صراع النفوذ: أزمة الطاقة في سوريا تحيي “شد الحبال” الجيوسياسي

على دمشق أن تختار بين الاعتماد على الخارج و السيادة في الطاقة خلال إعادة تطوير قطاع الطاقة لديها

إن قطاع الطاقة في سوريا بأمسّ الحاجة إلى إعادة الإعمار والتأهيل، والشكل الذي سيٌعتمد لذلك سيكون له تداعيات على مدى العقود المقبلة. ففي حين وعدت كل من قطر وتركيا بالمساهمة في توفير حلول مرحلية لأزمة الطاقة المتواصلة في البلاد، يبرز خطر تحوّل هذا الدعم إلى شكلٍ دائم من التبعية والاعتماد على القوى الخارجية، بما قد يمنح تلك القوى نفوذاً طويل الأمد في دمشق. 

مثلاً فإن روسيا، الحليف السابق لنظام الأسد، واصلت تزويد الحكومة السورية الجديدة بزيت الوقود، ما يُرجَّح أنه تم مقابل احتفاظ موسكو بوجودها العسكري في البلاد. تمثل هذه الخطوة مثالاً جليّاً لتقييد يد صناع القرار للحصول على الطاقة. ولتفادي هذا النوع من الهشاشة وللسعي نحو سيادة حقيقية للطاقة، تحتاج سوريا إلى رؤية شاملة وطويلة الأمد لإعادة بناء قطاع الكهرباء. 

كيف تهاوى قطاع الكهرباء في عهد الأسد  

بعد نحو خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية، باتت معظم أنحاء سوريا في حالة دمار شامل وجمود اقتصادي، فالتضخم فيها بلغ مستويات قياسية فيما يعاني السكان من انقطاع التيار الكهربائي على امتداد البلاد، ما دفعهم للبحث عن بدائل لتأمين احتياجاتهم من الكهرباء. وتواجه الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع تحديات جسيمة في مرحلة انتقالية دقيقة تتطلّب استثمارات عاجلة لإحياء الخدمات الأساسية وعلى رأسها الكهرباء.  

وفي آذار الماضي أعلنت الإدارة الجديدة أن القطاع سيحتاج إلى حوالي 40 مليار دولار لمجرد استعادة وضعيته السابقة لعام 2011.

قبل اندلاع الحرب في عام 2011 كان قطاع الكهرباء الحكومي يعاني من ضغوط متزايدة بفعل ارتفاع الطلب. وقد بلغت نسبة الكهربة في البلاد 93%، مع تغطية كاملة في المناطق الحضرية و83% في المناطق الريفية. وكانت سوريا تضم 13 محطة توليد كهرباء عاملة يعمل 60% منها على الغاز الطبيعي و35% على زيت الوقود و5% على الطاقة الكهرومائية، بطاقة إجمالية تقارب 8000 ميغاواط. أما اليوم فلا تُولَّد سوى ربع هذه القدرة تقريباً، إذ لا يتجاوز الإنتاج الحالي 30% من ذروة الطلب والتي يُقدَّر أنها تصل إلى نحو 9000 ميغاواط في فصل الصيف بحسب بعض التقديرات. 

وبحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، فإن قطاع الكهرباء في سوريا كان قد تكبّد، بحلول عام 2018 أي في منتصف سنوات الحرب، أضراراً تقدَّر بنحو 7.3 مليار دولار. وتعود هذه الخسائر بشكل مباشر إلى تدهور البنية التحتية نتيجة الحرب، من تدمير محطات التوليد إلى ضرب شبكات النقل، وقد تفاقمت بفعل العقوبات التي قيدت جهود الصيانة والتأهيل ومنعت الاستثمار في مشاريع جديدة. وفي آذار الماضي أعلنت الإدارة الجديدة أن القطاع سيحتاج إلى حوالي 40 مليار دولار لمجرد استعادة وضعيته السابقة لعام 2011. 

في السنوات التي سبقت سقوط نظام الأسد، كانت سوريا تعتمد على الخارج لتأمين 80% من احتياجاتها من المواد الهيدروكربونية، تُدفع قيمتها بالعملات الأجنبية، بما في ذلك كميات متفرّقة من المشتقّات النفطية المكرّرة القادمة من إيران والعراق. أما اليوم فقد باتت هذه المشتريات أكثر صعوبة في ظل النقص الحاد في احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، بينما تبقى الإمدادات المحلية معطّلة نظراً لأن حقول النفط والغاز الكبرى في شمال شرق البلاد لا تزال خارج سيطرة الحكومة الجديدة. 

ولجأ السكان في ظل هذا الانقطاع إلى بدائل بسيطة لإضاءة منازلهم، مثل الشموع ومصابيح الكيروسين والمواقد، بل وحتى قشور الفستق.

وقد فاقمت التحديات الاقتصادية هذا الواقع المتأزم، بدءاً من عدم قدرة سوريا على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية لتأمين قطع الغيار اللازمة للصيانة، مروراً بتدهور سعر صرف العملة المحلية الذي يؤثر سلباً على الالتزامات التعاقدية مع الموردين المحليين. ونتيجة لذلك، اضطرت السلطات إلى فرض تقنين صارم للكهرباء، لا يحصل المواطنون في ظله إلا على بضع ساعات من التيار يومياً. حتى هذا الحد الأدنى من التغطية يُظهِر تفاوتاً كبيراً بين منطقة وأخرى. ولجأ السكان في ظل هذا الانقطاع إلى بدائل بسيطة لإضاءة منازلهم، مثل الشموع ومصابيح الكيروسين والمواقد، بل وحتى قشور الفستق. كما تبقى المولدات الخاصة والبطاريات والألواح الشمسية خياراً لمن يستطيع تحمّل كلفتها. 

من الارتهان لإيران إلى الارتباط بتركيا وقطر وروسيا

في اليوم نفسه الذي انهار فيه نظام بشار الأسد، عادت آخر ناقلة إيرانية كانت متجهة لتوريد النفط الخام إلى سوريا أدراجها، فيما بدأت واردات النفط البديلة بالوصول براً عبر الحدود التركية واللبنانية خلال الأشهر الأولى من حكم هيئة تحرير الشام. في الوقت نفسه برزت روسيا كمورّد رئيسي للنفط والمشتقات النفطية إلى الحكومة السورية الجديدة — في خطوة يُنظر إليها على أنها محاولة من موسكو لتعزيز وجودها العسكري على الساحل السوري للبحر المتوسط. 

في آذار أعلنت الدوحة أنها ستبدأ بتزويد سوريا بالغاز الطبيعي عبر الأردن، بهدف المساهمة في التخفيف من النقص الحاد في الطاقة.

وقد تعهّدت تركيا بدعم سوريا في استعادة إمدادات الكهرباء، وأرسلت وفداً إلى دمشق بعد أسابيع قليلة من سقوط الأسد، لمناقشة إعادة تأهيل البنية التحتية لقطاعات النفط والغاز والكهرباء. يأتي هذا في سياق انخراط تركي سابق في محافظات الشمال الغربي السوري. وقد دارت نقاشات حول إرسال بواخر تركية وقطرية لتوليد الكهرباء إلى السواحل السورية، على غرار تلك التي استُخدمت في لبنان بين عامي 2013 و2021، إلا أن التحديات المالية واللوجستية ما زالت قيد البحث مع السلطات السورية. 

كما تحرّكت قطر لمساندة الحكومة الجديدة، في محاولة لمعالجة الانخفاض الحاد في إمدادات الغاز، والتي تراجعت من نحو 8.4 مليار متر مكعب في عام 2011 إلى ما يقارب 3 مليارات متر مكعب في عام 2024. وفي آذار أعلنت الدوحة أنها ستبدأ بتزويد سوريا بالغاز الطبيعي عبر الأردن، بهدف المساهمة في التخفيف من النقص الحاد في الطاقة. ومن المفترض أن يسمح هذا الغاز، الذي يُسلَّم عبر ميناء العقبة، بإضافة ما يقارب 400 ميغاواط إلى الشبكة، ما قد يرفع ساعات التغذية الكهربائية إلى ثماني ساعات يومياً في عموم البلاد خلال الأشهر المقبلة. 

لكن يبقى السؤال القائم: بما أن الجزء المعني من خط الغاز العربي بين العقبة والمفرق يُستخدم حالياً لنقل الغاز الإسرائيلي إلى الأردن ومصر، فهل سيكون الغاز المُورَّد إلى سوريا إسرائيلي المصدر أيضاً؟ 

  

ارتباط مكلف بالكهرباء التركية الخاصة 

قبل سقوط نظام الأسد، كانت المناطق الخاضعة لسيطرة جماعات المعارضة في شمال شرق [1] وشمال غرب [2] سوريا تعاني من انقطاعات حادّة في التيار الكهربائي، إذ كانت محطات التوليد التي تغذّيها متركزة في مناطق خاضعة لسيطرة النظام أو لفصائل معارضة منافسة. هذا ما دفع بعض المدن في الشمال الغربي، وتحديداً تل أبيض ورأس العين، إلى توقيع اتفاق عام 2021 مع شركة AK Energy التركية-السورية [3] لتوريد الكهرباء من تركيا، ومساعدة السكان على تفادي التكاليف المرتفعة لاشتراكات المولدات الخاصة. 

وكانت AK Energy قد زوّدت في وقت سابق مدناً في شمال وشرق محافظة حلب بالكهرباء، مثل أعزاز[4] وجرابلس وجنديرس والباب، وذلك عبر نظام الدفع المسبق. كما أُبرم ترتيب مشابه مع شركة تركية-سورية [5] أخرى هي STE Energy شمل مناطق صوران وأخترين ومارع وعفرين بين نيسان 2019 وكانون الثاني 2020. وفي أيار 2021، وقّعت هيئة تحرير الشام في إدلب اتفاقية مماثلة [6] مع شركة Green Energy. 

ورغم أن هذه الترتيبات مع شركات خاصة مكّنت من توفير الكهرباء على مدار الساعة، إلا أن كلفتها المرتفعة جعلتها عبئاً ثقيلاً على السكان، ما أثار احتجاجات متكررة ضد تلك الشركات.[7] في المقابل تمكنت بعض مناطق الشمال الشرقي—مثل الرقة والطبقة، وبدرجة أقل منبج—من الحفاظ على درجة من الاستقلالية الطاقية خلال الحرب، نظراً لقربها من السدود الكهرومائية، ما أتاح لها وصولاً مباشراً إلى مصادر توليد الكهرباء. 

وفي أعقاب الاتفاق الذي أُبرم في آذار 2025 بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية، وهي ميليشيا كردية مدعومة من الولايات المتحدة، بشأن دمج هذه القوات في الدولة المركزية، تم نشر وحدات حكومية في سد تشرين كخطوة أولى لاختبار تنفيذ الاتفاق بالتنسيق مع الإدارة الذاتية الكردية. وإذا ما أثبتت هذه التجربة نجاحها، فمن المتوقع أن تمهّد الطريق لمفاوضات أوسع تشمل حقول النفط والغاز الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي. 

 

الطاقة المتجددة لم تكن المنقذ 

شهد استخدام الطاقة المتجددة – ولا سيما الطاقة الشمسية زخماً متزايداً في سوريا في الآونة الأخيرة. وتتمتع البلاد بوفرة من أشعة الشمس على مدار العام، إلى جانب مساحات صحراوية شاسعة، ما يشكّل فرصة فريدة لتوفير مصادر طاقة أنظف وأقل كلفة. وقد ساهمت الألواح الشمسية في تأمين الكهرباء للمنازل وبعض المؤسسات العامة، كالمستشفيات والجامعات، وكذلك لمواطنين في مناطق كانت خاضعة سابقاً لسيطرة المعارضة مثل إدلب، قبل سقوط نظام الأسد. 

استفادت سوريا جزئياً من ما سُمّي بـ”طفرة الطاقة الشمسية” في لبنان منذ عام 2020 وتهريب الألواح الشمسية والبطاريات عبر الحدود. ومع ذلك، بقيت القدرة على تركيب هذه الأنظمة محصورة بمن يمتلك القدرة المالية على تحمّل تكاليفها، ولم تُفضِ إلى طفرة تكنولوجية واسعة النطاق كالتي شهدها لبنان، بسبب استمرار القيود المفروضة على حركة الأموال من وإلى سوريا. 

أمّا على المستوى التنظيمي أطلق النظام السابق في عام 2021 صندوقاً للطاقة المتجددة بهدف معلن هو تقديم قروض منخفضة أو معدومة الفائدة لدعم تقنيات الطاقة البديلة، في ظل غياب حلول مركزية فورية. كما أصدر تعديلات على قانون الكهرباء لعام 2010، بموجب المرسوم التشريعي رقم 32 لعام 2021، أتاح من خلالها للقطاع الخاص الاستثمار في إنتاج الكهرباء وبيعها إلى الشبكة العامة. 

واستثماراً لعودة العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول العربية، حاول النظام جذب استثمارات في البنية التحتية، من بينها مشروع حديقة شمسية بقدرة 300 ميغاواط بتمويل إماراتي في منطقة دمشق، وأخرى في المناطق الصناعية في حلب. لكن أياً من هذه المشاريع لم يُنفّذ على أرض الواقع. 

 

استحقاقات ما بعد الأزمة 

تُخلّف ندرة الكهرباء في سوريا تبعات سلبية متعدّدة، بدءاً من تفاقم الأزمات الإنسانية الملحّة ووصولاً إلى إعاقة الاستقرار الاجتماعي. وتقتضي معالجتها اتخاذ إجراءات طموحة على مستوى الحكومة المركزية، إلى جانب انخراط فعّال من المجتمع الدولي. وعلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التعاون مع الإدارة السورية الجديدة في جهود إعادة التأهيل. وعلى الرغم من رفع واشنطن العقوبات عن سوريا تبقى قدرة هذه الإدارة على تنفيذ إصلاحات شاملة في القطاع محدودة. وفي غياب تحرّك دولي، لا تملك الحكومة الجديدة سوى اللجوء إلى حلول سريعة لتوسيع إمدادات الكهرباء، في ظل مناشدتها المتكررة للمجتمع الدولي—ولا سيما واشنطن وبروكسل—لدعم جهودها على مختلف المستويات، بما في ذلك الكهرباء. 

وفي ظل هذه الظروف، فإن الخطط الرامية إلى استعادة خدمات الكهرباء على المدى القصير والمتوسط بالاعتماد على الدعم التركي والقطري لن تقدّم حلولاً مستدامة

وفي ظل هذه الظروف، فإن الخطط الرامية إلى استعادة خدمات الكهرباء على المدى القصير والمتوسط بالاعتماد على الدعم التركي والقطري لن تقدّم حلولاً مستدامة. بل إن هذا الارتهان للقوى الخارجية في مجال الطاقة من شأنه أن يعمّق التبعية ويهدّد السيادة السياسية والسيادة الطاقية لسوريا على المدى البعيد. 

وفي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة الجديدة إلى تأمين طاقة أقل كلفة وأكثر عدالة لجميع المناطق، ينبغي تجنّب العودة إلى الحلول المجتزأة التي اعتُمدت سابقاً، والمتمثلة في التعاقد مع شركات تركية من القطاع الخاص، لما تسبّبت به من أعباء مالية وتنازلات على صعيد السيادة. وبدلاً من ذلك، وأثناء السعي إلى تخفيف العقوبات، يمكن للحكومة أن تعزّز الانتقال نحو الطاقة الشمسية عبر أدوات مالية، مثل القروض الصغيرة والحوافز الضريبية، إلى جانب إشراك المجتمعات والمستثمرين المحليين لوضع أسس مشاريع كبرى مستقبلاً. 

وما زال من المبكر التنبؤ بكيفية تعاطي الإدارة الجديدة مع أزمة الكهرباء. لكن الدفع نحو الاستفادة من الإمكانات الشمسية لسوريا، واستعادة الوصول إلى مواردها الهيدروكربونية، يشكّل المسار الأرجح لاستعادة السيادة الطاقية في المدى الطويل. 

  

مارك أيوب باحث في سياسات الطاقة، يتابع حالياً دراسة الدكتوراه في جامعة غالواي، وهو زميل مشارك في معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت. 

 

المصادر 

[1] تشمل معظم مناطق محافظتي الرقة والحسكة، وأجزاء من محافظة دير الزور شمال شرق نهر الفرات، ومناطق من محافظة حلب حول منبج وكوباني، والمناطق المحيطة بتل رفعت. 

[2] تشمل أجزاء من محافظة إدلب، وشمال حماة، وشمال اللاذقية، وغرب محافظة حلب. 

[3] مملوكة للسوريين إبراهيم خليل (31%)، حسن تاتار (25%)، رجب شوبان (20%)، وياسين يوجل (24%). 

[4] أول منطقة وقّعت اتفاقاً مع شركة AK Energy في نيسان/أبريل 2018. 

[5] تأسست من قبل مجموعة من رجال الأعمال السوريين العاملين في مجالي الاتصالات والعقارات. 

[6] يديرها عمر شكّوك. 

[7] ارتفعت أسعار الكيلوواط/ساعة بنسبة 188% بين عامَي 2019 و2022، من 85 قرشاً إلى 2.45 ليرة تركية (أي ما يعادل 14.8 سنتاً للكيلوواط/ساعة). 

المواضيع ذات الصلة