مسالكُ الليّرة الوعرةِ وطريقُ التّحدّيات

التقّدم نحو الأفضل أم مواجهات جديدة؟
جوناثان كول

5 أيلول، 2023

ملخص تنفيذي 

لم تفشل الحكومة اللّبنانيّة والبنك المركزي عمداً في تنفيذ نظام متماسك لسعر الصرف في أعقاب الأزمة الماليّة وحسب، بل اختارا إدخال أسعار صرف عديدة ومربكة في المعاملات المختلفة كذلك، وفي الوقت الذي ترك فيه رياض سلامة منصبه في نهاية تموز، تولّى نائبه وسيم منصوري منصب  حاكم المصرف بالإنابة، إذ قدّم هو وزملاؤه خطة لتعويم الليرة بحلول أيلول إلى جانب حزمة من الإصلاحات المطلوبة بشدة.  

وستكون الخطة – إذا تم تنفيذها بشكل مسؤول – خروجاً حاداً عن نمط تعامل الحكومة والبنك المركزي مع الأزمة حتى الآن. فبعد تكليف سلامة ووزارة المالية بحل انهيار القطاع المصرفي وتهيئة بيئة نقدية مستقرة، عمدَ كلّ منهما إلى تعميم العديد من أسعار الصرف والتي تزايدت مع انهيار القيمة السوقية الموازية لليرة، مما خلق فرصاً للمراجحة المالية وعدم كفاءة السوق عند كل منعطف. 

وفي الوقت نفسه، طبع البنك المركزي المزيد من الليرات لتمويل الدولة غير القادرة على تحصيل الضرائب أو اقتراض الأموال. ومع تراجع قيمة الليرة أكثر فأكثر، توسّعت الفجوة في القيمة المحصّلة بين سعر الفائدة المنخفض والقيمة السوقية للدولار على نطاق أوسع، مما أجبر المودعين على إجراء تخفيضات أكبر وأكبر على ودائعهم التي فرضتها تعميمات البنك المركزي غير القانونية، بغرض اقتطاع التزامات القطاع المصرفي بالدولار. 

في ظلّ هذه السياسات، فإنّه من الواجب على الحكومة والبنك المركزي التوقف عن طباعة أوراق ليرةٍ جديدة لتمويل عجز ميزانية الحكومة، وتشريع قانون لضبط رأس المال، وحلّ الأزمة المصرفية وتعويم اللّيرة دون التسبب بمزيد من الشقاء المالي لعموم اللبنانيين (الذين عانوا أكثر من غيرهم بسبب سياسات رياض سلامة الضارّة والعشوائية) – مع معرفتنا مسبقاََ أن القولَ أسهل من الفعل.  

كما أنّه من الأهمية القصوى اليوم إعادة بناء ثقة الأسواق من خلال إصلاح دور البنك المركزي وحوكمته، وتشديد السياسة المالية. ولتحقيق هذه الغاية، يجب إقرار ميزانيتي 2023 و2024 بشكل عاجل – الأمر الذي ثبتت صعوبته في بيئة الحكم المليئة بالتحديات في لبنان.  

ولأنّ إنشاءَ منصّة شفافة وفعّالة للصرف الأجنبي هو المفتاح الرئيس لتعويم الليرة بشكلٍ مدروس، فإنّ على الدولة أن ترحّب بقرار حلّ منصّة صيرفة، لأنها، مثل مجمل مكونات الدولة اللبنانية، سرعان ما أصبحت أداة أخرى للسطو والاستيلاء على الدولة في وضح النهار، حيث سبقَ وأن قام البنك المركزي بدعم تكاليف النقد الأجنبي للمجموعات المفضلة، مما أدى إلى توليد 2.5 مليار دولار من أرباح المراجحة المالية في هذه العملية. 

 

خروج سلامة، ودخول منصوري 

أنهى رياض سلامة، رئيس البنك المركزي – سيئ السمعة – ومحبوب النخبة السياسية، فترة ولايته في نهاية تموز 2023. وسبقت فترة من عدم اليقين رحيله هذا، حيث سبقَ وأن هدد نواب سلامة الأربعة بالاستقالة إذا ألقيت مسؤوليات حاكم المصرف عليهم، مما عزز التكهنات بأنه قد يستمر في ولايته. 

وعلى الرغم من عدم رغبته بدايةً في تولي المسؤولية، أصبح النائب الأول لسلامة، وسيم منصوري، حاكماً للمصرف المركزي بالإنابة (الوكالة). وبعد تعيينه، أشار منصوري وزملاؤه (نواب الحاكم) إلى اعتزامهم الانتقال إلى سعر صرف مرن – وهو خروج عن موقف سلامة المناهض للإصلاح – بحلول أيلول الجاري للمساعدة في حلّ الأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان. 

ترافق تعيين منصوري مع تفاقم الأزمة المالية في لبنان وتفشّي الفوضى العارمة في المصرف المركزي، إذ إنّ الأزمة المالية التي ما يزال يعاني منها اللبنانيون، والناجمة عن سنوات من عدم الانضباط المالي، واعتماد نموذج اقتصادي منحرف يستند على تدفقات العملات الأجنبية، فضلاً عن التعاميم غير القانونية لمصرف لبنان، وانعدام الثقة في الليرة، قد أدّت جميعها – بطريقة أو بأخرى – إلى تباعد طويل وحاد بين الطرفين: سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية. 

وفي الوقت الذي كان من الممكن أن يتم فيه استدراك هذه الأزمة والتخفيف من حدتها، أدى استخدام سلامة لسياسة سعر الصرف المجزّأة، أي: وضع أسعار مختلفة للمعاملات المختلفة، منذ العام 2019 إلى حدوث تشوهات في السوق، وتحفيز الدولرة وتراجع الدورات المالية الرسمية. كما أدت تعميمات البنك المركزي إلى توزيع غير عادل للخسائر الناجمة عن انهيار القطاع المصرفي على المودعين، مما ساهم في انتشار الفقر واتساع فجوة التفاوت بشكل كبير. 

في هذا الجوّ المتخم بالمشاكل والأزمات، اقترحت الخطة التي قدمها المنصوري وزملاؤه نواب حاكم المصرف في أواخر تموز (يوليو) 2023، تعويماً مُداراً لليرة بحيث يعكس سعر الصرف القيمة “الحقيقية” للعملة. وعلى مدى ستة أشهر، قدم النواب سلسلة من الإصلاحات بما في ذلك إصلاحات مالية كبيرة،  كما عملوا على إصدار قوانين لإعادة بناء الثقة في العملة، وإنشاء منصة جديدة للصرف الأجنبي، وأكّدوا جميعهم (نوّاب حاكم المصرف) أن الوقت قد صار مواتياً لتعويم الليرة بسبب عاملين اثنين: غرق البلاد بالدولار بفضل توافد السياح وانخفاض الليرة النقدية المتداولة. 

إنّ هذه الخطة – التي لم توافق عليها الحكومة بعد – تمثّل خروجاً واعداً عن عملية صنع القرار المخصصة والمركزية التي كان سلامة يتبعها، إلّا أنّ الإصلاحات المناسبة بحاجة إلى تفادي أن يكون للمرحلة الانتقالية عواقب وخيمة على الاقتصاد، لأنه في حال حدوث ذلك، فإن الطبقات الاجتماعية التي عانت من سوء إدارة الحكومة المتعمد للأزمة هي نفسها من سيعاني أكثر من غيره، خاصة في سياق تآكل شبكات الأمان الاجتماعي. 

 

دفاتر حسابات غير متوازنة 

أوضح منصوري لدى توليه مسؤولياته الجديدة أن على البنك المركزي التوقف عن تمويل الحكومة خارج الأطر القانونية، كما حذر من أنه إذا استمرت الحكومة في التراجع عن خزائن مصرف لبنان، فإن احتياطياتها من العملة الصعبة سوف تستنزف في نهاية المطاف، وهو ما لا ليس مقبولاً نظراً لتأزم الوضع وصعوبته.

  كما أكد أن الموازنة المقرّرة للدولة لسنة 2023 – والتي طال انتظارها – ما تزال بحاجة إلى تشريع قانوني، ومن المفترض أن يتم إقراره في كانون الثاني من العام القادم، ويجب أن يتضمن هذا التشريع تعديلات لتعزيز النظام المالي، بما في ذلك قوانين الإصلاح التقدمي، مثل قانون ضبط رأس المال، وفقاً لحاكم المصرف الجديد. إذ أن كلّ هذه الاصلاحات تتطلب دعم الطبقة السياسية (التي استخدمت الدولة لفترة طويلة كوسيلة للمحسوبية) بهدف التمكن من تحقيق الخطة المقترحة التي ستسمح للحكومة باقتراض ما يصل إلى 1.2 مليار دولار على مدى 6 أشهر، والتي لا يمكن أن تتمّ إلّا بعد أن تحصل الموازنة على التشريع المطلوب. 

والجدير بالذكر أن دفاتر الحكومة غير المتوازنة قد كانت العامل الرئيس وراء انهيار قيمة الليرة، إذ ترافق ذلك مع عدم قدرة وزارة الخزانة المالية على إصدار سندات جديدة، واعتمادها عوضاً من ذلك على البنك المركزي الذي قام بطباعة ليرة جديدة لتمويل عجز ميزانيتها، مما ساهم في ارتفاع عرض النقد M1 من 12.7 تريليون ليرة في تشرين الأول 2019 إلى 135 تريليون ليرة في تموز 2023، أي بزيادة قدرها 650%. 

إنّ تضخم المعروض النقدي الحاصل جرّاء هذه الممارسة لم يؤدِّ إلى انخفاض طويل وشديد في قيمة الليرة في السوق الموازية، وإلى استنزاف المدخرات والرواتب المقومة بالليرة من عامة الناس وتوسيع الفجوة بين تكلفة السلع والمعدل الذي يمكن للمودعين من خلاله سحب أموالهم المحتجزة وحسب بل خدم كذلك النخبة الحاكمة من خلال تسهيله لها لشطب التزامات البنوك التجارية تجاه المودعين.

لا ضرائب؟ لا مشكلة

لقد اتسمت ميزانية الحكومة اللبنانية على مدى عقود بفرط الإنفاق وشحّ النتائج، مما أدى إلى حصول لبنان على ثالث أسوأ نسبة دينٍ في الناتج المحلي الإجمالي في العالم بنسبة 171٪. ومن غير المستغرب أن تكون خدمة الديون في السنوات الأخيرة من بين أكبر بنود الميزانية، حيث مثلت 32% في عام 2018، إلى جانب الرواتب الحكومية وإعانات الدعم لمنتجي الطاقة العامة – الذي كان أداؤهما ضعيفاً إلى حدّ مؤسف مقارنة بتكلفتيهما الكبيرة.

والأمر المثير للاهتمام هنا، هو أن عائدات الضرائب الحكومية قد كانت تعادل 7.81 مليار دولار قبل الأزمة، أو ما يقرب من 15% إلى 16% من الناتج المحلي الإجمالي ـ وهي نسبة أقل كثيراً من الإيرادات الضريبية بالنسبة إلى النشاط الاقتصادي، مقارنة بالمغرب أو تونس، اللذان يعتبران أكثر فقراً مع المقارنة بلبنان – إلّا أنها انهارت (الإيرادات الضريبية) بعد الأزمة في لبنان بنسبة 86% أي ما يعادل 1.13 مليار دولار.

إلّا أن الدولة لم تدخل أيّ تعديلٍ في سياساتها الضريبية، إذ لا تزال السياسة الضريبية (في لبنان) تتميز بالاعتماد على الضرائب غير المباشرة، وضعف الإيرادات من تدفقات الضرائب التصاعدية، وتوافر الثغرات الوفيرة للأغنياء لتجنب الضرائب، مما يضع عبء الضرائب بشكل غير متناسب على عاتق الطبقات المتوسطة والدنيا.

ومع انهيار القطاع المصرفي أصبح تحصيل الضرائب أكثر صعوبة من ذي قبل، كما أن قواعدها ولوائحها (السياسة الضريبية) بالغة التعقيد تدفع نسبة متزايدة من المعاملات إلى النقد، مما يجعل التهرب الضريبي أسهل وأكثر احتمالاً.

على الدولة أن ترحّب بقرار حلّ منصّة صيرفة، لأنها، مثل مجمل مكونات الدولة اللبنانية، سرعان ما أصبحت أداة أخرى للسطو والاستيلاء على الدولة في وضح النهار.

صيرفة وما بعدها 

من المعروف أن منصة صيرفة قد طالت ما استدعته من انتقادات كبيرة، لهذا فإن الخطة التي وضعها نواب حكّام المصارف قد تضمنت على التخلي عن هذه المنصة بالدرجة الأولى – التي كهدية وداعٍ من سلامة، أنفقت في الأسبوعين الأخيرين له في منصبه 600 مليون دولار من احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية.  

تعد منصة التبادل الإلكتروني، المعروفة محلياً باسم “صيرفة” الأداة الرئيسة للبنك المركزي للتدخل في أسواق العملات، إذ يقوم مصرف لبنان (أثناء هذه التدخلات) بضخ العملات الأجنبية في الاقتصاد عن طريق بيع الدولار على المنصة بسعر مخفض (المعروف باسم سعر صيرفة)، إلّا أن التحليل الاقتصادي القياسي الذي أجراه البنك الدولي يشير إلى أن صيرفة أداة غير فعالة للسياسة النقدية عموماً، مع وجود ارتباط منخفض بين سعر الصيرفة وأحجام الصيرفة وأسعار السوق الموازية. 

أما الدولارات التي يبيعها مصرف لبنان على المنصة، فهي إما تأتي من احتياطات البنك المركزي أو من السوق. وعلى مدار الأزمة انخفضت احتياطيات البنك المركزي بنحو الثلثين لتصل إلى 9 مليارات دولار، الأمر الذي يجعل نظام الصرف المرن – الذي بموجبه يتم استخدام احتياطياته المتبقية – جذاباً إلى حد كبير. 

ومن أجل اقتراح سياسة عادلة، تواصلت اللجنة الرباعية لنواب حاكم المصرف مع مؤسستي التمويل الدوليتين بلومبرج وريفينيتيف لإنشاء منصة أكثر شفافية تشبه غرفة مقاصة البنك المركزي لتعويم الليرة، وهي خطوة من المهمّ أنّ يرحّب بها.

كما يجب على البنك المركزي أن يعزز سوق صرف أجنبي عميقٍ وسائل، في ظلّ نظام سعر الصرف المرن القائم، ومن أجل تحقيق هذه العمليّة فإنّ على هامش العرض والطلب أن يكونا منخفضين، مع انخفاض تكاليف المعاملات وآليات المقاصّة والتسوية الفعّالة، وأن يكون لهما الحجم الكافي للإحالة دون تأثير المعاملات الفردية على الأسعار.21 كما أن هذا السوق (العميق والسائل) سيساعد أيضاََ في “اكتشاف الأسعار” أو العثور على “القيمة الحقيقية” للعملة ومن شأنه أن يقلّل من شدّة التقلّبات وأن يقصر من فتراتها.

أما في الوقت الحاضر فيعتبر سوق الصرف الأجنبي لليرة متخلفاً نسبياً بسبب دور البنك المركزي كصانع ومدير له. ولذلك هناك حاجة لتحفيز نشاط النقد الأجنبي. ومن الممكن تحقيق ذلك من خلال السماح  ببعض المرونة في سعر الصرف بدايةً وتعزيز الشعور بالمخاطر ذات الاتجاهين – احتمال ارتفاع سعر الصرف أو انخفاضه – وهذا يشجع الجهات الفاعلة في السوق على اتخاذ مواقف طويلة وقصيرة الأمد.

وإذ كان على البنك المركزيّ أن يتدخل من حين لآخر في أسواق الصرف الأجنبي بما يتماشى مع السياسات المقترحة – لتهدئة التقلبات على سبيل المثال – فإنّ هذا منوطٌ بأن ينحصر عند الحدّ الأدنى من أجل السماح بتهئية سوق صرفٍ أجنبيٍ سليم. وفي هذا السياق أشار منصوري إلى أن مصرف لبنان سيتدخل رداً على هجمات المضاربة “لضمان انتقال سلسٍ” في عمليّة الإصلاح الموعود بها.  

مشاكل العجز التجاري 

لطالما عانى لبنان تاريخياً من عجز تجاري عميقٍ في ميزانيته، إلّا أن الحال لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال، إذ سيؤدي ذلك، على المدى الطويل إلى ضغوط على قيمة الليرة اللبنانية بسبب انخفاض الطلب – حيث يصدر لبنان القليل جداً – كما أن  الإرتفاع المحتمل لأسعار السلع المقومة بالدولار مع مرور الوقت، سيساهم في تخفيض مستويات المعيشة، مما سيعيق الأسرَ من تحمل تكاليف السلع المستوردة. إلّا أنّ الجهود المبذولة لتعزيز الصادرات والاستفادة من العمالة الرخيصة في لبنان تعدّ أمراً بالغ الأهمية لخفض العجز في ميزان المدفوعات. 

أشار منصوري إلى أن مصرف لبنان سيتدخل رداً على هجمات المضاربة "لضمان انتقال سلسٍ".

التوصيات 

لا يمكن لعملية تعويم الليرة أن تتمّ  إلّا بعد استيفاء شروطٍ مسبقة، تشمل إعادة بناء الثقة في المجالات الرئيسة مثل إدارة السياسة النقدية والقطاع المالي، كما يجب على الحكومة والبرلمان أن يوحّدا أسعار الصرف تدريجياً وأن يتابعا عملية انتقال منظمة للسياسة النقدية من وضعها الحالي إلى سياسة تعويم مدار لليرة، وسيعتمد هذا على ثلاث ركائز مترابطة:  

  1. إعادة هيكلة النظام المصرفي.
  2. استعادة ثقة الأسواق.
  3. إدخال بروتوكول لإدارة تعويم الليرة.  

 

أ. إعادة هيكلة النظام المصرفي 

من الشروط الأساسية لتوحيد سعر الصرف، تنفيذ خطة عادلة لاسترداد الودائع وإعادة هيكلة جذرية للنظام المصرفي، وهو ما لا تتناوله الخطة المقترحة. القضية الأساسية في الوقت الحاضر هي التمييز الفعلي بين الأموال “الجديدة” و”القديمة” في الاقتصاد اللبناني، حيث تخضع العملات لتخفيضات حادة وحدود للسحب. ومن خلال تنفيذ خطة ناجحة وعادلة لاسترداد الودائع، سيتم حل هذا التمايز غير القانوني في القيمة بين الاثنين. وهذا أمر في غاية الأهمية لاستعادة حيوية النظام المالي ومصداقيته ودعم التعافي الاقتصادي، كما تم التأكيد عليه في الاتفاق على مستوى الموظفين المبرم مع صندوق النقد الدولي. وبهدف تحقيق هذه العمليّة فإنّه من المهم الانطلاق من النقاط الآتية:  

  • لا بدّ أوّلاَ من التعامل مع الفجوة في الموارد المالية للبنك المركزي والديون المستحقة على الحكومة بشكل منفصل عن التزامات البنوك التجارية بسداد المودعين. 
  • على البنوك التجارية أن تعترف بالمسؤولية الأساسية التي تتحملها، وواجبها في سداد التزاماتها تجاه مودعيها، بصرف النظر عن الخسائر الفادحة التي تكبدتها أثناء الأزمة، لأن مشاركتها غير المسؤولة في الهندسة المالية قد ساهمت في تعقيد الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد. 
  • على البنوك المفلسة، وغير القادرة على البقاء في السوق وتحسين أوضاعها أن تعلن إفلاسها وتخرج من الأسواق.  
  • تحتاج إعادة هيكلة البنوك التجارية إلى تأمين الحد الأدنى من المدفوعات النقدية للمودعين، بهدف الحصول على ما لا يقل عن 250 ألف دولار لكل حساب بما يتماشى مع معايير مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية الأمريكية (FDIC)، إذن أن من شأن مراجعة حسابات البنوك أن تحدد الحد الأقصى الممكن للضمان، كما سيلزم ضمان الحدّ الأدنى من سداد المدفوعات السنوية للنقابات لتغطية تكاليف العلاج في المستشفيات والمعاشات التقاعدية، ومن الممكن تمويل تكاليف الاسترداد هذه من خلال بيع أصول البنوك الأجنبية والمحلية وإعادة الرسملة، ومخصصّات الاسترداد. 
  • من المهم أن نلاحظ أيضاً أن البنوك استفادت من مخطط الهندسة المالية الكارثي بمقدار 5 مليارات دولار، كما دفعت للمساهمين ذوي العلاقات السياسية مئات الملايين من الدولارات على شكل أرباح، في الفترة الممتدة من 2015 إلى 2019، وبالتالي يمكن أن تسفر أحكام الاسترداد عن مستويات كبيرة لاسترداد المخصصات الموجودة إذا اقترنت بالعقوبات والتعاون الدولي. 
  • يجب ألا تتضمن أي خطة – تحت أي ظرف من الظروف – اقتطاعاً قسرياً لأموال المودعين أو أن تتضمن بيع أصول الدولة، مثل احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي والذهب. 

 

ب. استعادة ثقة الأسواق 

أولاً. إصلاح وتوضيح حوكمة السياسة النقدية 

أدى قانون النقد والائتمان (1963)، وموازنة 2022، وتعميمات البنك المركزي المتعددة التي تحكم أسعار الفائدة في الوقت الحالي، إلى خلق حالة من عدم الوضوح فيما يتعلق بمن يتمتع بصلاحية إجراء التغييرات المطلوبة على نظام سعر الصرف. وهذا يحتاج إلى توضيح من قبل الحكومة والبرلمان من خلال الضوابط والتوازنات اللازمة، خاصة في ظل رحيل حاكم مصرف لبنان الحالي رياض سلامة ودخول حكومة جديدة لمصرف لبنان لأول مرة منذ 30 عاماً. لهذا فإن إصلاح السياسة النقدية وإدارتها بشكل عام، خصوصاً فيما يتعلق بعمليات البنك المركزي، هو عتبة الانطلاقة نحو مشروع إصلاحي تغييري جديد.  

وبهدف الحصول على النتائج المرجوّة فإنّ على البنك المركزيّ أن يتبنّى أفضل الممارسات، وأن يوقف تورطه في تمويل عجز ميزانية الحكومة ومؤسسة كهرباء لبنان؛ إنّ هذه الخطوة بالغة الأهمية نظراً للوضع الحاليّ للعمليات التي يتم فيها اتخاذ القرارات بطرقٍ مركزيةٍ ومبهمة لهذا على البنك المركزي أن يعزز من عمليّة إشرافه على جميع هذه العمليات، كما ينبغي إصلاح المجلس المركزي لمصرف لبنان لتعزيز الرقابة الحكومية. وينبغي أخيراً إعادة توزيع المقاعد التي يشغلها حالياً المديرون العامون لوزارتي المالية والاقتصاد والعمل على نقلها إلى مدراء مستقلين غير تنفيذيين.  

في الوقت الحاضر، يفتقر البنك المركزي إلى الضوابط والتوازنات الكافية. على سبيل المثال، فإن الهيئة المصرفية العليا (HBC)، وهي الهيئة القضائية في البنك المركزي، معرضة للخطر بسبب تضارب المصالح. ويرأسها حاكم مصرف لبنان، الذي يتمتع بحق النقض على قرارات الهيئة. ويرأس حاكم مصرف لبنان ثلاث هيئات رقابية مصرفية أخرى: هيئة التحقيقات الخاصة، وهيئة أسواق المال، والهيئة المصرفية العليا. 

وهذه حالة من حالات النّظاميّة المزدوجة، حيث يعمل رئيس مجلس الإدارة أيضًا كرئيس تنفيذي للمؤسسة، وهي سياسة محظورة من قبل لجنة بازل للرقابة المصرفية (BCBS) ويُنظر إليها على أنها ساهمت في الأزمة المالية لعام 2008. لهذا، ولمنع أيّ تعدّيات فإنه ينبغي على الحكومة اللبنانية أن تلتزم بمبادئ لجنة بازل للإشراف على الأعمال (BCBS) لضمان أن تكون إدارة البنك المركزي في المستقبل خالية من النفوذ السياسي وتضارب المصالح. 

علاوة على ذلك، فإن ميزانية ورواتب الهيئات الإشرافية التي تشرف على البنك المركزي يتم تحديدها حالياً من قبل البنك المركزي نفسه، في الوقت الذي يجب أن يتم وضعها من قبل هيئة مستقلة وضمان أنها تتماشى مع إصلاح أوسع للخدمات العامة.

 

ثانياً. اعتماد الانضباط المالي وتعزيز الإيرادات الضريبية 

يعد التحكم في حجم الأموال المتداولة أمراً في غاية الأهمية لإدارة توقعات التضخم وتقليل تقلبات سعر الصرف وزيادة الثقة في الليرة. لهذا يجب على البنك المركزي إنهاء سياسته المتمثلة في تمويل الإنفاق الحكومي من خلال النقد. ويتطلب ذلك إقرار ميزانيات مسؤولة مالياً، وتحديداً ميزانيات عام 2023 و2024 في الوقت المناسب، وإجراء إصلاحات مالية لزيادة الإيرادات الضريبية. 

إن أحد المصادر الأخيرة المتبقية للإيرادات المحتملة للحكومة هي الضرائب التصاعدية وتحسين أنظمة تحصيل الضرائب. ومن المرجح أن تواجه الإصلاحات التقدمية مثل زيادة ضريبة الدخل الشخصي وإصلاح السرية المصرفية (التي تشير التقديرات إلى أنها كلفت الحكومة 5 مليارات دولار في عام 2015 بسبب التهرب الضريبي المحلي) معارضة من بعض المصالح المترسّخة، وسيتطلب الأمر دعماً سياسياً واسع النطاق، لذلك، على كلّ هذه العمليّة أن تتمّ بالتزامن مع إعادة هيكلة النظام المالي لتقليل نسبة المعاملات التي تتم نقدًا لتسهيل تحصيل الضرائب. 

  

ج. تعويم مُدار لسعر صرف الليرة 

بعد إعادة الهيكلة الناجحة للنظام المالي وتنفيذ إصلاحات استعادة الثقة، ينبغي توحيد أسعار الصرف حول سعر منصة الصيرفة لجميع المعاملات بالعملة الأجنبية. ويشمل ذلك تحصيل الضرائب ورسوم الاستيراد وتحويلات العملات التي تتم لدى الصرافين. كما أنّه على صيرفة أن تنتقل من كونها أداة للتدخل في أسواق الصرف الأجنبي لتكون مركزَ مقاصةٍ للبنك المركزي، وعلى معاملات الصرف الأجنبي أن تتمَ في المقام الأول بين البنوك والجهات المالية التّابعة لها وليس مع البنك المركزي. 

إنّ تطبيق توصيات السياسة المذكورة أعلاه، سيضع الليرة في وضع يسمح لها بالدخول في نظام تعويم مُدار، وسيمنع البنك المركزي من التدخل لحماية سعر الصرف من التقلبات الشديدة باستخدام احتياطياته المتبقية من النقد الأجنبي كما يشاء إلّا في حالة واحدة أي :عندما تستقر الليرة عند مستوى معقول ومستدام ـ تحكمه زيادة الثقة وقوى السوق – وبشكل عام، ينبغي للبنك المركزي أن يحافظ على نهج رصينٍ ومتحفّظ في بدء التدخلات في سوق العملة لضمان النتائج المرجوّة والسير نحو الأفضل.

المواضيع ذات الصلة