تصدّرت المأساة اللبنانية عناوين الصحف العالمية تحت ظل واقع مثير للقلق عندما انفجر أكثر من ألفي طن من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت في أغسطس (آب) من عام 2020، وطالما كان ميناء بيروت لعقود من الزمن مرتعاً للنشاط الإجرامي وعدم الكفاءة الفادحة، سمح خلالها الفساد المستشري باستنزاف الأرباح المالية للميناء، مما أدى إلى إثراء السياسيين وأعوانهم على حساب المجتمع، وبالإضافة إلى ذلك أدت قرارات التخطيط الحضري الكارثية إلى عزل مرفأ بيروت عن المدينة وإنشاء طريق سريع متعدد المسارات، علماً أنه منذ أغسطس (آب) من عام 2020 لا تزال المباني كما هي، محطمة وغير مرممة.
حيثُ تم الإعلان عن خطة إعادة التطوير برعاية مجموعة البنك الدولي في فبراير (شباط) من العام 2022، والتي بدورها يمكن أن تحول ميناء بيروت إلى قوة اقتصادية ومساحة مجتمعية نابضة بالحياة، ولكن للأسف تشير الدلائل المبكرة إلى أن التخطيط والإصلاحات التنظيمية المقترحة ترسخ نفس الإدارة والممارسات الفاسدة التي جلبت الميناء إلى أدنى مستوى له حتى هذه اللحظة.
ما على المحك!
ستساعد خطة إعادة تطوير الميناء المقترحة في تشكيل أفق مالي واجتماعي للمدينة في المستقبل، حيث يمكن لمرفأ بيروت أن يلعب دوراً حاسماً في دفع لبنان للتعافي من الأزمة الاقتصادية الحالية غير المسبوقة، هذا إن لم يجد الفساد طريقه إلى المرفأ مرة اخرى، وتبلغ السعة الكاملة للميناء 1.4 مليون حاوية مكافئة لـ20 قدمًا (TEU)، والتي تمنح بيروت سعة الشحن البحري نفسهالميناء حيفا، المنافس الرئيسي في شرق البحر الأبيض المتوسط، وأكثر من ضعف سعة ميناء اللاذقية، علماً أنه إذا تم جمع قدرته بميناء طرابلس فإن سعته المتوقّعة ستصل إلى نحو 1.3 مليون حاوية، ويبقى الشحن عبر الموانئ اللبنانية خياراً جذاباً لشركات الشحن في البحر الأبيض المتوسط، حيث تُقدر الإيرادات من شحن الحاويات وحدها عبر مرفأ بيروت الذي يعمل بشكل جيد بنحو 175 مليون دولار أميركي سنوياً.
كما يبدو أن الموقع الجغرافي للبنان مناسب للاستفادة من تزايد التجارة مع البلدان الداخلية في المنطقة من خلال إعادة إعمار سوريا في نهاية المطاف، على سبيل المثال لا الحصر، ومن الممكن أن تخلق تلك الفرص التجارية المزيد من فرص العمل ومصادر الدخل للأسر اللبنانية، خاصة إذا ضغط المجتمع الدولي اتجاه إدارة شفافة للإيرادات وحوكمة رشيدة.
كما يمكن للتخطيط الحضري الأكثر تماسكاً أن يمنح فوائد اجتماعية كبيرة لمدينة بيروت من خلال الاستفادة بشكل أفضل من الموقع المركزي للميناء، تقول سيلفيا يمين، الأستاذة في كلية الهندسة المعمارية في جامعة البلمند الخاصة في لبنان، إن الخطة الرئيسية الجديدة لميناء بيروت يجب أن تركز على “نقل المدينة إلى الماء” من خلال استراتيجيات التخطيط الحضرية المختلفة، وتشمل هذه الاستراتيجيات توفير مساحات غير رسمية للعروض والمناسبات، بالإضافة إلى إنشاء مسارات المشي والمتنزهات، والحفاظ على الهوية المعمارية لمنطقة الميناء، والسماح بمزيد من المساحات الخضراء.
ويمكن من وجهة نظر يمينإ يجاد أنشطة بناء المجتمع التي تحترم وتسهل الوظائف التجارية للميناء، موضحة ذلك بقولها: “يجب إن تشارك الخطة الرئيسية في توظيف الواجهة البحرية الحضرية والصناعية للميناء”، كما نقرا في وصفت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية عملية إصلاح إدارة مرفأ بيروت بأنها “اختبار حاسم لإرادة الطبقات السياسية في لبنان” لإجراء إصلاحات واسعة النطاق تعود بالنفع على الاقتصاد اللبناني ورفاهية الشعب اللبناني.
من يقوم بالتخطيط؟
منح البنك الدولي عقد إعداد المخطط الرئيسي والرؤية للميناء إلى كونسورتيوم بقيادة شركتي “خوري للاستشارات اللبنانية”، و”Royal Haskoning DHV” للاستشارات الهندسية الدولية، وكُلف الكونسورتيوم، من بين المهام الأخرى، بإعداد “استراتيجية قطاع الموانئ المثلى التي تخدم المجتمع على أفضل وجه، وتعزز التكامل بين الموانئ والبنية التحتية اللوجستية، وتزيد التجارة، وتعزز القدرة التنافسية للبنان في المنطقة، وتضع البلاد كمحور لوجستي في المنطقة”.
ومع ذلك، تشير اتصالات البنك الدولي التي اطلع عليها “البديل” إلى أن المجموعة الدولية استثنى واحدة من الشركات الرئيسية “Hamburg Ports Consulting” للتقديم للعطاء على أساس الافتقار إلى “الخبرة والقدرة ذات الصلة”، مع العلم أنها واحدة من أكثر شركات استشارات الموانئ شهرة في العالم، وقد نفذت أكثر من 1700 مشروع متعلق بالموانئ في 130 دولة على مدار 45 عاماً.
ولأكثر من عام، قام الكونسورتيوم الذي يقوده HPC بإدارة حملة حظيت بدعاية جيدة لإنشاء رؤية لميناء بيروت تستند إلى تنمية المصلحة العامة والإدارة المالية المستقلة والشفافة، بما في ذلك تقييمات مفتوحة المصدر لمسودة الخطة الرئيسية، بالإضافة إلى منصة تدعو إلى مدخلات من المجتمع المدني.
واقترحت خطة HPC التي تم تقديمها بالفعل للحكومة اللبنانية إعادة تطوير المنطقة عن طريق نقل الكثير من عمليات الميناء الحالية إلى خارج وسط المدينة، حيث كان من المفترض أن يؤدي النقل المقترح إلى نقل القلب التجاري للميناء إلى أماكن قريبة من المناطق الصناعية، مع توفير 50 ألف فرصة عمل إضافية على مدى 10 سنوات من البناء.
بشكل حاسم من المتوقع أن يدر اقتراح HPC 2.5 مليار دولار أميركي من الأرباح، والتي ستدار من قبل ثقة عامة مستقلة بدلاً من الحكومة اللبنانية وسلطات الموانئ الحالية، بيد أن شركتي “خوري للاستشارات اللبنانية” و”Royal Haskoning DHV” لم تفصحا حتى الآن عن أي معلومات حول الفوز بعقد المخطط الرئيسي ولا نواياهم لإشراك المجتمع المدني.
من جانبه شجع البنك الدولي على أن “أفضل ما جاء في المخطط الرئيسي وقانون الميناء هو الحوكمة الجديدة والإجراءات المنفتحة والشفافة”، وحتى تاريخ نشر هذه الورقة لم يذكر البنك الدولي أي تفاصيل خاصة بمجموعات المجتمع المدني التي تنوي الخطة الرئيسية التشاور معها، ولا كيف سيتم إدراج وجهات نظرها وإعطاء الأولوية لها، ولكن عندما قام “البديل” بالاستفسار عن هذه النقطة، أصدر البنك الدولي بياناً يدعي فيه أن “أي شركة لديها المؤهلات المطلوبة وليس لديها تضارب في المصالح مع المهمة سوف يسمح لها بتقديم عطاء، بما في ذلك شركة Hamburg Port Consulting”.
العربة قبل الحصان
لقد أصبح واضحاً أن البنك الدولي والحكومة اللبنانية ينظران إلى عملية إعادة التنمية بشكل مختلف، وبعد أسبوع واحد فقط من الإعلان الرسمي عن مشروع الإصلاح القانوني والخطة الرئيسية، قام علي حمية، وزير الأشعال العامة والنقل، بمنح شركة CMA-CGM، وهي شركة فرنسية متعددة الجنسيات لها علاقات لبنانية، عقداً لمدة 10 سنوات لتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت، لكن الحكومة اللبنانية عند إبرام هذه الاتفاقية لم تنتظر إكمال الخطة الرئيسية الجديدة أو مسودة وتنفيذ الإصلاحات التشريعية المقترحة، كما لم يكن البنك الدولي مشاركاً في عملية المناقصة لإعادة تطوير محطة الحاويات.
وحذرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، الجهة التي أجرت دراسة جدوى شاملة لإعادة تطوير موانئ لبنان، من اتخاذ قرارات كبرى دون ترسيخ هيكل حوكمة سليم أولاً، وخلصت دراسة الوكالة الأميركية إلى أن “انتقال (الحكم) قد يستغرق من سنة إلى خمس سنوات، بشرط وجود التزام سياسي قوي” ثانياً.
في تفاصيل تثير الدهشة بشكل خاص، يتم إصدار عقد CMA CGM وإدارته بواسطة هدف مركزي للإصلاحات التنظيمية المقترحة: اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت (GEBP باللغة الفرنسية)، التي تدير مشروع ميناء بيروت منذ عام 1993، على الرغم من كونها مجرد هيئة إدارية مؤقتة إلى أن يتم إنشاء هيئة رسمية للموانئ، حيث أثارت الإدارة المبهمة لـ GEPB والافتقار إلى الشفافية المالية أسئلة جدية على مدى العقود التالية.
ويوضح تقييم الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالتفصيل كيف أن بنك GEPB لا يقدم حساباته إلى وزارة المالية للتدقيق، وقد أدرج قروضاً من بنوك التنمية الدولية ضمن إيراداته، بدلاً من معدل محدد لتحويل الأرباح إلى الحكومة، فضلاً عن تمرير GEBP أجزاء غير متوقعة وغير مفسّرة الأرباح.
إيرادات وأرباح وتحويلات ميناء بيروت إلى الخزينة (بملايين الدولارات الأميركية):