المظلومية الأبدية: كيف تحول العنصري الإسرائيلي إلى حمل وديع؟

اليمين المتطرف في كل من إسرائيل وهولندا يستغل العنف في كرة القدم في أمستردام

15 تشرين الثاني، 2024

كما علمنا جوزيف غوبلز، تكمن قوة الدعاية السياسية في التكرار والتلاعب بوسائل الإعلام مثل لوحة مفاتيح. الإعلام، بأيدي مع يحسن استعماله، بإمكانه أن يقنع الناس أن الأرض مسطحة، أو أن يحول أكبر مثيري الشغب في كرة القدم إلى حملان بيضاء وديعة. 

في 7 تشرين الثاني انتهت مباراة الدوري الأوروبي بين أياكس أمستردام ومكابي تل أبيب بليلة من المعارك الضارية والعنف العلني. سارعت وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون إلى إدانة أعمال العنف في أمستردام ووصفتها بأنها “معادية للسامية”. حتى أن البعض أشار إليها على أنها “بوغروم”. 

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو ضابط إيقاع الحملة الإعلامية العالمية التي أعقبت المباراة، من خلال تأطيره للعنف بأنه “هجوم معاد للسامية مخطط له ضد المواطنين الإسرائيليين”. لم يكن بإمكان أي كاتب السيناريو في هوليوود أن يقوم بعمل أفضل عندما أضاف: “ليلة بلّور في شوارع أمستردام.” 

ومع ذلك، فإن العنف في أمستردام، والذي شهد إصابة خمسة إسرائيليين وإلقاء واحد في قناة النهر، كان بعيداً كل البعد عن مقدمة المحرقة في 9 تشرين الثاني 1938، عندما نهب الألمان النازيون وألقوا القنابل الحارقة على آلاف المنازل والشركات والمعابد اليهودية. وذبحوا 91 مواطناً يهودياً. 

إن استحضار ذكريات الحرب العالمية الثانية لا يفشل في ضرب الوتر الحساس في هولندا. ففي ظل الاحتلال الألماني في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، كان عدد كبير جدًا من المواطنين والبيروقراطيين الهولنديين متعاونين للغاية مع النظام النازي وسياساته. 

ونتيجة لذلك، تم ترحيل ثلاثة أرباع اليهود الهولنديين البالغ عددهم حوالي 100 ألف ولم يعودوا أبداً. عاش معظمهم في أمستردام، والتي لا تزال معروفة على نطاق واسع باسمها اليديشي: موكوم. ولا يزال التعاون الهولندي مع النازيين في الحرب العالمية الثانية مصدراً للعار الجماعي والشعور بالذنب بين الهولنديين حتى اليوم. 

“لقد خذلنا الجالية اليهودية في هولندا خلال الحرب العالمية الثانية”. هكذا قال الملك الهولندي ويليم ألكسندر في حديثه مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ بعد يوم من المباراة. “والليلة الماضية فشلنا مرة أخرى.” 

أما رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف فقد شعر “بالرعب” من “الهجمات المعادية للسامية” وطمأن نتنياهو شخصياً أنه سيتم معاقبة جميع الجناة. 

وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيسة الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، ووزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، على سبيل المثال لا الحصر، من الزعماء الغربيين الذين يرددون نفس التصريح دون تغيير كلمة، في إشارة إلى وقوع “مواطنين إسرائيليين” ضحايا لهجمات “معادية السامية”. 

وينطبق الشيء نفسه على معظم وسائل الإعلام الغربية، والتي وصف أغلبها أنصار “مكابي تل أبيب” بعبارات محايدة، وفي الوقت نفسه وصمت العنف الذي واجهوه على أنه معاد للسامية. 

في البداية نشرت الهيئة البريطانية سكاي نيوز تقريراً متوازنا بقلم مراسلة أمستردام أليس بورتر. وذكرت أن المشجعين الإسرائيليين كانوا يرددون أغاني عنصرية ويمزقون الأعلام الفلسطينية. ومع ذلك، قامت هيئة الإذاعة البريطانية بحذف مقطع الفيديو الخاص بها لأنه لا يفي “بمعايير التوازن والحياد” الخاصة بالشركة. 

إن تصوير مثيري الشغب الإسرائيليين على أنهم مساكين وضحايا لمعاداة السامية يتناسب بشكل جيد مع العديد من السرديات السياسية الأوسع.

القومية المتطرفة 

في هذه الأثناء، أصبح من الواضح تماماً أن أنصار “مكابي تل أبيب” لم يكونوا بأي حال من الأحوال حملاناً وديعة يُساق بها إلى المذبحة. بل في الواقع يمكن القول أنهم بدأوا كل دوامة العنف هذه. 

في أوساط كرة القدم في إسرائيل فإن أنصار مكابي تل أبيب، على عكس منافسيهم المحليين هبوعيل تل أبيب، معروفون جيداً بتوجهاتم اليمينية والقومية المتطرفة – وحتى العنصرية. فإن نشيد النادي يتحدث عن “العاهرات العربيات” و”شرب الدم الشيوعي” وحتى إيحاءات إلى اغتصاب النساء. 

وفي الليلة التي سبقت المباراة، سار المئات من المشجعين في شوارع أمستردام، ومزقوا الأعلام الفلسطينية. حين واجههم أحد سائقي سيارات الأجرة، تعرض للضرب وتعرضت سيارته لأضرار بالغة. ومما يعرفه كل هولندي أن من الأفضل عدم العبث مع سائقي سيارات الأجرة في أمستردام. فهم يتعاملون مع السياح السكارى والمخدرين في نهاية كل أسبوع، وهم منظمون جيداً. 

بعد أن تعرض أحد السائقين للضرب، تجمع عشرات الآخرين وأصدقائهم أمام الكازينو حيث كان يلعب العديد من مشجعي “مكابي تل أبيب”، وبفضل وجود الشرطة الهولندية ذلك المساء، تم تفادي أسوأ السيناريوهات. 

أما طوال اليوم التالي طرأت مناوشات (لفظية) بين المؤيدين الإسرائيليين والمتظاهرين الهولنديين المؤيدين لفلسطين ومعهم أشخاص من أصول عربية. وقبل بدء المباراة، وأثناء دقيقة صمت على أرواح ضحايا الفيضانات الإسبانية، تعالت أصوات الجماهير الإسرائيلية في الملعب بالهتافات والألعاب النارية. لماذا؟ فقط لأن إسبانيا اعترفت مؤخراً بالدولة الفلسطينية وهي واحدة من الدول الأوروبية القليلة التي تنتقد إسرائيل والمذبحة في غزة علناً. 

وبعد المباراة، واصلت جماهير مكابي الإسرائيلي استفزاز الناس في المترو وأمام محطة القطار، عبر أناشيد تمدح الجيش الإسرائيلي وتنادي بالموت للعرب، مرددين: “لا يوجد مدارس في غزة لأنه لم يبق أطفال.” 

وبعد فترة وجيزة، اندلعت أعمال العنف. وبحسب السلطات الإسرائيلية، فقد كان هناك عدد من عملاء الموساد بين الجماهير، مما يجعلنا نتساءل: هل حاول هؤلاء إيقاف الجماهير عن شغبهم؟ أم أنهم شاركوا به؟ 

 

الأصفر والأزرق 

وعلى التطبيقات ومنصات التواصل، وفي المجموعات التي تدعو الناس إلى تلقين المشجعين الإسرائيليين درساً، استخدم البعض مصطلح “joden jagen” (اصطادوا اليهود). قد تكون هذه لغة غير لائقة، لكن المشاهد التي تلت ذلك تظهر أن الناس لم يكونوا يبحثون عن اليهود، ولا الإسرائيليين، بل عن الأشخاص الذين يرتدون ملابس صفراء وزرقاء، أي مشجعي مكابي تل أبيب الذين غزوا مدينتهم وتصرفوا كما لو كانت ملكاً لهم. 

فإن تصوير مثيري الشغب الإسرائيليين على أنهم مساكين وضحايا لمعاداة السامية يتناسب بشكل جيد مع العديد من السرديات السياسية الأوسع. أولها الفكرة الإسرائيلية القائلة بأن معاداة السامية منتشرة وعالمية، وبالتالي أن اليهود لن يشعروا بالأمان الحقيقي دون أن تكون إسرائيل وطنهم. 

ثانياً أن إسرائيل، وكما المشجعين “الأبرياء” في شوارع أمستردام، يحق لها أن تدافع عن نفسها ضد الشعوب العربية “البغيضة” بما يشمل ذلك حزب الله وحماس.   

أما على الجانب الهولندي، تغذي هذه الأحداث سرديات أوسع أيضاً. فحين واجه رئيس الوزراء شوف، والذي يرأس الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ هولندا، سلوك جماهير مكابي تل أبيب، كان مراوغاً، ورفض إدانته حتى يتم إجراء تحقيق شامل. 

 

تساءل هنا كيف كانت ستكون ردة الفعل الغربية لو تدفق مشجعو كرة القدم الروس إلى أمستردام وهم يرددون شعارات مؤيدة للحرب في أوكرانيا، ويمزقون الأعلام، ويضربون سائقي سيارات الأجرة، ولا يحترمون حتى دقيقة صمت قبل المباراة.

ومع ذلك فهو لم يكن بحاجة إلى مزيد من التحقيق ليخلص إلى أن هولندا تواجه مشكلة وجودية مع الأشخاص ذوي الخلفية المهاجرة الذين لا يتشاركون نفس القيم. ودعا إلى نقاش عاجل حول الهجرة والاندماج. 

وكان خيرت فيلدرز، المتطرف اليميني الذي يشكل حزبه جزءاً من الحكومة الائتلافية، أكثر وضوحاً في تصريحاته، إذ دعا لتجريد مرتكبي أعمال العنف الذين يحملون جنسية مزدوجة من جنسيتهم الهولندية وطردهم من البلاد. 

نتساءل هنا كيف كانت ستكون ردة الفعل الغربية لو تدفق مشجعو كرة القدم الروس إلى أمستردام وهم يرددون شعارات مؤيدة للحرب في أوكرانيا، ويمزقون الأعلام، ويضربون سائقي سيارات الأجرة، ولا يحترمون حتى دقيقة صمت قبل المباراة. هل كان سيتم تصويرهم كضحايا؟ وهل يُلام الأوكرانيون والمتعاطفون معهم على “تغذية المشاعر المناهضة لروسيا”؟ 

ومن ناحية أخرى، فإن أحد الشعارات الرئيسية للاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA) أن الرياضة والسياسة لا يختلطان. ولهذا السبب يتم تغريم سلتيك، من بين أندية أخرى، على كل مرة يلوح فيها مشجعوه بالعلم الفلسطيني تضامنا مع شعب غزة. هل سيحظر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم نادي “مكابي تل أبيب” أو يفرض عليه غرامة على الأقل؟ 

بيتر سبيتجينس صحفي هولندي يغطي أحداث الشرق الأوسط منذ التسعينيات. 

المواضيع ذات الصلة