القوت اليومي
بعد مرور أكثر من شهر على الأعمال العسكرية المتبادلة على الحدود الجنوبية للبنان، والتي أدت إلى أضرار اقتصادية كبيرة لسكان المنطقة من حيث الزراعة والبنية التحتية، توسعت رواية المقاومة لتشمل قضايا “القوت اليومي” وانشغالات الحياة اليومية مثل التعليم وإعادة الإعمار وتعويض المتضررين من القصف الإسرائيلي في المناطق الواقعة على طول الخط الأزرق.
تمّ إسناد هذا الخطاب المعدّل جزئياً إلى حليف حزب الله السياسي – حركة أمل – العضو الأصغر في ما يسمى بـ “الثنائي الشيعي” في البلاد. فمثلاً، وبتاريخ 1 تشرين الثاني، طالب وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال والمحسوب على حركة أمل عباس الحاج حسن بـ“تعويض المزارعين المتضررين من القصف الإسرائيلي“. كما أنه أكّد في مقابلة أخرى مع صحيفة الشرق الأوسط، أن “الخسارة الكبرى في هذه الحرب كانت لموسم الزيتون مع احتراق أكثر من 53 شجرة معمرة ومن ثم الغابات والمساحات الحرجية والثروة الحيوانية.”
يحكي جوزيف ضاهر، مؤلف كتاب الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني، رؤيته لهذا الجانب مع موقع “البديل“، قائلاً: “يعرف حزب الله أنه معزول سياسياً واجتماعياً إلى حدٍ كبير في لبنان مقارنة بـ 2006، حين حظي بدعم شعبي أوسع بكثير من حيث المقاومة.” ويؤكد على أن سلسلة من الأحداث منذ ذلك الحين – بما فيها اشتباكات 7 أيار 2008، وتدخل حزب الله في سوريا ومعارضته لاحتجاجات 17 تشرين الأول 2019 – كلها ساهمت في تآكل هذا الدعم الأوسع.
“لقد شهدنا عدة حوادث بين حزب الله وشرائح أخرى من المجتمع من أبرزها حادثة الطيونة” التي تظهر حجم الشرخ الموجود بحسب ضاهر، الذي أضاف أنه في حين أن “الأيديولوجية تلعب دوراً مهماً في خطاب حزب الله، إلا أنها كانت تابعة إلى مسائل ومصالح سياسية أخرى.”
وفي الوقت الذي تؤدي فيه التوترات على طول الخط الأزرق إلى تفاقم المعاناة في لبنان، فإن خطاب الحزب حول الحرب يتوسع اليوم ليشمل كفاح أنصاره لتدبير أمورهم المعيشية اليومية. وقد جاء في تصريحٍ للنائب حسن فضل الله في 27 تشرين الثاني، ما يلي: “صحيح أننا (في حزب الله) بدأنا بدفع التعويضات، وقمنا بالإحصاءات على المستوى الجنوبي، وبمسح هذه الأضرار (…) وما نقدّمه للمتضررين هو من مال وإمكانيات وجهود (حزب الله).”
التطلّع نحو المرحلة القادمة
إن الخطاب الذي أدلى به حسن نصرالله يوم 3 كانون الثاني اكتسب أهمية جديدة في أعقاب اغتيال العاروري. وفي رسائله السياسية أكد نصر الله مراراً أن حزبه لن يتفاوض مع إسرائيل لكبح التوترات على طول الحدود الجنوبية للبنان إلا إذا انتهت الحرب في غزة. إلّا أنه – وكما تبيّن – لا يمكن تفسير هذه الرسالة ومضامينها إلّا في وضعها في السياق الأوسع لتصريحات الحزب المتتالية منذ السابع من تشرين الأوّل.
إن تطور خطاب الحزب هو شهادة على سعيه الدائم للموازنة بين الأيديولوجيا والبراغماتية، خاصة وأن لبنان دخل في السنة الرابعة من أزمته الاقتصادية وما يزال يتعافى على قدمٍ وساق منذ انفجار مرفأ بيروت في العام 2022. في هذا السياق المليء بالتحديات، يعيش أربعة من كل خمسة لبنانيين في حالة فقر، بينهم 36 بالمئة تحت خط الفقر المدقع. وقد كشف استطلاع أجرته صحيفة “الأخبار” اللبنانية المؤيدة لحزب الله أن 68 بالمئة من اللبنانيين كانوا قد أجابوا بالنّفي على السؤال التالي: “هل تؤيد فتح الجبهة الجنوبية والدخول الفوري في الحرب؟” هكذا إذن، وعلى الرغم من خطابها الحربيّ، فإن قيادة حزب الله تدرك جيداً أن العديد من اللبنانيين ليسوا مستعدين لحرب شاملة.
تشير هذه السرديّة المتغيّرة حول الحرب إلى أن حزب الله أبعد ما يكون عن كونه كياناً متجانساً. بل كما قال نيكولاس بلانفورد – الزميل الكبير والخبير في حزب الله في معهد المجلس الأطلسي – بأنّ حزب الله: “ائتلاف وجهات نظر متغيرة“. كما تشير التغيرات المتواترة والفروق الدقيقة في خطاب حزب الله إلى أن الحركة تحتفظ ببراغماتيتها العقلانية، وتغيّر مسار السردية – كما تراه ضرورياً – بالاستناد إلى اعتباراتها الاستراتيجية والسياسية الخاصّة. أما في الوقت الراهن، فيبدو أن حزب الله يرى أن مخاطر الحرب مرتفعةٌ للغاية، ويسعى إلى السيطرة على الأمور وإبقاءها وفق صورتها الحاليّة.