لعبت المصارف اللبنانية دوراً هاماً بتوجيه البلد نحو الكارثة المالية التي يمر بها منذ سنة 2019، وتجنبها حتى اليوم العقوبات القانونية والإصلاح التنظيمي والجهود التي استثمرت لإجبارهم على تحمل مسؤولية العبء المالي.
السؤال الذي يطرح في هذه الحالة هو: هل يجب على السياسيين إلزام المصارف قضائياً بتحمل مسؤوليتها؟ الجواب هو أن كثيراً منهم يشغلون مناصب في مجالس إدارة المصارف أو يملكون أسهماً فيها.
يظهر “البديل” في هذا التحقيق الذي اشترك به مع رابطة المودعين التضارب الهائل بين مصالح سياسيين لبنانيين والمصارف المالية عبر دراسة أصول أكبر 15 مصرفاً لبنانياً، كما يظهر أيضاً أن ربع أعضاء مجالس إدارة أكبر المصارف اللبنانية ينطبق عليها التعريف المتبع عالمياً للشخصيات السياسية البارزة، وهي الشخصيات التي شغلت أو تشغل منصباً عاماً أو تعتبر مقربة لهذه الشخصيات بحكم العائلة أو الزمالة.
تجلى المثال الواضح حول تضارب المصالح عندما ادعت القاضية العامة في محكمة الاستئناف في جبل لبنان غادة عون على بنك عودة وبنك سوسيتيه جنرال ورؤسائهم بتهمة غسيل الأموال في فبراير (شباط) الماضي، وبحسب التقرير السنوي لجمعية المصارف في لبنان لسنة 2022، فإن بنك عودة يعتبر أكبر المصارف بأصول تفوق 40 مليار ليرة[1]، بينما يعتبر سوسيتيه جنرال ثالث أكبر المصارف.
تدخل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بالقضية بعد فترة وجيزة من رفعها طالباً من وزير الداخلية بسام مولوي منع قوى الأمن من تنفيذ أوامرها، وأدعى ميقاتي أن عون تخطت صلاحياتها القضائية، بينما أدعى مجلس القضاء الأعلى أن ميقاتي انتهك استقلالية القضاء. ومن الشخصيات السياسية البارزة التي ترأس مصارف أو تمتلك أسهماً فيها، يوجد طه ميقاتي، شقيق نجيب ميقاتي، وهو يملك حصة تقدر بـ2.3 بالمائة من بنك عودة.
تعتبر السجالات التي تقام عن تأثير الحصص المالية لطه ميقاتي أو غيره من مالكي حصص مالية في المصارف على قرار إيقاف التحقيق أقل أهمية من حتمية تأثيرها على قرار عون، فقد أعطت السلطات اللبنانية نجيب ميقاتي الثقة لاتخاذ القرارات التي تخدم المصلحة العليا للبنانيين في المرات الثلاث التي انتخب فيها رئيساً للحكومة، لكن استثمارات شقيقه التي تبلغ مئات ملايين الدولارات هي في صلب مصالحه الخاصة.
لن يكون ميقاتي قادراً على القيام بمهمته دون تساهل عند تداخل هاتين المصلحتين، وهو ما حصل بالدعوى التي رفعتها عون، حيثُ تمكن ميقاتي من طمأنة الشعب اللبناني، وأن ينقذ نفسه عبر السماح لجهة ثالثة مستقلة ونزيهة أن تقرر ما أن تخطت عون صلاحياتها أم لا، فقد كان يجب على ميقاتي اتخاذ هذه الخطوة بيد أنه لم يفعل، يمكننا أن نخمن: هل كان الهدف الحفاظ على القانون أم أنه أساء استعمال سلطته لحماية ثروة العائلة؟
تتداخل السلطة العامة والمصلحة الشخصية بسلسلة المناصب السياسية والقطاع المصرفي في البلد، كما يظهر التحقيق أن القادة السياسيين يتعاملون مع صنع القرارات من منظار مصالحهم المالية الشخصية، ويطرح ذلك تساؤلات حول الأسباب التي عرقل أو أَجَّل فيها أصحاب المناصب القيادية الأعلى المحاولات القضائية للتدقيق بميزانية المصارف، وفرض شفافية حساباتها خلال السنوات الثلاث للانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه لبنان. والسؤال: لماذا لم تطبق الحكومة الإصلاحات اللازمة للحصول على حزمة إنقاذ بعد سنة من توقيع لبنان عقداً بقيمة ثلاثة مليار دولار مع صندوق النقد الدولي؟
تتضمن الإصلاحات المطلوبة إطاراً قانونياً لإعادة توزيع خسائر الأزمة اللبنانية على الحكومة والمصارف والمودعين، كما تتضمن إزالة السرية المصرفية تماهياً مع القوانين الدولية، وإعادة هيكلة القطاع المالي، وتطبيق الكابيتال كونترول، وهي إصلاحات تهدد الحصانة التي تتمتع بها المصارف.
يربط تحقيق “بديل” مصالح السياسيين اللبنانيين المباشرة وغير المباشرة بالمصارف وتلك الصلات ليست دليلاً على استغلال السلطة أو ارتكاب خطأ، بيد أنها تشير إلى تضارب مصالح معظم الطبقة السياسية اللبنانية، مما يعيق تصحيح الأخطاء أو رسم خطة نجاة للأزمة المالية في لبنان.
يحتاج القادة إلى إنقاذ أنفسهم، وإن لم يفعلوا يجب أن يجبرهم الضغط الدولي بكل السبل على التنحي عن السلطة لجهة ثالثة مستقلة ونزيهة، وستتمكن الجهة الثالثة من التحقيق بخروقات القانون اللبناني والقوانين الدولية، وإحقاق الحق حيث يجب.
تواصل موقع “البديل” مرات عدة مع جميع المصارف المذكورة في هذا التحقيق قبل النشر لطلب التعليق. وكان محمد صيداني، وهو أمين سر مجلس إدارة بنك لبنان والمهجر، الممثل المصرفي الوحيد الذي أصدر بياناً رداً علينا، وذكر في البيان أن القطاع المصرفي “هو من الركائز الأساسية لأي اقتصاد” وأن حمايته من “أي شبهات وأضاليل مزيفة” يكون بمثابة حماية الاقتصاد الوطني، مضيفا أن سوء إدارة البلد وليس سياسات المصارف هو الذي أدى إلى الأزمة المالية، مؤكداً أن بنك لبنان والمهجر ما زال ملتزماً بـ”المعايير القانونية والأخلاقية الأعلى والقوانين والأنظمة المرعية وفقاً للإجراءات المحلية والعالمية”.
وقال صيداني في إطار حديثه عن الأزمة الاقتصادية أن بنك لبنان والمهجر اتبع قرارات المصرف المركزي وجمعية المصارف في لبنان للحد من التحويلات المالية بالعملة الأجنبية، مضيفا أنه “من مبدأ العدالة والإنصاف، لم يُقدم البنك على إجراء أي تحويل للودائع إلى الخارج لمصلحة أعضاء إدارته أو لمساهميه أو لسياسيين أو مقرّبين”.