منذ نشأة الكيان الإسرائيلي في عام 1948، واجه لبنان عدواناً إسرائيلياً مستمراً عبر سلسلة من الاعتداءات والانتهاكات والحروب والاجتياحات التي أرهقت شعبه واستهدفت سيادته وأمنه، منذ ذلك التاريخ ولبنان في حالة حرب مع إسرائيل معلقة على اتفاقية الهدنة (آذار 1949) التي لم تردع العدو عن اعتداءاته مراراً وتكراراً، مخلفةً دماراً واسعاً في البنية التحتية وآلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء، ورغم هذه المعاناة، تمكن اللبنانيون بفضل مقاومتهم التراكمية منذ الشهيد محمد زغيب النقيب في الجيش اللبناني من تحرير أرضهم في عام 2000، في واحدة من أبرز محطات النضال الوطني. إلا أنه رغم تحرير الأرض في عام 2000 انهارت الدولة في عام 2020 انهياراً دراماتيكياً، ما وضع اللبنانيين أمام سؤالين جوهريين: ما الأسباب الكامنة وراء هذا الانهيار؟ وما سبل بناء الدولة العصرية العادلة والقادرة التي يستحقها الشعب اللبناني؟
عبّر أغلب اللبنانيين في ساحات 17 تشرين – رغم الانقسام العمودي الحاصل بينهم – عن رأيهم بأن السببين الحيويّين وراء الانهيار الكبير للدولة ومؤسساتها ونقدها واقتصادها وقطاعاتها ومرافقها، هما، بقاء السلاح بعد عام 2000 خارج إطار الدولة وارتباطه بمحاور إقليمية لا تضع المصلحة اللبنانية فوق كل اعتبار، والفساد المستشري بين مكونات المنظومة الحاكمة التي نهبت الدولة وهدمت مؤسساتها من خلال نظامها الطائفي التحاصصي الزبائني.
ولأن موضوع الفساد قد استوفى حقه في النقاش تشخيصاً ومسببات وأدوات، ووُضعت خريطة طريق جدية لمكافحته إبان انتفاضة 17 تشرين استنسخت عناوينها الأساسية في خطاب القسم الذي أداه الرئيس جوزف عون إثر انتخابه رئيساً للجمهورية، سأخصّص النقاش في هذا المقال حول أفق تعزيز سيادة الدولة اللبنانية عبر القانون والعدالة الدولية في مقاربة تسمح بوضع مشكلة السلاح خارج الدولة قيد الحل.
العدالة الدولية: فرصة للبنان لتعزيز سيادة القانون
إن بقاء السلاح خارج الدولة قد أفضى إلى تزايد تأثير القوى الخارجية على القرار اللبناني، ما أدى إلى اختلال التوازن الداخلي وأثر سلباً على قدرة الدولة على ترسيخ سيادتها على أراضيها ومؤسساتها. سلاح خارج إطار الدولة لا يمثل تهديداً للأمن الداخلي فحسب، بل يسهم في تعزيز حالة الإفلات من المحاسبة والعقاب، ويشكل عقبة رئيسية أمام بناء دولة القانون والمؤسسات التي يطمح إليها اللبنانيون.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الحلول التقليدية التي تعتمد على التفاوض الداخلي أو محاولات فرض سياسات جزئية لم تؤتِ ثمارها. ففي غياب المساءلة والمحاسبة على المستويين المحلي والدولي، تبقى الفرص محدودة أمام لبنان لتحقيق العدالة والسيادة الكاملة. من هنا يأتي دور المحكمة الجنائية الدولية كأداة حيوية تُمكّن لبنان من حماية حقوق مواطنيه من الاعتداءات المستمرة التي تستهدفه داخلياً وخارجياً، وتوفر إطاراً قانونياً دولياً يمكن أن يكون بديلاً من القوى المسلحة التي تسعى إلى فرض أجنداتها السياسية الخاصة على حساب مصلحة لبنان.
حزب الله: العقبة الرئيسية أمام العدالة الدولية
رغم أهمية الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في تحقيق العدالة، ورغم الفاعلية والحيوية التي تثبتت بصدور مذكرات توقيف غيابية بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالنت، يستمر “حزب الله” بعرقلة انضمام لبنان إلى نظام روما. يعارض “حزب الله” الانضمام بحجة التأثير الغربي على المحكمة أو الخوف من فتح التحقيقات بشأن أنشطته، ما يعطل أي مسعى نحو محاسبة الجرائم المرتكبة بحق لبنان. هذا الموقف يتناقض مع موقف الحزب من الانتهاكات الإسرائيلية، حيث يطالب بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم بينما يمنع لبنان من الانضمام إلى نظام يفعل دور محكمة قادرة على تحقيق هذا الهدف.
في أبريل 2024، عطّل الحزب محاولات تقديم إعلان يمنح المحكمة الجنائية الدولية اختصاصاً بالتحقيق في الجرائم المرتكبة خلال النزاع مع إسرائيل، ما يعكس ازدواجية واضحة في المواقف. في الوقت الذي يدين فيه الحزب الانتهاكات الإسرائيلية، فإنه يعرقل الخطوات التي قد تؤدي إلى محاسبة هؤلاء المعتدين، وهو ما يقوّض مصداقيته ويعطل مسار العدالة في لبنان.
الحلول الممكنة لتجاوز العراقيل السياسية
رغم ذلك، هناك خيارات عملية يمكن أن يتبعها لبنان لتجاوز هذه العراقيل السياسية. بدايةً، يمكن للحكومة اللبنانية المقبلة التي سيرأسها رئيس محكمة العدل الدولية السابق الدكتور نواف سلام، أن تتخذ خطوات حاسمة للتصديق على نظام روما الأساسي، ما يجعل لبنان عضواً رسمياً في المحكمة الجنائية الدولية. هذه الخطوة تمثل تعزيزاً لسيادة لبنان في مواجهة إسرائيل، ويمكن أن توفر له فرصة أكبر لمحاسبة المعتدين وحماية حقوق مواطنيه.
وإذا تعذر ذلك، يمكن للبنان اللجوء إلى تقديم إعلان بموجب المادة 12(3) من نظام روما الأساسي، الذي يمنح المحكمة الجنائية الدولية اختصاصاً مؤقتاً للتحقيق في جرائم معينة، مثل تلك المرتكبة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. هذا الخيار يمكن أن يشكل خطوة أولى، ما يسمح للبنان بالبدء بمحاسبة الجرائم دون التزام كامل، ويقلل من المخاوف السياسية المتعلقة بالتحقيقات الداخلية.
العدالة كضرورة وطنية لإنقاذ لبنان
إن العدالة ليست خياراً بل ضرورة وطنية. في ضوء الأزمات المستمرة، يجب على القوى السياسية اللبنانية أن تدرك أن المصلحة الوطنية تقتضي الالتزام بالعدالة الدولية، والتي تمثل خط الدفاع الجديّ ضد ثقافة الإفلات من العقاب التي أسهمت في تفاقم الأزمات الداخلية. تاريخ لبنان في تأسيس الأمم المتحدة ودوره البارز في تعزيز حقوق الإنسان يفرض عليه اليوم اتخاذ خطوات حاسمة للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما يعزز مكانته الدولية.
اليوم، وفي مسار مختلف إلا أنه يؤكد فعالية دور المؤسسات الدولية القانونية في المحاسبة، تمكنت جنوب أفريقيا من تقديم دعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة العدل الدولية في خطوة تاريخية لحماية حقوق الفلسطينيين، ما يعكس قوة العدالة الدولية وقدرتها على ملاحقة الجرائم بغضّ النظر عن حجم المعتدي. إن لبنان بحاجة إلى أن يتخذ نفس الخطوات لحماية حقوق مواطنيه من التعديات المستمرة، مع وضع سيادة القانون في المقام الأول.
خاتمة
إن الوقت حان للقوى السياسية اللبنانية، بما فيها “حزب الله”، للاختيار بين مصلحة لبنان العليا ومصالحها الفئوية. العدالة ليست معركة فردية بل هي مسؤولية جماعية تستدعي اتخاذ قرارات حاسمة من أجل ضمان مستقبل أفضل للبنان. إن كان لبنان يسعى إلى الحفاظ على سيادته وتعزيز حقوق مواطنيه، فإن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية هو خيار جديّ. الكرة الآن في ملعبهم، والأمل معقود على الرئيسين عون وسلام، والشعب اللبناني ينتظر إجابة واضحة: فهل ستضعون مصلحة لبنان فوق المصالح السياسية؟
الآراء الواردة في هذه المقالة تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تعكس بالضرورة آراء فريق التحرير في معهد السياسات البديلة.