أولاً: مقدمة
أدّى اندلاع الأزمة المالية اللبنانية، الناجمة عن سنوات من عدم الانضباط المالي، فضلاَ عن النموذج الاقتصادي المنحرف، الذي يعتمد بالدرجة الأولى على تدفقات العملات الأجنبية والتعاميم غير القانونية لمصرف لبنان وانعدام الثقة في الليرة، إلى نشوء فترة طويلة وخطيرة من التباعد الحاد بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية .ومن أجل إعادة تأهيل الاقتصاد اللّبناني، لا بدّ من توحيد أسعار الصرف العديدة وإصلاح الحوكمة النّقدية.
وبغض النظر عن تنفيذ الإصلاحات، فقد تمكنت الحكومة والبنك المركزي من إدارة التراجع المتصاعد لليرة من خلال تصنيع عدة أسعار صرف مستخدمة في ظروف ومعاملات مختلفة، تشمل سعر الصرف المعتمد من قبل المصارف (والمعروف باسم “لولار” تهكماً)، وسعر صرف منصة صيرفة، وسعر صرف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهيئات الجمارك المختلفة، على سبيل المثال لا الحصر. أدت سياسة سعر الصرف المجزأة هذه إلى حدوث تشوهات في السوق، وحفزت الدولرة وتراجع الدورات المالية الرسمية والتوزيع غير العادل للخسائر، كما ساهمت في انتشار الفقر وتفاقم عدم المساواة.1
تحدد ورقة الموقف هذه العوامل التي تتحكم في الطريقة العشوائية وغير المسؤولة التي نظّمت بها كلّ من الحكومة والبنك المركزي أسعار الصرف والسياسة النقدية في لبنان، والإطار القانوني الذي تمّ فيه كلّ ذلك. كما ستقدّم الورقة لاحقاً توصيات السياسة العامّة لمساعدة لبنان على البدء في معالجة أزمة العملة المستمرة.
ثانياً. خلفية عامّة
عدم الانضباط الضريبي والإيرادات الضّريبيّة المنخفضة:
لعقود من الزمان، اتسمت ميزانية الحكومة اللبنانية بالإفراط في الإنفاق، دون ما يبرر هذا الإنفاق، مما أدى إلى وقوع لبنان في الخانة الثالثة من ضمن البلدان التي تصل نسبة ديونها مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي إلى درجة متدنيّة في العالم، إذ سجّل لبنان نسبةَ 171 ٪ في هذا الخصوص، وعليه فإنّه ليس من المستغرب إذن أن تكون خدمة أداء الديون في السنوات الأخيرة هي أكبر بندٍ منفردٍ في الميزانية الوطنية، تليها الرواتب الحكومية والإعانات للمؤسسات لإنتاج الطاقة العامّة – مع ضعف أداء الأخيرين بشكل يرثى له على الرغم من تكلفتهما الكبيرتين.23
كانت عائدات الضرائب الحكومية قبل الأزمة تعادل 7.81 مليار دولار أو ما يقرب من 15-16٪ من الناتج المحلي الإجمالي – وهي نسبة أقل بكثير من الإيرادات الضريبية بالنسبة للنشاط الاقتصادي مقارنة بالمغرب أو تونس، اللتين كانتا أفقرَ على نحوٍ هامشيّ. أما في أعقاب الأزمة فقد انهارت الإيرادات الضريبية في لبنان بنسبة 86٪ لتصبح ما يعادل 1.13 مليار دولار.4
اعتمدت الحكومة على التوسع النقدي لتغطية النقص في إيرادات الدولة، حيث قام البنك المركزي بضخ الليرة للتداول بهدف تعويض الفارق النقدي، مما فاقم من انخفاض قيمة العملة المحلية. وفي الوقت نفسه لا تزال السياسة الضريبية في لبنان تتميز بالاعتماد على الضرائب غير المباشرة، وضعف الإيرادات من التدفقات الضريبية التصاعدية، ووفرة الثغرات الضريبية للأثرياء لتجنب دفع الضرائب، مما يضع عبء الضرائب بشكل غير متناسب على الطبقات المتوسطة والدنيا.5
من يحق له تحديد سعر الصرف: التحليل القانوني:
يخضع البنك المركزي لقانون النقد والتسليف الصادر في العام 1963، والذي يمنحه الحق الحصري في إصدار الأموال ويجعله مسؤولاً عن ضمان “استقرار” سعر الصرف بالاتفاق مع وزير المالية، دون ذكرٍ صريحٍ لقدرة البنك على تحديد أسعار الصرف. إلّا أنّ المادتين 2 و229 من هذا القانون قد نصّتا على أن البرلمان هو وحده القادر على تحديد أسعار الصرف، إلاّ في ظروف استثنائية وبشرط بقاء احتياطي الذهب السيادي غير مدقق مالياً. وقد تم إساءة استخدام هذه البنود القانونية من قبل البنك المركزي ووزارة المالية في العام 2022، ليقوما بإصدار وإدارة أسعار صرف متعددة – مما أدى في الواقع إلى خفض ودائع البنوك التجارية. لم يمنع كلّاً من وزير الماليّة والبنك المركزي من أن يمنحا سلطة تحديد أسعار الصرف في الميزانية التي أقرها البرلمان للعام 2022.
سعر الصرف الرسمي و الـ”لولار”:
منذ بداية العام 2019 وحتى هذا اليوم، تمثلت استجابة البنك المركزي للأزمة القائمة في تقديم العديد من التعاميم التي كانت بمثابة تدابير مخصصة غالباً ما أدت إلى نتائج عكسية لوقف تدهور البيئة النقدية في لبنان. وقد ولّد هذا التفاعل المعقّد بين هذه التعاميم فرصاً للمراجحة في سوق النقد اللبناني وتشوهاتٍ أخرى في السوق.6 أما “الخطيئة الأصلية” في هذا السياق فقد أخذت شكل الودائع “اللولارية” أي الودائع بالدولار التي تمت قبل الأزمة والتي تخضع لضوابط رأس المال غير الرسمية التي وضعتها البنوك التجارية.7
وبسبب عدم قدرتها على إصدار سندات جديدة، اعتمدت وزارة الخزانة على قيام البنك المركزي بطباعة المزيد من الليرة لتمويل عجز ميزانيته. كما ساهمت زيادة المعروض النقدي في الانخفاض الحادّ في قيمة الليرة مقابل الدولار. إذ ارتفع المعروض النقدي M1 من 12.7 تريليون ليرة في أكتوبر 2019 إلى 94.9 تريليون ليرة في يناير 2023 أي زيادة قدرها 650٪8 وقد أدى ذلك إلى نزع المدخرات والرواتب العامة المقوّمة بالليرة، وأثّر بشدّةٍ على نوعية حياة الأسرِ ومعيشتها.
ولم يتمّ تغييرُ سعر الصرف الرسمي للدّولار الأمريكيّ مقابل الليرة اللبنانيّة حتّى بداية السّنة الحاليّة أي في فبراير 2023. وقد جاء هذا التعديل ليكون الاوّل من نوعه منذ عقود طويلة، إذ أنّه قد تمّ ربط الليرة بالدولار عند سعر صرف 1507.5 ليرة لبنانية للدولار الواحد منذ عام 1997، وفقط في هذه السنة تم رفع سعر الصرف الرسمي إلى 15000 ليرة لبنانية مقابل الدولار.9 وقد ادعى حاكم البنك المركزي رياض سلامة أن التخفيض الرسمي لسعر صرف الليرة كان خطوة نحو توحيد سعر الصرف، في حين أعطى وزير المالية المؤقت يوسف يوسف تأكيدات متكررة بأن ميزانية 2023 التي لم يتم إقرارها بعد ستتضمن خطواتٍ لتحقيق نفس الغاية، على الرغم من أن البرلمان لم يصوت بعدُ على مشروع القانون.
منصّة صيرفة:
إنّ الهدف الأساسي وراء استخدام منصّة التبادل الالكتروني – المعروفة محليّاً باسم “صيرفة”- والتي وجدت من الأساس لتكونَ أداة أساسيّة للتدخل في أسواق العملات، منذ إنشائها في أبريل 2020، هو إعادة سوق الصرف الأجنبي تحت إشراف البنك المركزيّ من خلال إلزام البنوك ومكاتب الصرافة القانونيّة وتجار العملات الآخرين بإجراء معاملاتهم بالعملة الأجنبيّة على منصة صيرفة عوضًا من السوق الموازية، إذ يضخ البنكُ المركزي العملات الأجنبيّة في الاقتصاد الوطنيّ عن طريق بيع الدولار على المنصّة بسعرٍ منخفض (المعروف باسم سعر صيرفة). بعد أن كان قد صرّح عن هدفه المعلن بوقف التداعي السريع لقيمة الليرة اللبنانيّة مقابل العملة الأجنبيّة (أي الدولار الأميركي) وإضفاء الطّابع الرّسمس على المعاملات من خلال القطاع المصرفي وتجّار الصّرافة الرّسميين.
اضطلعت المنصّة بدور جديد مع استمرار انخفاض الليرة اللينانيّة، مما دفع البنك المركزي للإعلان في ديسمبر 2021 أنه سيوفر سيولة دولارية غير محدودة لمنصة صيرفة. أدى هذا الإعلان، إلى جانب تخفيف المتطلبات على الأطراف المسموح لها بالتداول على المنصة، إلى ارتفاع قيم التداولات من 1.3 مليون دولار كمتوسط يومي بين 26 تمّوز و 13 تشرين الأول 2021، إلى متوسط يومي قدره 84.4 مليون دولار بين 1 آذار و31 أيار 2023. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن البنك المركزي لا ينشر بيانات عن طبيعة الأطراف التي تتداول على المنصة ولا قيمة البيع والشراء، مما يؤدي إلى تصور أن منصة صيرفة تعمل بشكل “الصندوق الأسود”.10 في الوقت الذي لم يتقاعس فيه عن نشر أحجام التداول اليومية الإجمالية والتي بلغ متوسطها 74 مليون دولار يومياً في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023.11
ينتقد البنك الدولي فعالية منصة صيرفة واستدامتها، ويشاركه في ذلك صندوق النقد الدولي الذي يؤكد على ضرورة انتقال المنصة إلى غرفة مقاصة حقيقية و مؤتمتة. وفي السياق عينه، يشير التحليل الاقتصادي القياسي الذي أجراه البنك الدولي إلى أن “صيرفة” هي أداة غير فعالة للسياسة النقدية عموماً، في هذه العلاقة الطفيفة بين معدل صيرفة والأحجام التي تضع يدها عليها، مقارنةً بأسعار السوق الموازية.12
فضلاً عن أنَ مصدر السيولة الدولارية غير مستدام، نظراً لارتفاع سعر السوق الموازي للدولار عن سعره في المنصة، مما يفترض أن جميع الدولارات المباعة على المنصة هي من البنك المركزي، وبالتالي فإن قدرة مصرف لبنان على الحصول على الدولار ذو أهمية حيوية لتشغيل المنصة. يشير البنك الدولي أيضاً إلى أن الفترات التي حدثت فيها الانخفاضات السريعة في إجمالي العملات الأجنبية القابلة للاستخدام المتبقية للبنك المركزي متزامنة مع تداول أحجام مالية الضخمة على منصة صيرفة. ومن المحتمل أن يكون جزء من الانخفاض البالغ 4.82 مليار دولار في احتياطيات النقد الأجنبي ناجماً عن تشغيل المنصة. هذا وتشير الطفرات في تداول العملة المحلية والانخفاضات الحادة في سعر صرف الليرة حتّى قبل تدخلات البنك المركزي إلى أنّ مصرف لبنان يشتري أيضاً الدولار في السوق الموازية لتمويل المنصة.13
أما النقطة الأكثر إثارة للقلق فيما يخصّ منصّة صيرفة فهي أرباح المراجحة التي تحققها الكيانات المشاركة (في حين أن المبالغ التي يتم تداولها غير معروفة خارج البنك المركزي). ويقدر البنك الدولي أن إجمالي هذه الأرباح قد بلغ 2.5 مليار دولار منذ انطلاق العمل بالمنصّة، وهي تنشط بشكل فعال من أجل دعم وإعانة البنوك وتجار العملات والمستوردين والأفراد والشركات التي يجري العمل معها على نحوٍ تفضيلي . والجدير بالذكر أن هذه الإعانات المقدمة للمستوردين لا تنعكس على ما يبدو في الأسعار التي يدفعها المستهلكون، أنفسهم.
في المحصلة، يكفي القول بأن منصّة صيرفة قد أثبتت منذ انطلاقتها أنّها غير فعالة، بل أنها قد زادت أيضاً من تقلبات أسعار الصّرف بدلًا من تقليلها، على الرغم من أنّ سعر الصّرف الموازي قد شهدَ فترةَ استقرارٍملحوظةٍ في الفترة الممتدة من نيسان إلى حزيران 2023. ورغمَ أنّ المنصة مكلفة كثيراً فيما يتعلق باحتياطات النقد الأجنبي، إلّا أنّه يمكن نظرياً تمويلها من قبل الاحتياطات الأجنبية المتبقية للبنك المركزيّ لسنوات قليلة أخرى، أمّا في الوقت الحالي، فيبقى هدفها الوحيد هو تأخير تنفيذ إطار جديد تتمّ فيه التعاملات النقديّة ومعالجة أسعار الصرف الحاليّة والجديدة.
ثالثاً. توصيات السياسة
لم تنجح السياسة النقدية التي اعتمدتها وزارة المالية والبنك المركزي استجابةً للأزمة سوى في مساعدة المسؤولين عن أزمات الاقتصاد والنّقد في لبنان، في كسب المزيد من الوقت. وفي هذا السّياق تظهر الحاجة إلى إصلاحات جذرية وتقدمية في سعر الصرف، واضحةً وملحة، والشرط المسبق لعملية الإصلاح هذه هو إعادة بناء الثقة في المجالات الرئيسة مثل إدارة السياسة النقدية والقطاع المالي، كما يجب على الحكومة والبرلمان بعدها أن يعملا على توحيد أسعار الصرف تدريجياً والسعي إلى انتقال منظّم للسياسة النقدية إلى تعويم مُدار للّيرة اللبنانيّة. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف مجتمعةً يجب أن تتضمن المرحلة الجديدة تركيزاً على ثلاث ركائز مترابطة: إعادة هيكلة النظام المصرفي؛ واستعادة ثقة الأسواق؛ وإدخال بروتوكول مختصّ بإدارة تعويم الليرة.
أ. إعادة هيكلة النظام المصرفي:
إنّ القضيّة الأساسيّة التي تطرح نفسها في الوقت الحاضر هي التمايز الفعلي بين النقود “الجديدة” (فريش) و “القديمة” في الاقتصاد اللبناني، حيث تخضع “اللولارات” لقيود شديدة في سقف استرداد الودائع (haircut) والسحب النقدي. فمع تنفيذ خطة استرداد ودائع ناجحة وعادلة، سيتم حل هذا التمايز غير القانوني في القيمة بين الاثنين، وعليه فإنّ الشرط الأساسي لتوحيد سعر الصرف هو تنفيذ خطة استرداد الودائع العادلة وإعادة الهيكلة الجذرية للنظام المصرفي، وهذا أمر بالغ الأهمية لاستعادة قدرة النظام المالي ومصداقيته ودعم الانتعاش الاقتصادي، كما قد تم التأكيد عليه على مستوى الخبراء، في الاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي. وتتضمّن هذه العمليّة الإجراءات التالية:
- أولاً وقبل كل شيء، فإنّه يجب التعامل مع الثغرة القائمة في التمويلات المالية للبنك المركزي والديون الحكومية المستحقة بشكل منفصل عن التزامات البنوك التجارية بسداد المودعين.
- يجب أيضاً الاعتراف بالمسؤولية الأساسية للبنوك التجارية عن سداد التزاماتها لمودعيها، بغض النظر عن الخسائر الهائلة التي تكبدتها البنوك التجارية خلال الأزمة، نظراً لأن مشاركتها غير المسؤولة في الهندسة المالية كانت عاملاً مسبباً للأزمة الحالية في البلاد.
- يجب إعلان إفلاس البنوك التي تواجه ظروفاً عسيرة والعمل على إخراجها من السوق.
- تحتاج إعادة هيكلة البنوك التجارية إلى تأمين حد أدنى للمدفوعات النقدية للمودعين يصل إلى 250 ألف دولار لكل حساب تغطي 96٪ من الحسابات، بما يتماشى مع معايير مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية الأمريكية (FDIC).
- يجب ضمان الحد الأدنى من إعادة المدفوعات السنوية للنقابات لتغطية تكاليف العلاج في المستشفيات والمعاشات التقاعدية.
- يمكن تمويل تكاليف الاسترداد هذه عن طريق بيع أصول البنوك الأجنبية والمحلية وإعادة الرسملة وأحكام استرداد الأموال.
- من المهم ملاحظة أن البنوك قد ربحت 5 مليارات دولار من مخطط الهندسة المالية الكارثي ودفعت للمساهمين المرتبطين سياسياً مئات الملايين من الدولارات كأرباح خلال الفترة من 2015 إلى 2019. وبالتالي يمكن أن تؤدي مخصصات الاسترداد إلى مستويات كبيرة لاسترداد الأصول إذا تم دمجها مع العقوبات والتعاون الدولي.
- يجب ألا تتضمن أي خطة – تحت أي ظرف من الظروف – اقتطاعات قسرية لأموال المودعين أو اي عملية تنطوي على بيع أصول الدولة، مثل احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي والذهب.
ب. استعادة ثقة الأسواق
أولاً. إصلاح وتوضيح حوكمة السياسة النقدية:
أدى قانون (مدوّنة) النقد والائتمان (1963) وميزانية 2022 وتعميمات البنك المركزي المتعددة التي تحكم أسعار الفائدة حالياً إلى غياب الوضوح فيما يتعلق بمن لديه الصلاحية لإجراء التغييرات المطلوبة على نظام سعر الصرف.
ومن أجل الشفافية وحسن سير عملية الإصلاح، فإنّه يتوجّب على الحكومة والبرلمان أن يتدخّلا سريعاً من خلال الضوابط والتوازنات اللازمة، لا سيما بالنظر إلى رحيل حاكم مصرف لبنان الحالي رياض سلامة ودخول قيادة جديدة للبنك المركزي للمرة الأولى منذ 30 عاماً، إذ أن حوكمة السياسة النقدية بشكل عام ومن حيث عمليات البنك المركزي بحاجة ماسة إلى الإصلاح.
على البنك المركزي أن يعتمدَ أفضل الممارسات كي تكون هذه العمليّة مجزية، وهذا يتطلب منه أن يقطع مشاركته في تمويل عجز موازنة الحكومة ومؤسسة كهرباء لبنان. إذ يعد تعزيز إشراف البنك المركزي أمراً بالغ الأهمية نظراً للوضع الحالي للعمليات التي يتم فيها اتخاذ القرارات بطريقة شديدة المركزية وغير شفافة، كما يجب إصلاح المجلس المركزي لمصرف لبنان بهدف إلغاء التمثيل الحكومي وأخيراً يجب إعادة تخصيص المقاعد التي يشغلها حالياً المديرون العامون لوزارتي المالية والاقتصاد لمدراء مستقلين غير تنفيذيين.
يفتقر البنك المركزي في الوقت الحاضر إلى الضوابط والتوازنات الكافية التي تنظم عمله، فعلى سبيل المثال تتعرض الهيئة المصرفية العليا (HBC) وهي الهيئة القضائية في البنك المركزي للخطر بسبب تضارب المصالح. ويرأسها محافظ البنك المركزي في الوقت الحالي رياض سلامة، الذي يتمتع بحق النقض (الفيتو) على قرارات الهيئة، الذي يرأس في الوقت عينه هيئتين أخريين للرقابة المصرفية، هما: هيئة التحقيقات الخاصة وهيئة أسواق المال.
تحظر لجنة بازل للرقابة المصرفية (BCBS) ازدواجية الأدوار في المؤسسات المالية، ويُنظر إليها على أنها واحدة من العوامل التي ساهمت في الأزمة المالية لعام 2008. إذ أنّ ازدواجية الأدوار هذه هي حالة من التلاعب المنهجي حيث يعمل رئيس مجلس الإدارة أيضاً كرئيس تنفيذي للمؤسسة، وعليه يجب على الحكومة اللبنانية الالتزام بمبادئ لجنة بازل لضمان أن الحكم المستقبلي للبنك المركزي سيكونُ خالياً من النفوذ السياسي وتضارب المصالح.14
علاوة على ذلك فإن ميزانيةَ ورواتب الهيئات الإشرافيّة على البنك المركزي يتم تحديدها حالياً من قبل البنك نفسه. وكي يتماشى هذا مع عمليّة إصلاح الخدمة المدنيّة الأوسع، فعلى البنك أن يتنحّى عن هذه المهمّة ويجدر استبداله بهيئة مستقلة تقوم بدورها بتحديد كلّ ذلك.15
ثانياً. اعتماد الانضباط المالي وزيادة الإيرادات الضريبية:
يعد التحكم في حجم الأموال المتداولة بغاية الأهمية، إذ من شأنه إدراةُ توقعات التضخم وتقليل تقلبات أسعار الصرف وزيادة الثقة في الليرة. وكي يكون هذا العمل يسيراً فإنّه يتوجّب على البنك المركزي إنهاء سياسته المتمثلة في تمويل الإنفاق الحكومي من خلال النقد، ويتمثّل ذلك في إصدار ميزانيات مسؤولة مالياً في الوقت المناسب وإصلاحات مالية لزيادة الإيرادات الضريبية.
إنّ فرض الضرائب التصاعدية وتحسين أنظمة تحصيل الضرائب هما من بين آخر المصادر المتبقية للإيرادات المحتملة للحكومة. ومن المرجح أن تعارض المصالح الراسخة الإصلاحات التقدمية، مثل زيادة ضريبة الدخل الشخصي من الدرجة الأولى وإصلاح السرية المصرفية (والتي يُقدر أنها كلفت الحكومة 5 مليارات دولار في عام 2015 بسبب التهرب الضريبي المحلي) إذ أنّها ستتطلّب أيضاً دعماً سياسياً واسع النطاق، وعلى هذا أن يتمّ بالتزامن مع إعادة هيكلة النظام المالي لتقليل نسبة المعاملات التي تتم نقدًا لتسهيل تحصيل الضرائب.
ج. تعويم مُدار للّيرة:
من أجل تحقيقٍ فعليّ للإصلاح، ومن أجل أن تكون الليرة في وضعٍ يمكّنها من الدخول في تعويمٍ مدار، فإن تطبيق توصيات السياسة الموضّحة أعلاه، يبدو الحلّ الأمثل في هذا السياق. وهذا ينطبق على البنك المركزي أيضاً وواجبه الأساسي في الحفاظ على نهجٍ متحفظٍ لبدء التدخلات في سوق العملات، عن طريق تدخله لحماية سعر الصرف من التقلب الشديد مع احتياطياته المتبقّية من العملات الأجنبية، والتي يدعمها صندوق النّقد الدّولي، في حالةٍ وحيدةٍ هي التأكّد من استقرار الليرة عند مستوى معقول ومستدامٍ تحكمهُ زيادة الثّقة وقوى السوق، وحسب.
من أجل تحقيقٍ عادلٍ وشفاف وواضح، تماشياً مع إعادة الهيكلة الناجحة للنظام المالي وتنفيذ إصلاحات استعادة الثقة، على صيرفة أولاً أن تنتقل من كونها أداةً للتدخل في أسواق الصرف الأجنبي إلى غرفة مقاصّة آليّة للبنك المركزي، كما يجب إجراء معاملات الصرف الأجنبي في المقام الأول بين البنوك والجهات الفاعلة المالية وليس مع البنك المركزي نفسه؛ كما أنّه من الضروري جداً في هذه الحالة أن يتمّ توحيدُ أسعار الصرف حول سعر منصّة صيرفة لجميع معاملات العملات الأجنبيّة، وينطوي ذلك على تحصيل الضرائب ورسوم الاستيراد وتحويلات العملة التي تتمّ عند الصرافين.