الاصلاح أم تكرار الفشل: الاختبار الحاسم للبنان في ملف اللاجئين السوريين

إن نهج الحكومة الجديدة تجاه الأزمة سوف يحدد إرثها الأخلاقي ومصداقيتها كقوة للإصلاح.

23 حزيران، 2025

“سوريا آمنة. أيها اللاجئون، عودوا إلى دياركم”

لقد كانت مجموعة متزايدة باستمرار من البلدان تغني هذا “الموّال” منذ عام 2019، عندما كانت الدنمارك أول دولة تعلن أن دمشق لم تعد خطرة وبات بإمكان اللاجئين السوريين من العاصمة العودة إليها بأمان. أمّا خبراء حقوق الإنسان و المنظمات غير الحكومية فقد اختلفوا مع هذا الرأي، مشيرين إلى أن قدرة نظام الأسد على القمع والعنف بقيت آنذاك، وحتى محكمة العدل الأوروبية اعتبرت أن قانون الاتحاد الأوروبي يحظر تحديد جزء فقط من الأراضي على أنه آمن للعودة. ومع ذلك، أصبح مفهوم “سلامة” سوريا مجرد وهم سهل المنال انتشر في دول أوروبية أخرى وحكومات الشرق الأوسط على حد سواء لتبرير جهودها لطرد اللاجئين. ولتحقيق هذه الغاية أصبح الكثيرون أكثر انفتاحاً على تطبيع العلاقات مع النظام السوري. 

ثم في أعقاب السقوط غير المتوقع للرئيس بشار الأسد في كانون الأول 2024 غيرت الحكومات الغربية موقفها مرة أخرى، وهذه المرة إعلنت سوريا آمنة لأنها كانت خالية من حكمه. ومع بدء تخفيف العقوبات مؤخراً، كذلك بدأ انحسار القيود المفروضة على العودة الجماعية. إلا أن اقتصار النقاش على العقوبات يتجاهل الأوضاع المتقلبة وغير المستقرة في سوريا التي نشأت بعد سقوط الأسد، مثل المجازر في منطقة الساحل التي استهدفت العلويين والعنف الطائفي في المجتمعات الدرزية، وأخيراً تفجير انتحاري في كنيسة على مشارف دمشق، كما ما يزال القصف الإسرائيلي مستمراً. بالتالي فإن هذه الظروف تثير شكوكاً كبيرة حول إمكانية العودة الآمنة الطوعية والكريمة – وهي المكونات التي تعتبرها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الحد الأدنى من المتطلبات لأي برنامج لعودة اللاجئين.

استغلّت الحكومات السابقة، التي نخَرها الفساد وسوء الإدارة، تراجع التزام الغرب بحماية اللاجئين ملوّحة بورقة «إغراق أوروبا» بموجات لجوء جديدة للحصول على مساعدات خارجية.

لطالما سار لبنان، الذي يستضيف أحد أعلى معدلات اللاجئين بالنسبة إلى عدد السكان في العالم، على خطٍ محفوف بالمخاطر. فقد استغلّت الحكومات السابقة، التي نخَرها الفساد وسوء الإدارة، تراجع التزام الغرب بحماية اللاجئين ملوّحة بورقة «إغراق أوروبا»  بموجات لجوء جديدة للحصول على مساعدات خارجية. وعلى المستوى الداخلي، لجأ السياسيون اللبنانيون إلى اتخاذ اللاجئين السوريين كبش فداء  يُحمَّل تبعات الانهيار الاقتصادي وارتفاع معدلات الجريمة. 

هذه التكتيكات الانتهازية لم تضر باللاجئين فحسب، بل عمّقت الانقسامات الاجتماعية، وفضحت استخفاف الدولة بسيادة القانون. 

في هذا المناخ العدائي، يعيش اللاجئون السوريون في ظروف هشة، يتعرّضون لحملات ترحيل قسري، ويُستهدفون بسياسات تمييزية، ويظلون عرضة للابتزاز والانتهاكات. أما حقوقهم وفق القانون الدولي – وعلى رأسها مبدأ عدم الإعادة القسرية  الذي يحظر إعادة أي شخص إلى بلد يواجه فيه خطر الاضطهاد – فكثيراً ما جرى تجاهلها. 

تهدف الخطة إلى تسهيل عودة ما بين 200 ألف و300 ألف سوري إلى بلادهم قبل بدء العام الدراسي المقبل، من خلال تقديم دعم لوجستي ومالي.

أثار تشكيل حكومة لبنانية جديدة في مطلع عام 2025 أي بعد سنوات من الجمود السياسي، موجة تفاؤل حذر. فمع وصول شخصيات من خارج المنظومة الحاكمة التقليدية إلى السلطة، مثل الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، بدأ يتبلور وعد بإعادة هيكلة الحكم. 

وقد شمل ذلك خطوات تشير إلى مقاربة أكثر تأنّياً واحتراماً للحقوق في التعامل مع ملف اللاجئين، أبرزها إعلان خطة للعودة الطوعية الأسبوع الماضي يبدو أنها تتضمّن شراكة مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين – في سابقة لافتة، إذ كانت الحكومات السابقة تستبعد وكالات الأمم المتحدة من عمليات التخطيط المرتبطة باللاجئين. 

 

تهدف الخطة إلى تسهيل عودة ما بين 200 ألف و300 ألف سوري إلى بلادهم قبل بدء العام الدراسي المقبل، من خلال تقديم دعم لوجستي ومالي ورفع حظر الدخول عن أولئك الذين دخلوا البلاد سابقاً بشكل غير نظامي، أو ممن انتهت صلاحية إقاماتهم. يٌذكر أن نائب رئيس الوزراء طارق متري أصرّ أن “الترحيل القسري الجماعي أمر غير وارد.” 

تحمل هذه الإشارات دلالة مهمّة، لا سيما بالمقارنة مع الممارسات السابقة التي انتهكت المعايير الدولية بشكل صارخ. غير أنّه من غير الواضح بعد ما إذا كانت هذه التطورات تُشكّل تحوّلاً جذرياً في النهج اللبناني. ففي وثيقة السياسة العامة للحكومة الجديدة بشأن اللاجئين ورد النص التالي: “في ضوء التغيرات الملحوظة في سوريا، وغياب الأسباب السياسية والأمنية التي كانت تعيق هذه العودة، باتت هذه العملية ممكنة وضرورية.”  

لغة كهذه، التي تعيد إنتاج منطق الحكومات السابقة، تُثير قلقاً مشروعاً من أنّ التغيير قد يكون في الشكل دون أن يطال الجوهر. 

إن كانت الحكومة الجديدة جادة في تبنّي إصلاحات جوهرية ومسار تقدّم جماعي فسيظهر ذلك في كيفية تعاملها مع الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وحمايتها.

 ومع ذلك، لا تزال هذه اللحظة تحمل إمكانية حقيقية للتحوّل. يمكن للبنان أن يختار رفض منطق الإكراه والتذرّع بالآخرين، الذي طبع سياساته السابقة، وأن يلتزم فعلاً بتعهّداته بموجب القانون الدولي. فلبنان كان يوماً في طليعة الدول  المدافعة عن حقوق اللاجئين، مشاركاً في تأسيس مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومساهماً في صياغة اتفاقية اللاجئين. واليوم، يمكنه أن يختار أن يقود بالقدوة، متمسكاً بمبادئ الحماية التي تخلّت عنها دول أخرى، ومؤكداً أنّ الكرامة وحقوق الإنسان ليستا ترفاً بل حقاً غير قابل للتفاوض – حتى أثناء الأزمات الوطنية. 

 

هذا ليس اختباراً لبوصلة لبنان الأخلاقية فقط، بل ميداناً عملياً لطموحات الإصلاح. فإن كانت الحكومة الجديدة جادّة في تبنّي إصلاحات جوهرية ومسار تقدّم جماعي فسيظهر ذلك في كيفية تعاملها مع الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وحمايتها. ما يحدث في لبنان لن يبقى داخلياً: سيكون صداه إمّا نموذجاً لسياسة عادلة ومبدئية تجاه اللاجئين، أو إنذاراً جديداً بأنّ تغيير الخطاب لا يعني بالضرورة تغيير النهج. 

  

نادين خشن محامية متخصصة في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان. 

المواضيع ذات الصلة