أحرز علي حمية، وزير الأشغال العامة والنقل في لبنان، علامة بارزة بدت وكأنها تلقي بحملها على ظهر جميع الوزراء السابقين في منصبه،، معلنًا بثقة عالية عن خطة طموحة لتطوير وإحياء شبكة القطارات في البلاد المهجورة، وغير المستخدمة منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، والتي تهدف للحد من الازدحام المروري اليومي الذي أثقل كاهل اللبنانيين وسلب منهم يومهم وصحتهم.
ما يثير القلق أن هذه ليست المرة الأولى التي نسمع بها مثل هذه الأخبار في لبنان، فقد قدمت الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1985 ما لا يقل عن 13 إعلاناً وخطةً ومقترحاً ودراسةً حول مشاريع النقل العام، بمتوسط واحد كل 2.4 عام، وتراوحت بين خطوط الحافلات وسيارات الأجرة من داخل المدينة وصولاً إلى طرابلس وصيدا، بينما تصل وصلات خطوط مترو الأنفاق الدولي والسكك الحديدية إلى سوريا وتركيا وما وراءهما، وفي نهاية المطاف أُجهضت جميع الخطط.
هذه المرة، تعهدت الحكومة الإسبانية بتقديم مشروع لدراسة نظام السكك الحديدية الوطني، ومن المرجح أن يقوم دافعو الضرائب في إسبانيا بتمويل تقرير استشاري آخر غير مدركين أن محطتهم الأخيرة هي مقبرة خطط النقل العام في لبنان.
ووفقاً لما يرى نبيل نكاش، وهو باحث متمرس في مجال النقل العام اللبناني، فإن العقبات ظلت على حالها لعقود طويلة، مشيراً إلى الافتقار للإرادة السياسية بشكل واضح، وتابع مضيفًا: “لقد رأينا مراراً وتكراراً طوال 30 عاماً أن الطبقة السياسية ليست جادة في إيجاد حلول لوسائل النقل العام، نحن نعرف ما هي المشاكل وكيفية حلها ولكن ليس من مصلحة السياسيين القيام بذلك”.
والواقع أن اقتراح حمية الأخير قد سبب شعوراً بالصدمة لكثيرين، ومن ضمنهم كارلوس نفاع،وهو عضو في منظمة النقل غير الحكومية في لبنان “قطار/قطار”والذي صرح بأن “قطار/قطار” كانت قد قدمت بالفعل خطة رئيسية شاملة لشبكة القطار في عام 2019 وبشكل مجاني، موضحاً أن المقترح تم تقديمه إلى وزارة الأشغال العامة والنقل والسفارات الأجنبية.
ويقول نفاع مستجدياً: “لماذا تعيد الاستثمار في شيء موجود بالفعل؟”، وتابع مضيفاً: “دافعو الضرائب الإسبان سيفقدون أموالهم، إنها فضيحة!”، مع العلم أنه سبق اقتراح “قطار/قطار” خطة ممولة من البنك الدولي لعام 2018 لنظام النقل العام القائم على الحافلات في بيروت الكبرى.
هذا ولم ترد وزارة الاشغال العامة والنقل على طلب “البديل” للتعليق على ما سبق من تصريحات.
وبدلاً من إعادة العمل على هذه الخطط الموجودة مسبقاً، يمكن للوزارة تخصيص الأموال الإسبانية اتجاه التخطيط المبكر وإعطاء الأولوية للمشاريع المقترحة ضمن خطة “قطار/قطار” لعام 2019 قبل الانتقال إلى المناقصة والتنفيذ، ومن شأن هذه السياسات أن تزود الشعب اللبناني بنظام مواصلات فعال في الفترة القادمة.
إذا نظرنا للحظة إلى الماضي فإن معظم خطط الحكومات اللبنانية للمواصلات تنتهي بعذر مألوف: ألا وهو الافتقار للتمويل كما هو الحال تقريباً منذ عام 1985، فقد ألقى قادة لبنان باللوم على عدم قدرتهم على تحمل تكاليف البنية الأساسية الحديثة للنقل العام، ويلوح في الأفق في خضم الأزمة الاقتصادية التي لم يسبق لها مثيل في لبنان هذا التبرير التاريخي أكثر من أي وقت مضى.
ومع غياب كامل للإبداع، فإن عذر التمويل من قبل الحكومة يتجاهل خطة البنك الدولي لعام 2018، وهي الخطة الممولة من الولايات المتحدة بقيمة 325 مليون دولار أمريكي،إلى جانب بعض المقترحات الأكثر تكلفة والتي تقدر بحوالي 6 بلايين دولار أمريكي، مما يكشف عن سوء فهم جوهري لمأزق النقل في لبنان؛ لذا فإن عدم اتخاذ أي إجراء يفرض فاتورة هائلة على الشعب اللبنانيسيكلف استخدام السيارات الخاصة البالغ عددها 1.2 مليون سيارة المُسجلة في عام 2015 مليارات الدولارات من الواردات النفطية، والتي لم يعد أغلبية اللبنانيين قادرين على تحملها، والجدير بالذكر أن قطاع النقل يشكل أكثر من 40 بالمائة من مستويات استهلاك النفط غير المستدام في لبنان.
ويقضي المسافرون اللبنانيون زيادة على نفقات الوقود في كل عام بمتوسط 720 ساعة عمل من أصل 4.38 ساعة على الطريق، ويقدر ذلك بنحو 3 مليارات دولار أمريكي سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي، كما تظهر البيانات الصحية السنوية أن حوالي 2.7 ألف شخص يموتون بسبب تلوث الهواء الناجم عن الوقود الأحفوري، والذي تشكل السيارات المساهم الرئيسي فيه.
ستظل هذه المشاكل الاجتماعية الهائلة تعصف بلبنان إلى أن يطور البلد وسائل نقل عامة وفعالة، ورغم أن شبكة قطارات حمية الموعودة ستشكل بداية ممتازة، إلا أن التاريخ يُذكر الشعب اللبناني بألا يحبس أنفاسه في انتظار مشروع آخر.