بما لا يحتمل الشك: لدى لبنان قضية للادعاء على إسرائيل لجرائم حربها

تقييم مفصّل لانتهاكات الجيش الإسرائيلي للقانون الدولي الإنساني في لبنان

1 تشرين الثاني، 2024

قصفت إسرائيل عدداً كبيراً من المباني في بيروت وحولتها أنقاض. وحرقت قرىً جنوبية بالفوسفور الأبيض. إن الحرب الإسرائيلية بظلمها ولا إنسانيتها، قد حركت العديدين من أصحاب الضمائر الحيّة. لكن من يسعى إلى محاكمة جرائم الحرب لا يتمتع بترف المشاعر. بل عليهم إجراء تقييم علمي حول ما إذا كانت الأفعال المعنية تنتهك نصوص القانون الدولي الإنساني وهو مجموعة القوانين المستندة إلى اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية والقانون الدولي العرفي، والتي تم إنشاؤها للحد من وحشية النزاعات المسلحة وحماية غير المشاركين في العمليات القتالية، والسجناء والجرحى. 

وفي هذ الصدد تعدّ محكمة العدل الدولية (ICJ) والمحكمة الجنائية الدولية (ICC) أعلى جهتين قضائيتين في العالم. الأولى والتي يطلق عليها اسم “المحكمة العالمية” هي الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، وتنظر في القضايا بين الدول. والثانية هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة تنظر في القضايا المرفوعة ضد الأفراد بسبب جرائم دولية خطيرة. واليوم تشهد كلا المحكمتين اتهامات بالإبادة الجماعية و جرائم ضد الإنسانية ضد إسرائيل وجيشها وقيادتها للعمليات التي جرت في غزة العام الماضي. ومع التصعيد العسكري الإسرائيلي الهائل في لبنان منذ منتصف أيلول والذي أدى إلى مقتل أكثر من 2800 وإصابة ما يزيد عن 13 ألفاً أخرين، وشرّدت أكثر من مليون شخص. تسعى هذه الورقة إلى استعراض قضية جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان. 

استشار فريق “البديل” ستة خبراء في القانون الدولي لتقييمهم للانتهاكات الإسرائيلية المتعلقة بسبع قضايا رئيسية: خرق مبدأي التناسب والتمييز بين المدنيين والمقاتلين، والتحذيرات غير الفعّالة للمدنيين، واستخدام الفسفور الأبيض، واستهداف قوات حفظ السلام، والهجوم بأجهزة النداء واللاسلكي في أيلول الماضي، والانفجارات الصوتية (خرق جدار الصوت) التي أرهبت السكان. الخبراء الذين تمت مقابلتهم ينتمون إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومركز دياكونيا للقانون الإنساني الدولي، وهيومن رايتس ووتش، وكلية الحقوق في إدنبرة، والجامعة الأمريكية في بيروت. 

أي قراءة للقانون الدولي فيما يتعلق بسلوك الجيش الإسرائيلي تظهر وجود أرضية للبنان للادعاء القضائي على اسرائيل لارتكابها جرائم حرب.

كما تنطوي الحرب الجارية على ديناميّات قانونية معقدة لا يتّسع لهذه الورقة تناولها . فهناك على سبيل المثال الكثير من الجدل حول ما إذا كان الصراع بين إسرائيل وحزب الله يشكل صراعاً مسلحاً دولياً (IAC) أو صراعاً مسلحاً غير دولي (NIAC). ولكن ما تظهره هذه الورقة أن أي قراءة للقانون الدولي فيما يتعلق بسلوك الجيش الإسرائيلي تظهر وجود أرضية للبنان للادعاء القضائي على اسرائيل لارتكابها جرائم حرب. ففي حين أن العديد من المعاهدات المشار إليها هنا لم يتم التصديق عليها أو التوقيع عليها من قبل إسرائيل، إلا أن ذلك لا يخلق فراغاً قانونياً أو ذريعة، بل تظل إسرائيل ملزمة بالقانون الدولي العرفي الذي يحكم سير الأعمال العدائية. 

ويضاف إلى العقبات العديدة الأخرى التي تحول دون تحقيق العدالة أن إحدى الخطوات الأكثر أهمية ــ أي إنشاء اختصاص للمحكمة الجنائية الدولية في لبنان ــ يعرقلها الزعماء اللبنانيون أنفسهم. 

خرق مبدأ التناسب  

“يجب حماية المدنيين من القتل أو التعذيب أو الوحشية…”  

ملخص اللجنة الدولية للصليب الأحمر للمادتين 13 و32 من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب  

” في إدارة العمليات العسكرية، يجب علي من يخطط لهجوم أو يتخذ قرارا بشأنه.. أن يمتنع عن اتخاذ قرار بشن أي هجوم يتوقع منه، بصفة عرضية، أن يحدث خسائر في أرواح المدنيين أو إلحاق الإصابة بهم، أو الإضرار بالأعيان المدنية، أو أن يحدث خلطا من هذه الخسائر والأضرار، مما يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة.”   

المادة 57 (2) (أ) (3) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف 

ادعت إسرائيل في عدة محطات أن غاراتها الجوية وعملياتها العسكرية هي “إجراءات دفاعية” تهدف إلى تحييد القدرات العسكرية لحزب الله، معتبرة أن أي خسائر في صفوف المدنيين أو أضرار في الممتلكات ناتجة عن ذلك هي عواقب غير مقصودة. لكن بموجب القانون الإنساني الدولي، وحتى عندما تكون الأهداف العسكرية مشروعة، فإن الخسائر في صفوف المدنيين يمكن أن تشكل جريمة حرب إذا كانت المكاسب العسكرية المباشرة لا تتناسب مع حجم الخسائر المدنية المتكبدة. 

يقول يوسف وهبي، خبير القانون الدولي الإنساني والمستشار القانوني الأول في دياكونيا، للبديل: “إن أي هجوم عسكري ضد هدف عسكري مشروع يجب أن يخضع لمبدأ التناسب.” أي يجب تقييم كلّ عمل عسكري من حيث المكسب المتوقع ثم قياسه مقابل الضرر المحتمل لحياة المدنيين وممتلكاتهم لضمان الامتثال لمبدأ التناسب. 

وحسب الظروف، قد تكون بعض الأعمال العسكرية في هذه الحرب ضد أهداف عسكرية مشروعة قانوناً، مثلاً استهداف مستودعات تخزين الأسلحة، إذا كانت الخسائر التي تلحق بغير المقاتلين ومنازلهم وشركاتهم في المناطق المجاورة عرضية. أما الحالات التي تتطلب متابعة أدقّ فهي مثلاً وجود أعضاء من حزب الله داخل مبنى مدني، ما يجعل من المحتمل (أو المرجح) أن استهداف هذا المبنى وتدميره سيؤدي إلى مقتل جميع المدنيين وغير المقاتلين المتواجدين داخله. وتحديد ما إذا كان هكذا استهداف يرقى إلى انتهاك للقانون الدولي الإنساني، وبالتالي جريمة حرب، يتوقف على ما إذا كان “المكسب العسكري الملموس والمباشر” يكفي لتبرير مقتل الجميع وتدمير ممتلكاتهم.

في 17 تشرين الأول قصف الجيش الإسرائيلي مبنى سكنياً مكوناً من سبعة طوابق في عين دلب، خارج مدينة صيدا في الجنوب، مما أسفر عن مقتل 45 شخصاً وإصابة 70 آخرين. وكشف تحقيق وول ستريت جورنال عن وجود أحد أعضاء حزب الله في شقة في الطابق السفلي، وهو رئيس اللجنة اللوجستية للحزب في المدينة المجاورة وكانت مسؤولياته تتراوح بين تنظيم رحلات الحج إلى إيران وتوفير الأمن في المناسبات الحزبية المحلية. ولم يكن له دور عسكري نشط، إلا أنه على الأرجح تلقى تدريباً وكان من الممكن استدعاؤه كجندي احتياط. وفي هذه الحالة فمن الواضح أن مقتل 45 بريئاً وإصابة 70 يبدو “مفرطاً” مقارنة بـ “المكسب العسكري المباشر” التي كانت إسرائيل تتوقع الحصول عليه، وهو مكسب ضئيل أو معدوم.   

وحتى لو افترضنا أن إسرائيل تلتزم أصولاً بمبدأ التمييز و"لا تنوي استهداف المدنيين" فإن الطبيعة غير المتناسبة لهجماتها فيها تجاهل صارخ لسلامة المدنيين.

ومع التصعيد العسكري الإسرائيلي منذ منتصف أيلول، والذي أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا المدنيين اللبنانيين إلى الآلاف، أصبح لدينا أمثلة واضحة (وتقارير صحفية كثيرة) عن ضربات جوية إسرائيلية تسببت في خسائر بشرية كبيرة دون أن تحقق أي مكاسب عسكرية ملموسة. ويشار هنا أن هذه الحوادث ليست عرضية، بل إن استخدام الجيش الإسرائيلي للقوة بشكل غير متناسب يبدو سياسة منهجية. 

وحتى لو افترضنا أن إسرائيل تلتزم أصولاً بمبدأ التمييز و”لا تنوي استهداف المدنيين” فإن الطبيعة غير المتناسبة لهجماتها فيها تجاهل صارخ لسلامة المدنيين. وحتى في الحالات التي حققت فيها الضربات الإسرائيلية بعض النتائج العسكرية، فإن الزيادة الدراماتيكية بسقوط قتلى وجرحى من المدنيين وتدمير الممتلكات على نطاق واسع منذ منتصف سبتمبر/أيلول يثيران الإنذارات بأن العديد من هذه الهجمات قد تفتقر إلى التناسب ويجب التحقيق فيها.

خرق مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين  

أ. استهداف المسعفين والصحفيين   

“يعد الصحفيون الذي يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة أشخاصاً مدنيين…”  

المادة 79 (1)، البروتوكول الإضافي الأول، اتفاقيات جنيف   

“احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية المدنيين أمر واجب.”  

المادة 15 (1)، البروتوكول الإضافي الأول، اتفاقيات جنيف 

ينص “مبدأ التمييز” في القانون الدولي الإنساني على أن الهجمات العسكرية يجب أن تكون ضد أهداف عسكرية وليس ضد المدنيين أو ممتلكاتهم. يحدد القانون القواعد التي على القوات المسلحة اتباعها في تحديد ما إذا كان الهجوم مشروعاً. فإن الزيادة السريعة في عدد الضحايا المدنيين منذ التصعيد الذي قام به الجيش الإسرائيلي في منتصف أيلول تثير مخاوف جمّة بشأن ما إذا كانت هذه الأعمال ظلت ضمن حدود القانون الدولي. 

كما يحمي القانون الدولي الإنساني صراحة فئات معينة من المدنيين قد تضعهم وظيفتهم على مقربة من النزاع المسلح لكنهم ليسوا منخرطين في القتال، مثل منظمات الدفاع المدني (المستجيبين للطوارئ)، والعاملين في المجال الطبي والصحفيين. وهؤلاء تحقّ لهم الحماية التي يوفرها مبدأ حصانة المدنيين الذي يحظر استهداف غير المقاتلين، وتلزم أحكام القانون الدولي الإنساني الطرف المعتدي بضمان حمايتهم. 

إلا أن الجيش الإسرائيلي قتل حتى اليوم عدداً هائلاً من العاملين في المجال الطبي والصحفيين خلال هجماته، حيث كشفت التحقيقات عن عدة حالات يبدو أنها انتهاكات واضحة للقانون الإنساني الدولي. 

يبدو أن لدى الجيش الإسرائيلي أيضاً سياسة قائمة باستهداف الصحفيين في حربها المستمرة على غزة، والتي يبدو أنها امتدت إلى لبنان.

ففي الأسابيع الأخيرة وحدها قتل 50 مسعف ليصل إجمالي عدد المستجيبين للطوارئ الذين قتلوا منذ بداية النزاع في لبنان إلى أكثر من 163. ومن بين هذه الاعتداءات ما حصل في أوائل تشرين الأول حين دمرت غارة جوية إسرائيلية شقة في مبنى الهيئة الصحية في بيروت مما أسفر عن مقتل سبعة من العاملين في المجال الطبي والإنقاذ. ولم يكن هناك أي تحذير قبل الهجوم، ولم يقدم الجيش الإسرائيلي حتى ادعاءً بوجود مبرّر.    

يبدو أن لدى الجيش الإسرائيلي أيضاً سياسة قائمة باستهداف الصحفيين في حربها المستمرة على غزة، والتي يبدو أنها امتدت إلى لبنان. فهذا الشهر، قتلت غارة جوية إسرائيلية ثلاثة صحفيين أثناء نومهم في دار ضيافة في جنوب شرق لبنان. كان الثلاث في مجمع تستخدمه المنظمات الإعلامية كقاعدة لتغطية الصراع، وكانت المركبات في الخارج تحمل علامة “صحافة” بكلّ وضوح. وتضمنت العديد من التقارير الصحفية الغربية عن تفاصيل الحادثة أن هؤلاء الصحفيين يعملون في وسائل إعلام تابعة لحزب الله. لكن ذلك ليس له أهمية في تحديد انتهاكات القانون الدولي الإنساني – فالصحفيون يتمتعون بالحماية بغض النظر عن الجهة التي يعملون لصالحها.    

أما الحادثة الأكثر توثيقاً لهجوم الجيش الإسرائيلي على صحفيين في لبنان كانت في 13 تشرين الأول 2023، عندما أطلقت دبابة إسرائيلية النار مرتين من الجانب الإسرائيلي من الحدود إلى لبنان، مما أسفر عن مقتل صحفي رويترز عصام عبد الله وإصابة ستة آخرين. كان السبعة جميعهم يرتدون سترات صحفية، وكانوا متواجدين في المنطقة لأكثر من ساعة و15 دقيقة قبل الهجوم، بينما حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق المنطقة قبل 25 دقيقة من الهجوم. كما ورد في تحقيقات هيومن رايتس ووتش: “كانت القوات الإسرائيلية تعلم – أو كان عليها أن تعلم – أن المجموعة التي كانت تهاجمها كانت صحفية.”  

ويبدو أن هذه الحالات تشكل هجمات على مدنيين بنية واضحة، مما يجعلها ترقى إلى جرائم حرب. 

ثانيا. قصف القرض الحسن  

 “لا يجوز أن تكون الأعيان المدنية هدفاً للهجوم أو لأعمال الردع، والأعيان المدنية هي جميع الأعيان التي ليست أهدافاً عسكرية…” 

المادة 52(1) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف  

في 20 تشرين الأول من العام الجاري، أعلن الجيش الإسرائيلي عن نيته استهداف المباني والمكاتب المرتبطة بجمعية القرض الحسن، وهي مؤسسة خيرية مسجلة في لبنان تقدم خدمات مالية ذات توجه اجتماعي مثل القروض بدون فوائد وحسابات التوفير و خدمات التحويلات والمدفوعات. وعلى الرغم من ارتباطه بحزب الله، إلا أنه يعمل بشكل مستقل عن الجناح العسكري للحزب. 

أمر الجيش الإسرائيلي بإخلاء مباني المنظمة في جنوب بيروت والبقاع ومناطق أخرى، ثم قصف ودمر نحو 20 موقعاً.    

وأدان مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هذه الهجمات، مشيراً إلى أنه “بموجب القانون الإنساني الدولي، لا يجوز جعل الأعيان التي تساهم اقتصادياً أو مالياً في المجهود الحربي لأحد أطراف النزاع هدفاً للهجوم على هذا الأساس وحده، لأنها لا تستوفي تعريف الهدف العسكري.” 

ينص مبدأ التمييز بموجب القانون الدولي الإنساني على أنه إذا كان هناك شك فيما إذا كانت “الأعيان المخصصة عادة للأغراض المدنية… تُستخدم لتقديم مساهمة فعالة في العمل العسكري”، فلا ينبغي استهدافها، كما هو موضح في المادة 52 (3) للبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف. 

ومن الواضح أن القرض الحسن كان يمثل شريان حياة اقتصادي للعديد من اللبنانيين غير المشاركين في النشاط العسكري لحزب الله. إن ادعاء إسرائيل ببساطة بأن القرض الحسن متورط في تمويل العمليات العسكرية لحزب الله لا يبرر قصف المنظمة، لأن هذه الأهداف لا ترقى إلى “أهداف عسكرية” وبالتالي فإن استهدافها يشكل على الأرجح جريمة حرب. 

تحذيرات غير فعالة 

 “يجب توجيه إنذار مسبق بوسائل مجدية في حالة الهجمات التي قد تمس السكان المدنيين، ما لم تحل الظروف دون ذلك.” 

المادة 57 (2) (جالبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف 

يصدر الجيش الإسرائيلي بشكل متكرر تصريحات عامة تزعم أن قواته المسلحة تتخذ تدابير لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، مثل إصدار تحذيرات مسبقة من الهجمات تسمح للمدنيين بالإخلاء. وجاءت هذه التحذيرات بأشكال مختلفة، بما في ذلك المنشورات التي تم إسقاطها من السماء، والمكالمات الهاتفية والرسائل النصية، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي والبث الإذاعي. ومع ذلك يتضح عند الفحص الدقيق أن هذه الجهود غالباً ما تكون قاصرة من عدة نواح.   

أولاً تكررت غارات جوية على مناطق مدنية دون سابق إنذار. وفي حالات أخرى، عندما يتم إصدار التحذيرات فإنها تفشل في تلبية شرط “فعالية” أو “جدوى” الإنذار أي أنها لم تصدر في وقت مناسب أو بشكل يسهم في ضمان سلامة غير المقاتلين بشكل حقيقي، بل تبدو هذه الإجراءات روتينية وتهدف إلى تجنب المساءلة. 

تقول مريم وهيبة، محامية الدفاع في المحكمة الجنائية الدولية أن "التحذيرات التي لا تمنح المدنيين الوقت الكافي للمغادرة إلى منطقة أكثر أماناً لا تعتبر مجدية."

وقد أصدرت إسرائيل بانتظام أوامر بإجلاء المدنيين لمناطق واسعة في جنوب لبنان وسهل البقاع مثل مدن وبلديات ومناطق بأكملها. يضاف أن مناطق الخطر الموضحة على الخرائط التي ينشرها للجيش الإسرائيلي غالباً ما تتعارض مع المناطق التي يعلن المتحدثون باسمه عن عمليات الإخلاء، مما يزيد من تعقيد قدرة المدنيين على البحث عن ملجأ. ووثقت منظمة العفو الدولية حالات وصلت التحذيرات في وقت متأخر من الليل أو قبل أقل من 30 دقيقة من الغارة الجوية. وهذا لا يوفر للمدنيين الوقت الكافي للإخلاء، وخاصة أولئك غير القادرين على التحرك بسرعة، مثل الأشخاص الذين يعانون من ظروف صحية. 

وتقول مريم وهيبة، محامية الدفاع في المحكمة الجنائية الدولية أن “التحذيرات التي لا تمنح المدنيين الوقت الكافي للمغادرة إلى منطقة أكثر أماناً لا تعتبر مجدية.” 

وأدت أوامر الإخلاء الواسعة هذه إلى نزوح أكثر من مليون لبناني بشكل فوضوي، خاصة على طول الساحل. وكثيراً ما أدى غموض التحذيرات إلى ترك المدنيين غير متأكدين من المكان الذي يلجأون إليه، مما بث الذعر في العديد من المناطق في وقت واحد. ونتيجة لذلك، ظلت العديد من الطرق والطرق السريعة مغلقة لساعات حيث تحاول حشود من السكان الهروب، مما زاد من تفاقم الفوضى ومنع الإخلاء الفعال، وبالتالي زاد من خطر إلحاق الأذى بالمدنيين. 

وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، تصدر إسرائيل بشكل متقطع تحذيرات أكثر تحديداً لشوارع أو مناطق أو مبان معينة. وهذا يدل على أن الجيش الإسرائيلي لديه القدرة على تقديم تحذيرات دقيقة، لكنه يختار عدم القيام بذلك أثناء شنه الغارات الجوية في جنوب لبنان ومنطقة البقاع. وفي حالات أخرى، لم تصدر إسرائيل أي تحذيرات قبل قصف أهداف في مناطق مأهولة بالسكان. فمثلاً في 15 تشرين الأول دمّرت غارة جوية إسرائيلية مبنى سكنياّ في قرية أيطو شمال لبنان أسفرت عن مقتل 22 مدنياً على الأقل. ووقعت الغارة في منطقة ذات أغلبية مسيحية، وبعيدة عن مركز نشاط حزب الله، دون أي تحذير مسبق ولا هدف عسكري واضح. 

استخدام الفسفور الأبيض 

  1.  “يحظر في جميع الظروف جعل السكان المدنيين بصفتھم ھذه، أو المدنيين فرادى، أو الأعيان المدنية، أهداف للھجوم بالأسلحة الحارقة.” 
  2. “يحظر في جميع الظروف جعل أي ھدف عسكري يقع داخل تجمع مدنيين ھدفاً لھجوم أسلحة حارقة تطلق من الجو.” 

المادة الثانية (1 و2) من البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية

شنت إسرائيل منذ 8 تشرين الأول 2023 عدداً هائلاً من الغارات الجوية على جنوب لبنان. ووثقت كل من هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية أن هذه الحملة الجوية شملت استخدام الفسفور الأبيض. هذه المادة الكيميائية  تشتعل عند تعرضها للأكسجين وتعتبر سلاحاً حارقاً، واستخدامه منظم بحسب البروتوكول الإضافي الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية، والذي وقع عليه لبنان ولم توقع عليه إسرائيل.   

وقال يوسف وهبي، خبير القانون الدولي الإنساني من دياكونيا: “إن استخدام الفسفور الأبيض ليس محظوراً بحد نفسه ولكنه مقيد بناءً على مكان استخدامه وضد من يُستخدم… بينما يعتبره البعض سلاحاً كيماوياً وأن استخدامه ضد الأفراد – بما في ذلك الأفراد العسكريين – محظور.”  

أفاد المجلس الوطني اللبناني للبحوث العلمية هجمة إسرائيلية باستخدام الفسفور الأبيض بين تشرين الأول 2023 وتموز 2024. وانتشرت هذه في 17 بلدية في جنوب لبنان، بما في ذلك خمس حالات نشرت فيها الذخائر المتفجرة جواً فوق المناطق السكنية. 

يبدو أن تكتيك الجيش الإسرائيلي باستخدام الفسفور الأبيض لتهجير السكان في غزة يتكرر اليوم في لبنان، حيث يبدو أن استخدامها يهدف لإخلاء مناطق في الجنوب.

يحظر القانون الدولي استخدام الأسلحة الحارقة ضد المدنيين، كما يحظر استهداف المواقع العسكرية داخل المناطق المأهولة بالسكان باستخدام الأسلحة الحارقة التي يتم إطلاقها من الجو. وشددت نيهال بوتا، أستاذة القانون الدولي العام في جامعة إدنبرة، على أن الفسفور الأبيض هو “سلاح يسبب معاناة لا داعي لها إذا تم استخدامه في سياق مدني، وهو سلاح يمكن اعتباره عشوائياً إذا تم استخدامه في مناطق يتواجد فيها مدنيون.” 

كما يمكن للفسفور الأبيض أن يتسبب في أضرار جسيمة للمدنيين من خلال نزوح السكان على المدى الطويل. ويأتي جزء من ذلك من خلال منع المزارعين في جنوب لبنان من جني محاصيلهم، مما يؤثر بشدة على سبل عيشهم. ووثقت هيومن رايتس ووتش في حالات مختلفة إطلاق هذه الذخائر على مناطق مدنية، مما أدى إلى تلوث الأراضي الزراعية. كما أن الخوف من التلوث الدائم من الفسفور الأبيض يؤدي أيضاً إلى تجنب المستهلكين شراء المنتجات الزراعية من المناطق المتضررة. 

ويبدو أن تكتيك الجيش الإسرائيلي باستخدام الفسفور الأبيض لتهجير السكان في غزة يتكرر اليوم في لبنان، حيث يبدو أن استخدامها يهدف لإخلاء مناطق في الجنوب. وهذا يثير مخاوف جدية بشأن الامتثال للقانون الدولي الإنساني، نظراً للضرر المدني الواسع النطاق الذي يسببه استخدام إسرائيل المنهجي للفسفور الأبيض. 

ومن جانبها، زعمت إسرائيل أنها تنشر “قذائف دخان أولية” لا تحتوي على الفوسفور الأبيض، وأنها تمتثل لوسائل الحرب المشروعة. وفي حين أن عتبة استخدام هذه القذائف أقل إلا أنها تخضع أيضاً للقانون الدولي الإنساني 

استهداف اليونيفيل 

” يحظر توجيه الهجوم إلى أفراد يشاركون في مهام حفظ السلام وأعيان مستخدمة فيها وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ما داموا مؤهلين للحماية الممنوحة للمدنيين والأعيان المدنية بمقتضى القانون الدولي الإنساني.”  

القاعدة 33 من القانون الدولي العرفي.

أقرّت قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان اليونيفيل، وهي هيئة حفظ السلام الدولية على طول الحدود الجنوبية مع إسرائيل، بوقوع هجمات إسرائيلية عديدة على مواقعها في الأسابيع الأخيرة. وبحسب المتحدث باسم الأمم المتحدة أندريا تينينتي: “منذ الأول من تشرين الأول سجلت اليونيفيل أكثر من 30 حادثة أدت إلى إلحاق أضرار بممتلكات أو مباني تابعة للأمم المتحدة أو إصابة جنود حفظ السلام، حوالي 20 منها يمكن أن نعزوها إلى نيران أو تصرفات جيش الدفاع الإسرائيلي، وسبعة منها كانت متعمدة بشكل واضح.”  

تشمل هذه الحوادث اقتحام الدبابات والجرافات الإسرائيلية قواعد اليونيفيل، وتدمير أو ألحاق الأضرار بأبراج المراقبة والأسوار المحيطة والمخابئ، ومنعت اليونيفيل من تنفيذ مهام لوجستية هامة، وأطلقت مادة كيميائية يشتبه بأنها فوسفور أبيض حول قاعدة اليونيفيل، مما أدى إلى إصابة 15 فرداً من قوات حفظ السلام. 

وقالت اليونيفيل في بيان لها بتاريخ 13 تشرين الأول أن “اختراق موقع للأمم المتحدة والدخول إليه يشكل انتهاكاً صارخاً آخر للقانون الدولي وقرار مجلس الأمن رقم 1701” وأضافت أن “أي هجوم متعمد على قوات حفظ السلام يعد انتهاكا خطيرا للقانون الإنساني الدولي والقرار 1701”. 

والاعتداءات الإسرائيلية ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تنتهك مواد متعددة من القانون الدولي. لا يشارك أفراد حفظ السلام التابعين لليونيفيل في الأعمال العدائية، حيث تنص المادة 3 من اتفاقية جنيف الرابعة على حماية محددة لغير المقاتلين. كما أن القانون الدولي العرفي يحظر صراحةً توجيه الهجمات ضد الأفراد والأعيان المشاركة في بعثات حفظ السلام. المادتان 7 و 9 من الاتفاقية المتعلقة بسلامة موظفي الأمم المتحدة والأفراد المرتبطين بها، التي ليست إسرائيل طرفا فيها، تحظر الهجمات ضد موظفي الأمم المتحدة أو معداتها أو مبانيها. 

كما تحظر المادة 8 من نظام روما الأساسي “توجيه الهجمات عمداً ضد الأفراد أو المنشآت أو المواد أو الوحدات أو المركبات المشاركة في مهمة مساعدة إنسانية أو مهمة لحفظ السلام وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، طالما أنهم يستحقون الحماية الممنوحة للمدنيين أو الأعيان المدنية بموجب القانون الدولي للنزاعات المسلحة.” 

كما أن ادعاء إسرائيل بأن حزب الله يستخدم أفراد قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان ومواقعها “دروعاً بشرية” هو انقلاب على الحقائق، ففي عدة حالات تمركزت الدبابات الإسرائيلية على بعد أمتار من مواقع قوات حفظ السلام. 

لم تكن هناك تقييمات فردية لتحديد ما إذا كان كل شخص بحوزته جهاز النداء (البيجر) يمثل هدفاً عسكرياً مشروعاً قبل تفجير الأجهزة.

هجمات البيجر والووكي توكي  

“يحظر في جميع الأحوال استخدام أي أفخاخ متفجرة على شكل جسم محمول غير ضارّ ظاهرياً ومصمم خصيصاً لاحتواء مادة متفجرة وينفجر عند تحريكه أو الاقتراب منه…” 

المادة 6 (1) من البروتوكول الثاني البروتوكول (الثاني) بشأن حظر أو تقييد استعمال الألغام والأشراك الخداعية والنبائط الأخرى 

في 17 أيلول قامت إسرائيل بتفجير آلاف أجهزة النداء عن بعد (البيجر) في لبنان، ثم قامت بتفجير مئات من أجهزة الاتصال اللاسلكي (الووكي توكي) في اليوم التالي. أسفرت هذه الهجمات عن مقتل 42 شخصاً بينهم أطفال، وجرح ما يقارب شخص. وكان حزب الله قد طلب ووزع أجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللاسلكية هذه والتي كانت شركات تابعة لإسرائيل قد أخفت عبوات ناسفة بها أثناء عملية الإنتاج. يمكن تصنيف الانتهاكات المحيطة بهذه الهجمات إلى مجالين رئيسيين: أولاً، طبيعتها العشوائية، وثانياً، كيفية تنفيذها. 

ففي ما يتعلق بمبدأ التمييز – وهو مبدأ أساسي بموجب القانون الدولي الإنساني – فقد تم تنفيذ الهجمات في وقت واحد في كل من اليومين، مما يحول دون إمكانية اتخاذ تدابير احترازية. ولم تكن هناك تقييمات فردية لتحديد ما إذا كان كل شخص بحوزته جهاز النداء يمثل هدفاً عسكرياً مشروعاً قبل تفجير الأجهزة. وبالإضافة إلى ذلك، ففي كل انفجار كان هناك خطر محتمل على المدنيين المتواجدين على مقربة منها، مما يثير المزيد من المخاوف بشأن مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين. 

ومن الجدير بالذكر أن حزب الله، باعتباره جماعة مسلحة وليس جيش دولة، فهو يعمل بشكل مختلف عن الجماعات المسلحة الأخرى. فحزب الله هو مجموعة مختلطة تتألف من منظمات تابعة متميزة، يشار إليها بمسمى “مجموعات مسلحة منظمة” أو OAG. وإن إمكانية استهداف أعضاء هذه المجموعات قضية محل نقاش. مثلاً تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه في النزاعات المسلحة غير الدولية، لا يمكن استهداف سوى الأفراد الذين لديهم “وظيفة قتالية مستمرة” في حين لا يمكن مهاجمة الآخرين إلا عند مشاركتهم بشكل مباشر في الأعمال العدائية. وفي المقابل فإن الولايات المتحدة مثلاً تعتبر أن جميع أعضاء هكذا مجموعات (والتي تتمتع بوظيفة قتالية ممكنة) قابلون للاستهداف في أي وقت. 

وفي كلتا الحالتين، يبدو أن الهجمات كانت عشوائية بطبيعتها، نظراً لعدم اليقين بشأن هوية حامليها في لحظة تفجيرها. وفي حين كان من المتوقع أن العديد من أجهزة النداء (البيجر) كانت بحوزة أفراد منخرطين في مهام قتالية مستمرة – وفقاً للمفهوم الذي تتبناه اللجنة الدولية للصليب الأحمر – أو يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائية وقت حدوث الانفجار، إلا أنه من المحتمل أيضاً أن تصل الإنفجارات أيضاً إلى أولئك الذين لديهم أدوار غير قتالية مثل العاملين في المجال الطبي أو الرعاية الاجتماعية. وكما قالت ميرا سعادة، مديرة المكتب الإقليمي للقانون الدولي الإنساني في سوريا في دياكونيا، للبديل: “لا يمكن تحليل هذه الهجمات بالمجمل أو ككل.” 

كما تم التحضير لهذه الهجمات عن طريق إدخال مكونات متفجرة في أجهزة الاستدعاء المصنعة حديثاً وأثناء عملية الإنتاج. بينما البروتوكول الثاني المعدل لاتفاقية الأسلحة التقليدية يحظر صراحة “الأفخاخ المتفجرة أو الأجهزة الأخرى التي تكون على شكل أشياء محمولة تبدو غير ضارة، والمصممة والمصنوعة خصيصاً لاحتواء مواد متفجرة.”  

يعرّف البروتوكول الأفخاخ المتفجرة بأنها “أي جهاز أو مادة مصمّمة أو مصنّعة أو مكيفة للقتل أو الإصابة، والتي تعمل بشكل غير متوقع عندما يحرك شخص ما جسماً غير ضار أو يقترب منه أو ينخرط في عمل يبدو آمناً.” إن تصرفات إسرائيل غير قانونية في هذا الإطار. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تصادق على هذا البروتوكول، فإنها تظل ملزمة بالقانون الدولي العرفي الذي يحظر مثل هذه الممارسات. 

نظراً لأن الانفجارات الصوتية هذه تحدث دائماً فوق المناطق المدنية، فلا يوجد هدف أو غرض عسكري معقول.

“خرق جدار الصوت” لترويع السكان  

“تحظر أعمال العنف أو التهديد به الرامية أساساً إلى بثّ الذعر بين السكان المدنيين.”  

المادة 51 (2)، البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف 

خلال العام الماضي دأبت الطائرات المقاتلة التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي على اختراق حاجز الصوت فوق المدن اللبنانية ، محدثة “دويّات صوتية” يتردد صداها مثل الانفجارات ويحاكي الغارات الجوية، ويمكن أن يؤدي إلى تحطيم النوافذ واهتزاز المباني ونشر الذعر. سجلت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية ما لا يقل عن 111 حالة بين 8 تشرين الأل 2023 و20 آب من العام الجاري. فمنذ منتصف أيلول كان هناك خروقات شبه يومية لجدار الصوت، وفي كثير من الأحيان عدة مرات في اليوم الواحد. كما أنها حصلت في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك المناطق غير المرتبطة بحزب الله. 

ونظراً لأن الانفجارات الصوتية هذه تحدث دائماً فوق المناطق المدنية، فلا يوجد هدف أو غرض عسكري معقول. ومن دون ضرورة أو مكسب عسكري مرتبط بها، فإن وظيفتها الوحيدة هي الترهيب وبث الخوف في نفوس السكان. ولأنها لا تحمل هدفاً عسكريأً مشروعاً، فإن خرق جدار الصوت ينتهك مشروعية استخدام القوة في الحرب، مما قد ينتهك المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة. 

بالإضافة إلى ذلك، تنتهك هذه الممارسة أيضاً المادة 51(2) من البروتوكول الإضافي الأول و المادة 13(2) من البروتوكول الإضافي الثاني، وكلاهما يحظر العنف أو التهديدات التي تهدف إلى نشر الرعب بين السكان المدنيين.

الطريق إلى العدالة مظلم ووعر 

إن الخطوة الأولى الضرورية لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الإنساني الدولي تقع إلى حد كبير ضمن الإرادة اللبنانية. إلا أن قادة البلاد يبدون مترددين في قبولها. فلم يصدق لبنان على نظام روما الأساسي، مما يمثل عائقاً كبيراً أمام متابعة القضية في المحكمة الجنائية الدولية. 

وفي نيسان وجهت الحكومة اللبنانية تعليمات لوزارة الخارجية بمنح المحكمة الجنائية الدولية اختصاصاً قضائياً على جميع الجرائم المرتكبة داخل أراضيها منذ 7 تشرين الأول 2023. وكان هذا القرار سيمنح المحكمة الجنائية الدولية بأثر رجعي سلطة التحقيق في هذه الانتهاكات. لسوء الحظ فشلت وزارة الخارجية في التصرف بناءً على هذا التوجيه. ويتكهن الخبراء أن القادة اللبنانيين يشعرون بالقلق من أن يصبحوا هم أنفسهم متهمين ما إذا منحوا المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها في لبنان. وعوضاً عن ذلك قدم لبنان شكوى ضد إسرائيل في الأمم المتحدة، إلا أن هذا الادعاء من غير المرجح أن ينجح، لأنه سيتطلب قراراً من مجلس الأمن والولايات المتحدة، التي استخدمت حق النقض حتى الآن على أكثر من 50 قراراً اقترح فرض عقوبات على إسرائيل. 

ويسلط هذا الوضع الضوء على التعقيدات القانونية والعقبات الأوسع التي تعترض تحقيق العدالة. وعلى الرغم من الفرصة التاريخية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها فإن “الحكومة اللبنانية غير قادرة أو غير راغبة” في معالجة هذه القضية “نظراً لوجود أولويات عاجلة أخرى ومخاوف بشأن ردود الفعل العدائية من بعض الدول الغربية التي تحمي إسرائيل بأي ثمن” بحسب كريم مقدسي، الأستاذ المشارك في السياسة الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت. 

وفيما يتعلق بالهجمات على لبنان التي بدأتها إسرائيل من داخل حدودها، فقد تكون هناك طرق إضافية للسعي نحو العدالة خارج نطاق المحكمة الجنائية الدولية. لنأخذ على سبيل المثال الهجوم الذي أدى إلى مقتل الصحفي عصام عبد الله في تشرين الأول 2023. 

يقول رمزي قيس، الباحث في شؤون لبنان في هيومن رايتس ووتش: “هذا هجوم انطلق من داخل إسرائيل… ويمكن أن يكون ضمن اختصاص لجنة التحقيق بشأن إسرائيل وفلسطين المحتلة.” هذه اللجنة التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أيار2021، تتمتع بسلطة قضائية للتحقيق في جميع الانتهاكات المشتبه بها للقانون الدولي داخل حدود إسرائيل والضفة الغربية وغزة. 

يمكن للبنان أيضاً أن يستكشف خيار الضغط على الجمعية العامة للأمم المتحدة لإنشاء آلية دولية للتحقيق مع الأفراد ومحاكمتهم بسبب الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. وتعد لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا (IIIM) سابقة لذلك. لكن تجربة لبنان مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 61/194 ــ والذي دعا إسرائيل إلى تعويض لبنان عن الأضرار الناجمة عن حرب عام 2006 ولم يتم تنفيذه حتى الآن ــ يبرز القيود المفروضة على الاعتماد على الجمعية العامة. وعلى الرغم مع كلّ ذلك يبقى من الضروري أن يقوم لبنان بعرض هذه الانتهاكات على الساحة الدولية وإنشاء سجل موثق لمظالمه. وقد تكون هذه الجهود حاسمة في السعي وراء فرص تحقيق العدالة مستقبلاً. 

كما يمكن للبنان جمع الأدلة ومشاركتها مع البلدان التي تمارس الولاية القضائية الدولية، وتشجيعها على التحقيق مع مزدوجي الجنسية (أي من يحمل جنسية ثانية من الإسرائيليين) المتورطين في الجرائم المرتكبة في لبنان ومحاكمتهم. وفي مثال على ذلك بدأت بلجيكا مؤخراً تحقيقاً في جرائم حرب محتملة ارتكبها مقاتلون مزدوجو الجنسية يقاتلون إلى جانب إسرائيل في غزة. وتتسق هذه الجهود مع التزامات الدول بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي العرفي بمحاكمة جرائم الحرب، بغض النظر عن مكان حدوثها أو جنسيات المتورطين فيها. 

وفي نهاية المطاف، فإن التفاعل بين الديناميكيات الداخلية في لبنان، وازدواجية المجتمع الدولي في التعامل، وتاريخ إسرائيل في عدم الامتثال للقرارات الدولية، يخلق بيئة مليئة بالتحديات لتحقيق العدالة. أما للمضي قدماً في هذا الملف، فمن بالغ الأهمية أن يجد لبنان الإرادة السياسية لمتابعة المساءلة وأن يدعم المجتمع الدولي معايير ثابتة في إنفاذ حقوق الإنسان. عندها يمكن لضحايا هذه الانتهاكات أن يأملوا في تحقيق العدالة لمظالمهم المشروعة. 

المواضيع ذات الصلة