ملخص تنفيذي
لم تفشل الحكومة اللّبنانيّة والبنك المركزي عمداً في تنفيذ نظام متماسك لسعر الصرف في أعقاب الأزمة الماليّة وحسب، بل اختارا إدخال أسعار صرف عديدة ومربكة في المعاملات المختلفة كذلك، وفي الوقت الذي ترك فيه رياض سلامة منصبه في نهاية تموز، تولّى نائبه وسيم منصوري منصب حاكم المصرف بالإنابة، إذ قدّم هو وزملاؤه خطة لتعويم الليرة بحلول أيلول إلى جانب حزمة من الإصلاحات المطلوبة بشدة.
وستكون الخطة – إذا تم تنفيذها بشكل مسؤول – خروجاً حاداً عن نمط تعامل الحكومة والبنك المركزي مع الأزمة حتى الآن. فبعد تكليف سلامة ووزارة المالية بحل انهيار القطاع المصرفي وتهيئة بيئة نقدية مستقرة، عمدَ كلّ منهما إلى تعميم العديد من أسعار الصرف والتي تزايدت مع انهيار القيمة السوقية الموازية لليرة، مما خلق فرصاً للمراجحة المالية وعدم كفاءة السوق عند كل منعطف.
وفي الوقت نفسه، طبع البنك المركزي المزيد من الليرات لتمويل الدولة غير القادرة على تحصيل الضرائب أو اقتراض الأموال. ومع تراجع قيمة الليرة أكثر فأكثر، توسّعت الفجوة في القيمة المحصّلة بين سعر الفائدة المنخفض والقيمة السوقية للدولار على نطاق أوسع، مما أجبر المودعين على إجراء تخفيضات أكبر وأكبر على ودائعهم التي فرضتها تعميمات البنك المركزي غير القانونية، بغرض اقتطاع التزامات القطاع المصرفي بالدولار.
في ظلّ هذه السياسات، فإنّه من الواجب على الحكومة والبنك المركزي التوقف عن طباعة أوراق ليرةٍ جديدة لتمويل عجز ميزانية الحكومة، وتشريع قانون لضبط رأس المال، وحلّ الأزمة المصرفية وتعويم اللّيرة دون التسبب بمزيد من الشقاء المالي لعموم اللبنانيين (الذين عانوا أكثر من غيرهم بسبب سياسات رياض سلامة الضارّة والعشوائية) – مع معرفتنا مسبقاََ أن القولَ أسهل من الفعل.
كما أنّه من الأهمية القصوى اليوم إعادة بناء ثقة الأسواق من خلال إصلاح دور البنك المركزي وحوكمته، وتشديد السياسة المالية. ولتحقيق هذه الغاية، يجب إقرار ميزانيتي 2023 و2024 بشكل عاجل – الأمر الذي ثبتت صعوبته في بيئة الحكم المليئة بالتحديات في لبنان.
ولأنّ إنشاءَ منصّة شفافة وفعّالة للصرف الأجنبي هو المفتاح الرئيس لتعويم الليرة بشكلٍ مدروس، فإنّ على الدولة أن ترحّب بقرار حلّ منصّة صيرفة، لأنها، مثل مجمل مكونات الدولة اللبنانية، سرعان ما أصبحت أداة أخرى للسطو والاستيلاء على الدولة في وضح النهار، حيث سبقَ وأن قام البنك المركزي بدعم تكاليف النقد الأجنبي للمجموعات المفضلة، مما أدى إلى توليد 2.5 مليار دولار من أرباح المراجحة المالية في هذه العملية.
خروج سلامة، ودخول منصوري
أنهى رياض سلامة، رئيس البنك المركزي – سيئ السمعة – ومحبوب النخبة السياسية، فترة ولايته في نهاية تموز 2023. وسبقت فترة من عدم اليقين رحيله هذا، حيث سبقَ وأن هدد نواب سلامة الأربعة بالاستقالة إذا ألقيت مسؤوليات حاكم المصرف عليهم، مما عزز التكهنات بأنه قد يستمر في ولايته.
وعلى الرغم من عدم رغبته بدايةً في تولي المسؤولية، أصبح النائب الأول لسلامة، وسيم منصوري، حاكماً للمصرف المركزي بالإنابة (الوكالة). وبعد تعيينه، أشار منصوري وزملاؤه (نواب الحاكم) إلى اعتزامهم الانتقال إلى سعر صرف مرن – وهو خروج عن موقف سلامة المناهض للإصلاح – بحلول أيلول الجاري للمساعدة في حلّ الأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان.
ترافق تعيين منصوري مع تفاقم الأزمة المالية في لبنان وتفشّي الفوضى العارمة في المصرف المركزي، إذ إنّ الأزمة المالية التي ما يزال يعاني منها اللبنانيون، والناجمة عن سنوات من عدم الانضباط المالي، واعتماد نموذج اقتصادي منحرف يستند على تدفقات العملات الأجنبية، فضلاً عن التعاميم غير القانونية لمصرف لبنان، وانعدام الثقة في الليرة، قد أدّت جميعها – بطريقة أو بأخرى – إلى تباعد طويل وحاد بين الطرفين: سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية.
وفي الوقت الذي كان من الممكن أن يتم فيه استدراك هذه الأزمة والتخفيف من حدتها، أدى استخدام سلامة لسياسة سعر الصرف المجزّأة، أي: وضع أسعار مختلفة للمعاملات المختلفة، منذ العام 2019 إلى حدوث تشوهات في السوق، وتحفيز الدولرة وتراجع الدورات المالية الرسمية. كما أدت تعميمات البنك المركزي إلى توزيع غير عادل للخسائر الناجمة عن انهيار القطاع المصرفي على المودعين، مما ساهم في انتشار الفقر واتساع فجوة التفاوت بشكل كبير.
في هذا الجوّ المتخم بالمشاكل والأزمات، اقترحت الخطة التي قدمها المنصوري وزملاؤه نواب حاكم المصرف في أواخر تموز (يوليو) 2023، تعويماً مُداراً لليرة بحيث يعكس سعر الصرف القيمة “الحقيقية” للعملة. وعلى مدى ستة أشهر، قدم النواب سلسلة من الإصلاحات بما في ذلك إصلاحات مالية كبيرة، كما عملوا على إصدار قوانين لإعادة بناء الثقة في العملة، وإنشاء منصة جديدة للصرف الأجنبي، وأكّدوا جميعهم (نوّاب حاكم المصرف) أن الوقت قد صار مواتياً لتعويم الليرة بسبب عاملين اثنين: غرق البلاد بالدولار بفضل توافد السياح وانخفاض الليرة النقدية المتداولة.
إنّ هذه الخطة – التي لم توافق عليها الحكومة بعد – تمثّل خروجاً واعداً عن عملية صنع القرار المخصصة والمركزية التي كان سلامة يتبعها، إلّا أنّ الإصلاحات المناسبة بحاجة إلى تفادي أن يكون للمرحلة الانتقالية عواقب وخيمة على الاقتصاد، لأنه في حال حدوث ذلك، فإن الطبقات الاجتماعية التي عانت من سوء إدارة الحكومة المتعمد للأزمة هي نفسها من سيعاني أكثر من غيره، خاصة في سياق تآكل شبكات الأمان الاجتماعي.
دفاتر حسابات غير متوازنة
أوضح منصوري لدى توليه مسؤولياته الجديدة أن على البنك المركزي التوقف عن تمويل الحكومة خارج الأطر القانونية، كما حذر من أنه إذا استمرت الحكومة في التراجع عن خزائن مصرف لبنان، فإن احتياطياتها من العملة الصعبة سوف تستنزف في نهاية المطاف، وهو ما لا ليس مقبولاً نظراً لتأزم الوضع وصعوبته.
كما أكد أن الموازنة المقرّرة للدولة لسنة 2023 – والتي طال انتظارها – ما تزال بحاجة إلى تشريع قانوني، ومن المفترض أن يتم إقراره في كانون الثاني من العام القادم، ويجب أن يتضمن هذا التشريع تعديلات لتعزيز النظام المالي، بما في ذلك قوانين الإصلاح التقدمي، مثل قانون ضبط رأس المال، وفقاً لحاكم المصرف الجديد. إذ أن كلّ هذه الاصلاحات تتطلب دعم الطبقة السياسية (التي استخدمت الدولة لفترة طويلة كوسيلة للمحسوبية) بهدف التمكن من تحقيق الخطة المقترحة التي ستسمح للحكومة باقتراض ما يصل إلى 1.2 مليار دولار على مدى 6 أشهر، والتي لا يمكن أن تتمّ إلّا بعد أن تحصل الموازنة على التشريع المطلوب.
والجدير بالذكر أن دفاتر الحكومة غير المتوازنة قد كانت العامل الرئيس وراء انهيار قيمة الليرة، إذ ترافق ذلك مع عدم قدرة وزارة الخزانة المالية على إصدار سندات جديدة، واعتمادها عوضاً من ذلك على البنك المركزي الذي قام بطباعة ليرة جديدة لتمويل عجز ميزانيتها، مما ساهم في ارتفاع عرض النقد M1 من 12.7 تريليون ليرة في تشرين الأول 2019 إلى 135 تريليون ليرة في تموز 2023، أي بزيادة قدرها 650%.
إنّ تضخم المعروض النقدي الحاصل جرّاء هذه الممارسة لم يؤدِّ إلى انخفاض طويل وشديد في قيمة الليرة في السوق الموازية، وإلى استنزاف المدخرات والرواتب المقومة بالليرة من عامة الناس وتوسيع الفجوة بين تكلفة السلع والمعدل الذي يمكن للمودعين من خلاله سحب أموالهم المحتجزة وحسب بل خدم كذلك النخبة الحاكمة من خلال تسهيله لها لشطب التزامات البنوك التجارية تجاه المودعين.
لا ضرائب؟ لا مشكلة
لقد اتسمت ميزانية الحكومة اللبنانية على مدى عقود بفرط الإنفاق وشحّ النتائج، مما أدى إلى حصول لبنان على ثالث أسوأ نسبة دينٍ في الناتج المحلي الإجمالي في العالم بنسبة 171٪. ومن غير المستغرب أن تكون خدمة الديون في السنوات الأخيرة من بين أكبر بنود الميزانية، حيث مثلت 32% في عام 2018، إلى جانب الرواتب الحكومية وإعانات الدعم لمنتجي الطاقة العامة – الذي كان أداؤهما ضعيفاً إلى حدّ مؤسف مقارنة بتكلفتيهما الكبيرة.
والأمر المثير للاهتمام هنا، هو أن عائدات الضرائب الحكومية قد كانت تعادل 7.81 مليار دولار قبل الأزمة، أو ما يقرب من 15% إلى 16% من الناتج المحلي الإجمالي ـ وهي نسبة أقل كثيراً من الإيرادات الضريبية بالنسبة إلى النشاط الاقتصادي، مقارنة بالمغرب أو تونس، اللذان يعتبران أكثر فقراً مع المقارنة بلبنان – إلّا أنها انهارت (الإيرادات الضريبية) بعد الأزمة في لبنان بنسبة 86% أي ما يعادل 1.13 مليار دولار.
إلّا أن الدولة لم تدخل أيّ تعديلٍ في سياساتها الضريبية، إذ لا تزال السياسة الضريبية (في لبنان) تتميز بالاعتماد على الضرائب غير المباشرة، وضعف الإيرادات من تدفقات الضرائب التصاعدية، وتوافر الثغرات الوفيرة للأغنياء لتجنب الضرائب، مما يضع عبء الضرائب بشكل غير متناسب على عاتق الطبقات المتوسطة والدنيا.
ومع انهيار القطاع المصرفي أصبح تحصيل الضرائب أكثر صعوبة من ذي قبل، كما أن قواعدها ولوائحها (السياسة الضريبية) بالغة التعقيد تدفع نسبة متزايدة من المعاملات إلى النقد، مما يجعل التهرب الضريبي أسهل وأكثر احتمالاً.