنانيون الفارون من القصف الإسرائيلي يواجهون التلاعب في الإيجارات والاكتظاظ”. يورونيوز، 27 أيلول 2024. https://www.euronews.com/2024/09/27/lebanese-people-fleeing-israeli-bombardment-face-rent-gouging-and-overcrowding

3- قانون الإيجارات في لبنان: استنزاف جديد للمال العام. المجلة الشهرية، 9 أيار 2014. https://monthlymagazine.com/en/article/962/lebanon’s-rent-act–a-new-drain-on-the-public-purse

4- أرشيف لبنان. تويتر، 1 تشرين الأول 2024. https://x.com/booklebanon/status/1840878283648356579

5- بتاريخ 9 تشرين الأول 2024 ذكرت قناة MTV اللبنانية أن عناصر حزب الله اختبأوا بين السكان في الشوارع والملاجئ الجماعية. وتم تناقل هذا الخبر من قبل حزب الكتائب ولكن تم حذفه منذ ذلك الحين من كل من موقع MTV لبنان والمواقع الإلكترونية للكتائب.

6- العربية. “جدل في لبنان.. بلدات ترفض تأجير نازحين من مناطق حزب الله”. 11 آب 2024. https://www.alarabiya.net/arabandworld/2024/08/11/جدلفيلبنانبلداتترفضتأجيرنازحينمنمناطقحزبالله

7- سوزان بعقليني. “في عين الرمانة فشل “التضامن الوطني””. لوريان لو جور، 24 أيلول 2024. www.lorientlejour.com/article/1428354/a-ain-el-remmane-un-rate-de-la-solidarite-nationale-.html ; Tripoli News Network. “في المنية اشكال واطلاق نار دون تسجيل إصابات: ما علاقة النازحين.” Facebook, September 29, 2024. https://www.facebook.com/tripoli.TNN/posts/989838143172080

8- https://www.infoمهاجرين.net/en/post/60294/attacksoncivilianspilefreshmiseryonlebanonunhcr

9- محافظ النبطية. “تعميم للقائمقامين والبلديات ومخاتير القرى التي لا يوجد فيها بلديات ضمن محافظة النبطية”. 20 تشرين الأول 2023. https://cdn-5e344ff7f911c80ca0df760f.closte.com/wpcontent/uploads/sites/102/2023/12/التعميم.jpg

المواضيع ذات الصلة