وداعاً للعماد وأهلاً بالرئيس: جوزاف عون رئيس جمهورية الأمر الواقع

يرث رئيس الجمهورية الجديد نظاماً معطلاً، وخياراته ستحدد ما إذا كان إصلاحياً أم مجرد "جنرال" آخر.

14 كانون الثاني، 2025

أخيراً أصبح للبنان رئيس جديد. بعد أكثر من عامين من شغور القصر الجمهوري تمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس للجمهورية. بالنسبة لكثيرين في المجتمع الدولي، يمثل هذا التطوّر انتصاراً للتوافق وعودة إلى القواعد الدستورية، وربما حتى بصيص أمل لبلد مزقته الأزمات المتلاحقة. 

وبرغم أن الرئاسة الفعالة تشكل (من الناحية النظرية) أهمية بالغة لعمل الحكومة على نحو لائق، إلا أننا لا ينبغي أن نخلط بين هذه الممارسة الإجرائية وبين التقدم الحقيقي.  

فالطريقة التي آلت إليها هذه الرئاسة لا تدعو إلى التفاؤل، بل تسلط الضوء على الحالة المتداعية للنظام السياسي اللبناني الذي تآكل تحت وطأة عقود من المشاحنات الطائفية وفقد شرعيته بسبب القوة العسكرية لحزب الله، ودمره المصرفيون والسياسيون الذين أشرفوا على واحدة من أسوأ الانهيارات المالية في التاريخ الحديث. 

وبعد أكثر من عامين من المساومات حول من من المسيحيين الموارنة سيكون رئيساً، انتهى الأمر بالخيار الأسهل: قائد الجيش. هذه المرة الثالثة منذ الحرب الأهلية التي يعود فيها لبنان إلى هذا الخيار الاحتياطي، وفي كل مرة يبدو الأمر وكأن النخبة السياسية غير قادرة على الابتكار أو المساءلة. وهذا في أفضل حالاته خلل وظيفي، بل هو شكل من التآكل الهيكلي في النظام السياسي الذي لا ينبغي أن يحتفى به أو تفرش أمامه السجادة الحمراء. 

حان الوقت لمطالبة الرئيس عون بحوكمة جريئة وشاملة وشفافة – وهي صفات كانت غائبة بشكل كامل عن رئيس الجمهورية اللبنانية لسنوات طوال.

وكل هذا يقودنا إلى السؤال الأكبر: ما الذي يجعل قائد الجيش رئيساً مناسباً؟ تتطلب إدارة مؤسسة عسكرية صرامة إجرائية وانضباطاً لكنها لا تترجم بالضرورة إلى الرؤية أو التعاطف اللازمين لمعالجة المستنقع الاجتماعي والاقتصادي والجيوسياسي في لبنان. 

كونك جنرالاً لا يعني أنك تستطيع تعليم الأطفال أو رعاية المسنين أو إعادة الودائع المسروقة، أو صياغة سياسات لإنعاش الاقتصاد المنهار. ولم يقدم العماد (الآن الرئيس) جوزاف عون سوى القليل من الدلائل أن لديه خططاً لأي من هذه القضايا الملحة. 

كما وإن التصور بأن القائد العسكري يجلب القوة والحسم هو تصور منقوص وقصير النظر. فإن الجيش اللبناني –رغم الاحترام الذي يحظى به– بعيد كل البعد عن نموذج الإصلاح أو الكفاءة. 

شهدت المؤسسة العسكرية تحت قيادة العماد عون ركوداً في عدة مجالات حساسة. فاليوم لا يزال سلك الضباط متضخماً وغابت الإصلاحات الهيكلية بشكل واضح عن المؤسسة ككل. كما هددت الأزمة المالية التي أفلست البلاد بانهيار الجيش، ومع ذلك كله لم يتم تنفيذ التغييرات الضرورية لضمان استدامته المالية أو تبسيط عملياته. 

إذا كان هذا التقاعس عن العمل مؤشراً عما يمكن توقعه من حكم الرئيس عون فإن لبنان سيشهد المزيد مما عهدناه: الترقيع على الهوامش وتجنب الأسباب الجذرية لأزماتنا. 

هل يستطيع لبنان أن يوقف إنهيار المؤسسات؟ 
 

يجب أن لا ننسى أن نظام المحاكم العسكرية –وهو من بقايا حقبة ماضية– تم استخدامه لمحاكمة المدنيين بما فيهم الصحفيين والممثلين الكوميديين، بسبب أمور اعتيادية مثل منشورات على الفيسبوك. 

هذه الممارسات غير دستورية وقمعية وتتناقض مع الحكم التقدمي الشفاف الذي يحتاجه لبنان أكثر من أي وقت مضى. فإن الدولة التي تعاقب مواطنيها بسبب حرية التعبير تحت ستار الانضباط العسكري ليست دولة على طريق التعافي. 

وحتى مع عودة الرئاسة إلى قصر بعبدا إلا أن سجل لبنان لا يقدم سوى حفنة من الأمل أن يؤدي وجود رئيس إلى تغيير حقيقي. فعلى مدى العامين الماضيين من الشغور الرئاسي عملت ما تسمى بحكومة تصريف الأعمال بشكل روتيني إلى حد كبير، مما أظهر عدم أهمية الرئاسة في الواقع اليومي للحوكمة في لبنان، وبمعزل عن وجود الرئيس أو غيابه، فشلت الحكومات المتعاقبة في تنفيذ الإصلاحات. ويعلم جميع اللبنانيين أن النظام، في مجمله، معطل بسبب بنيته الطائفية ومشاحناته التافهة والتدخلات الدولية. لذا دعونا لا نتظاهر بأن وجود الرئيس سيغير أي من ذلك. 

إذأً ما الذي سيتغير في عهد الرئيس عون؟ على أقل تقدير فإن فترة ولايته ستختبر مدى قدرة عون على خوض نفس السياسة القديمة القائمة على المساومة والتي عطلت كل الرئاسات الأخرى. فهل سيشكل حكومة مليئة بالموالين للأحزاب التقليدية، أم سيحاول –رغم كل الصعوبات– الضغط من أجل تشكيل حكومة مؤهلة حقاً؟ واستناداً إلى السوابق التاريخية وسجله الحافل، يبدو الاحتمال الأول أرجح وأكثر قبولاً. 

بعد كل ما التجارب التي خاضها لبنان، البلد بحاجة إلى فرصة وبالتالي يجب إعطاء الرئيس عون فرصة كذلك، وهو يدخل قصر بعبدا اليوم ليس كمخلّص للبنان بل كشخصية الأمر الواقع، والنتيجة الحتمية لعملية سياسية مختلة بنيوياً. وفي حين أن هذا لا يبعث على الثقة، إلا أن انخفاض التوقعات والآمال قد يصب في صالحه، مما يسمح له بمفاجأة الشعب اللبناني المنهك حتى ولو بنجاحات متواضعة. 

هناك سابقة تاريخية لجنرال تحول إلى رئيس ليترك إرثاً دائماً، مثلاً الرئيس فؤاد شهاب الذي وضع الأسس للمؤسسات التي لا تزال تشكل ما تبقى من الدولة اللبنانية: الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يعتمد عليه العديد من اللبنانيين الضعفاء، وهيئة التفتيش المركزي التي (نظرياً على الأقل) هي الناظمة لأداء الإدارات العامة، ومجلس الخدمة المدنية الذي من المفترض أن يشرف على تعيين وإدارة موظفي الخدمة المدنية على أساس الجدارة، وكذلك الجامعة اللبنانية. 

إلا أن عهد شهاب قدم أيضاً دولة أمنية أرهبت وقمعت المعارضين له، وكان لها رقابة على المعارضة السياسية، وقمع الحريات المدنية والسياسية على نطاق واسع. ولا يمكن للبنان أن يتحمّل تكرار هذا الفصل المظلم من تاريخه. 

ومع انتقال لبنان من العماد عون إلى الرئيس عون، فإن الطريق أمامه محفوفة بالتحديات ليس أقلها “الازدواجية العسكرية” لحزب الله واستمرار احتلال الجيش الإسرائيلي لمناطق في جنوب لبنان، والتحول السياسي الجاري في سوريا وأزمة الودائع العالقة في القطاع المصرفي المنهار في البلاد. 

لذا فإن هذا ليس الوقت المناسب للتفاؤل الأعمى أو الرضا الزائد. حان الوقت لمطالبة الرئيس عون بحوكمة جريئة وشاملة وشفافة – وهي صفات كانت غائبة بشكل كامل عن رئيس الجمهورية اللبنانية لسنوات طوال. 

وفي نهاية الأمر سيتم تقييم ولاية الرئيس عون حسب قدرته على تجاوز ظروف تعيينه. فإن وصوله إلى السلطة لم يكن كشخصية توافقية أو إجماعية، إلا أنه اليوم يملك فرصة للقيادة لكل اللبنانيين. وإن فشل فسوف يذكر التاريخ الرئيس جوزاف عون على أنه “مجرد جنرال آخر”. 

المواضيع ذات الصلة