حول التبعية المطلقة.. لماذا يلجأ الناخبون إلى الأحزاب التقليدية على حساب الأحزاب المستقلة في لبنان؟

كشفت دراسة جديدة على الصعيد الوطني تحول نوايا الناخبين اللبنانيين اتجاه المرشحين المستقلين، مع حفاظ الأحزاب التقليدية على قاعدة ناخبيها من خلال التقاليد وسياسات الهوية والمحسوبية السياسية.

24 نيسان، 2022

وبعد عامين ونصف، وثلاثة رؤساء وزراء ورأس مال متفجر، لا تزال المليارات عالقة في البنوك بقبضة النخبة الحاكمة المهيمنة في لبنان منذ 30 عاماً، لكن مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية في 15 مايو (أيار) ستتاح للبنانيين فرصتهم الأولى للتغيير الديمقراطي في البلاد منذ انتفاضة أكتوبر 2019 والأزمة المالية، ومع ذلك، سواء اختاروا الحرس القديم أو الدم الجديد فإنهم سوف يحققون مبتغاهم في ذلك اليوم حسب استطلاع جديد لأكثر من 4600 ناخب مؤهل أجرته منظمة أوكسفام.  

ويبدو أن اللامبالاة منتشرة بين الناخبين على نطاق واسع، حيث أشار 54% من المستطلعين إلى إنهم سيصوتون في الانتخابات البرلمانية، في حين أن نسبة المشاركة الفعلية في الاقتراع قد تختلف بشكل كبير، حيث تضيف هذه الإحصائية مؤشرات تاريخية اتجاه نصف الناخبين للإدلاء بأصواتهم في يوم الاقتراع، كما يبدو أن الأشهر القليلة الماضية كانت محورية في تعزيز الدعم للمرشحين المستقلين مقارنة بالاستطلاع السابق الذي أجرته مؤسسة كونراد أديناور في ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، حيث تضاعف عدد المستجيبين الذين يعتزمون التصويت بشكل مستقل، ومن بين أولئك الذين يقولون الآن إنهم سيفعلون ذلك في الانتخابات القادمة، قال 48% إنهم سيصوتون لمرشحين مستقلين، تم تعريفهم في هذه الدراسة على أنهم من المرشحين الذين لم يدخلوا البرلمان من قبل.   

قد يبدو ذلك بمثابة نعمة للمعارضة مع مرشح واحد شبه مستقل في المنصب، لكن الرقم يتغير بشكل كبير عند احتساب دوائر المناطق الحضرية كدائرة بيروت على سبيل المثال لا الحصر، حيث قال 66% من المسجلين للتصويت في تلك المناطق إنهم سيصوتون لمرشحين مستقلين، مقابل 51% في دائرة الشوف-عاليه، وأقل بقليل من 20% في دائرة صور-الزهراني، وتشير هذه النتائج كما هو متوقع إلى أن هذه الدوائر هي الأكثر احتمالاً لرؤية المستقلين يفوزون بمقاعد بينما الأحزاب التقليدية في الجنوب ستقضي على المعارضة.  

تم تقديم نظام التصويت بالتمثيل النسبي (PR) في عام 2017 ليستبدل نظام الفائز بالأغلبية، ويسمح هذا النظام بتخصيص المقاعد على أساس حصة الأصوات، ومن الناحية النظرية يجب أن يخدم مرشحي الأقليات ويشجع إقبال الناخبين، ومع ذلك من الناحية العملية قدم نظام الفائز بالأغلبية العديد من التحذيرات التي تقوض قشرته التقدمية، ويشير كبير مساعدي الأبحاث في الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات كريستوف كيروز إلى وجود عاملين رئيسيين يلحقان الضرر بالمرشحين المستقلين في النظام الانتخابي، وهما عتبة انتخابية عالية أولاً، والتلاعب بالدوائر الانتخابية والتوزيع الطائفي ثانياً، ولكن نظام التصويت بالتمثيل النسبي يحتاج إلى عتبة انتخابية منخفضة (أقل من 5%) لتحقيق نتائج عادلة للمرشحين المستقلين. 
وتعتبر العتبة الانتخابية في لبنان عالية للغاية حيث تتراوح من 7.7% إلى 20%، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمتلك صور-الزهراني عتبة انتخابية تبلغ 14%، في حين أن مرشحي الشوف-عاليه بحاجة إلى 7.7% من الأصوات للحصول على مقعد برلماني، مما يزيد ارتفاع عتبة الانتخابات من صعوبة حصول المرشحين المستقلين على مقعد، على عكس المرشحين التقليديين الذين لديهم موارد وتحالفات وآليات دعم أكبر، كما يساهم التلاعب في الدوائر الانتخابية والحصص الطائفية بشكل كبير في ترسيخ الأحزاب التقليدية، بالإضافة إلى التلاعب في الدوائر الانتخابية “لتعظيم فوائد التحالفات الانتخابية القادمة”، فقد تم التلاعب القانون بالحدود حول تمركز الأغلبيات الطائفية بشكل واضح، مما قلل بشكل فعال من التنوّع الديني والأيديولوجي للمنطقة إلى نقطة تكون فيها أصوات الأقليات أو المعارضة ضئيلة للغاية.  

ومن المحتمل أيضاً أن يفسر التاريخ الحديث الفجوة بين الريف والحضر، حيث شارك 35% فقط من الناخبين المؤهلين في بيروت في انتخابات عام 2018، ومنذ ذلك الحين وبعد انفجار يوم الرابع من أغسطس (آب) 2020، وتركّز الاحتجاجات والاعتصامات والمناقشات المدنيّة في العاصمة فإنه من المحتمل أن تدفع هذه الأحداث إلى مضاعفة الإقبال المتوقع، وفي الوقت ذاته لطالما قدمت الأحزاب التقليدية مثل حزب الله وحركة أمل خدمات اجتماعية، كما الحال على سبيل المثال لا الحصر مع التعليم والرعاية الصحية والتمويل الصغير لأعضائها في الجنوب، بينما كانت الدولة غائبة منذ فترة طويلة، وفي النهاية يؤيد الاقتراع في الشوف-عاليه الحجة القائلة بأن الناخبين يشاركون أكثر عندما يكون هامش الأصوات بين الأحزاب المتنافسة ضئيلاً عند مقارنته بـصور-الزهراني.  

ويثير الاهتمام أن أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً أعربوا عن رغبتهم في التصويت بشكل مستقل بنسبة 58%، في حين أن الفئة العمرية الأدنى (21-30 عاماً) لديها ثاني أعلى نية للتصويت بشكل مستقل بنسبة 52%، وتشير النتائج إلى أن كبار السن ربما وصلوا إلى النقطة التي لم يعودوا يدعمون فيها أحزابهم التقليدية، وإذا أمعنا النظر بالأدوار المؤثرة لكبار السن في صنع القرار الأسري والتصويت الأسري “المتدفق”، فإنه من الأفضل لحملات مرشحي المعارضة التركيز على هذه المجموعات. 

طائفية مركبة  

تعطي نتائج الدراسة بعض الأمل للمعارضة في المناطق الحضرية الأكثر ثراءً أو لمن لديهم عدد أقل من الناخبين بشكل عام، فهي تشير أيضاً إلى أن الطائفة والأسرة تظلان معقل جاذبية الأحزاب التقليدية لقاعدة الناخبين، فقد ذكر في الواقع أن 50% من المصوتين للأحزاب التقليدية لديهم “أسباب تاريخية” لاختيارهم مقارنة بأقل من 1% بين المرشحين المستقلين.  
إن هذا الاتجاه يستمر مع أسئلة حول الالتزام بالقرية والأسرة والمنطقة، والتي تظهر فيها استطلاعات الاقتراع بشكل كبير لصالح المرشحين التقليديين مقارنة بالمستقلين (انظر الرسم البياني)، وهو ما يشير إلى أن أساليب الترهيب والتصويت الطائفي لا تزال من العوامل المهيمنة على منطق الناخبين الذين يدعمون الأحزاب التقليدية حتى لو لم يفكروا كثيراً في أولئك الذين يصوتون لهم، فقد اعتقد 98% من المستجيبين أن أداء النخبة الحاكمة كان سيئاً (79%) أو متوسط (%)، ومع ذلك فإن 40% ممن أجابوا بأنهم “سيئين” ما زالوا يخططون للتصويت للأحزاب التقليدية، بينما سيمتنع أكثر من 50% من المستجيبين عن التصويت بسبب عدم وجود مرشحين واعدين.  

المحسوبية فوق السياسة   

 ما يتضح أيضاً من نتائج الاستطلاع هو أن القوة المالية ورعاية الأحزاب التقليدية لا تزال تسيطر على الناخبين، حيث وجدت منظمة أوكسفام أن 53% من المشاركين الذين سيصوتون للأحزاب التقليدية، بالإضافة إلى 41% ممن سيصوتون لأحزاب مستقلة قد شهدوا شراء للأصوات في أحيائهم، ويتجسد شراء هذه الأصوات بعدة طرق مثل توفير النقل إلى مراكز الاقتراع، وتوفير الكهرباء المشتراة من السوق السوداء، وبالتأكيد التبادل النقدي الأكثر مباشرة للأصوات، إذ لطالما كانت الفئات الضعيفة هدفاً لشراء الأصوات والعملاء في لبنان، ولكن مع تدهور الوضع الاقتصادي أصبح شراء الأحزاب التقليدية للسلطة السياسية أرخص وأسهل، و مع وجود أكثر من 80% من السكان الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد يمكن الآن اعتبار الغالبية العظمى من الناخبين ضعيفة.  

ومع ذلك فإن المحسوبية السياسية تتجاوز شراء الأصوات، ومن المعروف أنها تحتكر خدمات ووظائف القطاع العام، وفي ظل التدهور السياسي والاقتصادي للبلاد الذي يعني أيضاً قلة الخدمات العامة التي تقدمها الدولة، يبدو أن اعتماد المواطنين على شبكات العملاء من قادتهم السياسيين قد تعمّق، إذ وفقاً لدراسة أوكسفام فإن 32% ممن يعتزمون التصويت للأحزاب السياسية التقليدية سيفعلون ذلك لأن هذه الأحزاب تدعمهم مالياً على مستوى القرية أو المنطقة أو الطائفة، مقارنة بـ 0.8% فقط للمستقلين، كما يرتبط انخفاض فرص الحصول على الخدمات بالدعم المقدم للأحزاب التقليدية (ونظم المحسوبية الخاصة بها)، ولا سيما فيما يتعلق بالتعليم.  

في الواقع تزداد احتمالية تصويت المستجيبين لمرشحين مستقلين مع زيادة التعليم الرسمي، ، حيث تتراوح من 44% من أدنى شريحة تعليمية بشكل خطي إلى 56% لمن لديهم شهادات عليا، ومع ذلك لا يزال المستجيبون ككل يعبرون عن ثقتهم في المرشحين المستقلين من خلال قدرتهم على تحسين الأزمة الاقتصادية (63%)، وظروف المعيشة (62%)، والحوكمة بدون فساد (55%)، مقارنة بـ 40% و43% و40% على التوالي مع المرشحين التقليديين، ويظهر بشكل عام أن هناك إيمان اسمي أكبر بالمستقلين للحكم بشكل أكثر فعالية.  

حالة انتقالية  

لقد ترك العامان والنصف الماضيين اللبنانيين في حيز محصور في انتظار الإصلاح السياسي والاقتصادي، وأخيراً مع الانتخابات التي طال انتظارها لن يكون الاختيار سهلاً على الناخبين في ظل نظام لم تعد فيه الأغلبية تثق في العملية الديمقراطية أو في تنفيذ القانون، مما يصعب على العديد من الناخبين رؤية الانتخابات كأداة فعالة للتغيير السياسي.  

حيث اقترنت حملة إحباط معنويات النخبة الحاكمة بقانون انتخابي مرتبك يفضلهم في معظم الدوائر، كما ترك العديد من الناخبين يعتقدون أنه لا يوجد بديل، ومن ثم فإن عدم التصويت أو التصويت على أسس طائفية لا يزال يبدو أنه عمل من أعمال الحفاظ على الذات بالنسبة للكثيرين، وهو أمر يتفوق بشكل مفهوم على وجود أجندات سياسية محددة لتوجيه تصويتهم.  

ونظراً لأن المرشحين المستقلين لم يتمكنوا من الاتحاد تحت رسالة واحدة واضحة، فقد يكون طوفان المرشحين الذين لديهم القليل من الاعتراف بالحزب أو الاسم قد منع العديد من الناخبين من الابتعاد عن الأحزاب السياسية التقليدية، ولأن انقسام المرشحين المستقلين قد استحوذ عليه المحسوبية السياسية التقليدية والخوف الطائفي، فإنه لا ينبغي لأحد أن يتوقع من المرشحين المستقلين تحقيق مكاسب كاسحة ضد الأحزاب التقليدية.  

ومع ذلك، فإن الانتخابات التشريعية تغذي الأمل في التغيير، وخصوصاً مع اكتساب المرشحين المستقلين مكانة خاصة في دائرتي بيروت والشوف-عاليه الانتخابيتين، وقد لا يرى المواطنون التغيير الذي يرغبون فيه ليلة الانتخابات، ولكن يجب الاعتراف بأن الوعي السياسي للبنانيين قد تغير فعلياً إلى الأفضل، وبغض النظر عن النتيجة فإن هذه الانتخابات ستكون لحظة مهمة لتعلّم الديمقراطية في البلاد.  

[1] لوريان توداي، 2022، “ربع اللبنانيين يفكرون في التصويت لشخصية مستقلة في الانتخابات التشريعية في أيار/مايو”، على الإنترنت: https://today.lorientlejour.com/article/1290925/a-quarter-of-lebanese-would-consider-voting-for-an-independent-figure-in-mays-legislative-elections.html

[2] تعتبر بوالا يعقوبيان مرشحة مستقلة.

[3] لم يتم تضمين شمال لبنان في الاقتراع.

[4] أنتوني الغصين، 2017، “خطوة إلى الأمام للانتخابات اللبنانية”، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، على الإنترنت: https://carnegieendowment.org/sada/71496

[5] رحاب صوايا، 2021، “تحليل اقتصادي للثورات وسلوك التصويت وإقبال الناخبين”، على الإنترنت: https://repositorium.sdum.uminho.pt/bitstream/1822/75721/1/Revised_Thesis_RihabRSawaya%20%281%29.pdf

[6] الأمم المتحدة الإسكوا، 2021، الإسكوا تحذر: “ثلاثة أرباع سكان لبنان يغرقون في الفقر”، على الإنترنت: www.unescwa.org/news/escwa-warns-three-quarters-lebanon٪E2٪80٪99s-population-plunge-poverty

المواضيع ذات الصلة