لطالما استثمرت الولايات المتحدة في مكانتها كقوة عظمى لمنح إسرائيل حصانة من المساءلة الدولية، وعرقلة الجهود الرامية إلى محاكمة مسؤوليها بسبب انتهاكات القانون الدولي. تتجلى هذه السياسة في المناورات الدبلوماسية والإجراءات التشريعية والتدخلات المباشرة ضد الآليات القضائية.
وقد عزّز الرئيس الأميركي دونالد ترامب معارضة واشنطن للمحكمة من خلال إعادة فرض العقوبات على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لواشنطن. ولم تكن هذه مجرد حالة فردية، بل كانت إشارة واضحة إلى أن أي محاولة لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين ستواجه إجراءات عقابية.
يطالب كثيرون في لبنان بمحاسبة إسرائيل عن انتهاكاتها للقانون الدولي في خلال الحرب الأخيرة. ومن أبرز الجهود المبذولة لتحقيق ذلك، الضغط من أجل انضمام لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما سيمكنه من التحقيق في هذه الجرائم ومحاكمة المسؤولين عنها.
ساهم قلق القادة اللبنانيين بشأن الخضوع لولاية المحكمة في عرقلة محاولة الانضمام إلى ميثاق المحكمة الدولية في العام الماضي. ولكن، حتى إذا تم تجاوز هذه العقبة داخلياً فإن هناك عقبة كبيرة أخرى تلوح في الأفق: واشنطن. فقد كانت المساعدات العسكرية والإنسانية الأميركية ضرورية للغاية في الحفاظ على الاستقرار الداخلي للبنان منذ انهياره المالي في العام 2019. وفي الوقت ذاته، تتمتع واشنطن بتاريخ طويل في استخدام المساعدات كوسيلة للتأثير على السياسات، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحماية حليفتها الأساسية إسرائيل.
في هذه الأثناء، تضمن خطاب القسم للرئيس جوزاف عون التأكيد على أن الحفاظ على سيادة القانون وحماية حقوق اللبنانيين يتطلب المحاسبة. فهل يمكن لهذا الالتزام أن يمتد ليشمل السعي لتحقيق العدالة بشأن الجرائم الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية؟ وما هي كلفة ذلك؟
درع واشنطن لحماية إسرائيل من المحاسبة
استغلت الولايات المتحدة على مدى عقود مكانتها كقوة عظمى عالمية لتمهيد الطريق أمام إسرائيل للتصرف مع الإفلات من العقاب وتجنب المساءلة الدولية. وهذا يشمل استخدام واشنطن حق النقض 49 مرة ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن إسرائيل منذ العام 1970. وعملت واشنطن أيضاً على تقويض الآليات القضائية الدولية عندما رأت أنها تتعارض ومصالحها، حيث أثارت المحكمة الجنائية الدولية غضب الأميركيين منذ إنشائها في العام 2002.
وفي حين أن محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، تنظر في القضايا بين الدول، فقد تأسست المحكمة الجنائية الدولية بشكل مستقل عن الأمم المتحدة لمحاكمة الأفراد على “أخطر الجرائم التي تثير الاهتمام العالمي”، بما فيها الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. ويبلغ عدد الدول الموقعة على نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية اليوم 125 دولة.
وفي حين أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم توقعا على نظام روما، فمنذ إنشاء المحكمة سعت كل الإدارات الأميركية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، إلى عرقلة عمل المحكمة. فعلى سبيل المثال، ورداً على المحكمة الجنائية الدولية، أصدر الرئيس جورج دبليو بوش قانون حماية أعضاء الخدمة الأميركية (ASMP) في العام 2002، والذي أُطلق عليه بشكل غير رسمي “قانون غزو لاهاي”. ومن بين بنود هذا القانون، سمح باتخاذ إجراءات عسكرية ضد المحكمة الجنائية الدولية إذا حاولت محاكمة مسؤولين أميركيين أو من دولة “حليفة” مثل إسرائيل.
عارضت إدارة أوباما علناً تقرير غولدستون الصادر عن بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن الهجوم الإسرائيلي على غزة في عامي 2008 و2009، والذي اتهم كلاً من الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية المسلحة بارتكاب جرائم حرب. وسعت إدارته لاحقاً إلى عرقلة حصول فلسطين على اعتراف الأمم المتحدة في العام 2012، وهي خطوة أساسية مهدت لانضمامها إلى نظام روما الأساسي بعد ثلاث سنوات.
عزَّز الرئيس دونالد ترامب العداء الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية في العام 2020 بفرض عقوبات عليها والتهديد باتخاذ “كل الإجراءات الضرورية” لحماية المصالح الأميركية. ثم رفع الرئيس جو بايدن بعض عقوبات ترامب، إلا أنه بالمقابل قدَّم دعماً عسكرياً ودبلوماسياً واسعاً لإسرائيل في خلال الحرب على غزة، وأدان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بعد إصداره مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين العام الماضي. وأثارت أوامر الاعتقال غضب الحزبين في واشنطن، وهو ما عبَّر عنه السيناتور الجمهوري توم كوتون، واصفاً المحكمة الجنائية الدولية بـ”المحكمة الصورية”، ومدعيها العام بـ”المتعصب والمختل”، كما استشهد بـ”قانون غزو لاهاي” لحماية المسؤولين الإسرائيليين.