معالجة أزمة الكهرباء في لبنان ممكنة، لكن منذ إقرار قانون إنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء – قبل عشرين عاماً – كان للحكومات والوزراء المتعاقبين أولويات مختلفة. اليوم، يحمل وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض شعلة التأجيل.
بدلاً من الدفع بالإصلاحات الضرورية والتقنية القابلة للتحقيق، كانت الأولوية القصوى لفياض منذ توليه المنصب عام 2021، الحفاظ على المصالح السياسية المتجذرة داخل مؤسسة كهرباء لبنان.
والنتيجة؟ عدم قدرة المؤسسة على إضاءة “لمبة” أكثر من بضع ساعات في أي من الأحياء في المناطق اللبنانية كافة. فقد اضطر اللبنانيون نتيجة لذلك للاعتماد على كارتل المولدات الخاصة غير المرخصة، والتي سيطرت على سوق الطاقة، وجعلت الوصول إلى إصلاحات في قطاع الطاقة أكثر صعوبة.
للإنصاف، المشكلة تسبق عهد فياض، والمؤسسة لم تكن يوماً مثالاً للمؤسسة الناجحة والفعالة. لكن منذ بداية الأزمة المالية، شهد لبنان انهياراً شبه تام للمؤسسة الوطنية التي تزود المواطنين بالكهرباء، إذ إن حوالي 90 في المائة من الكهرباء يوفرها أصحاب المولدات أو ما يصطلح على تسميتهم بـ”مافيا المولدات“، مما تسبب بتأثيرات وتداعيات كبيرة على المواطنين على الصعيد المعيشي والصحي.
أعطى البنك الدولي في عام 2020 بصيص أمل لنهوض قطاع الطاقة من خلال تمويل اتفاقية للغاز والكهرباء قام بترتيبها بين مصر والأردن ولبنان، وكانت شروط البنك الدولي لتمويل هذه الاتفاقية إجراء تدقيق مستقل للـمؤسسة كهرباء لبنان وإنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء. ولكن لم يتم تنفيذ أياً من هذين الشرطين في عهد وزير الطاقة السابق ريمون غجر، ويبدو أن المسار نفسه يسلك طريقه في عهد فياض. ينتظر التدقيق المستقل في مؤسسة كهرباء لبنان موافقة المجلس النيابي على الرغم من فوز شركة تدقيق محلية بالمناقصة منذ ما يقارب العام.
أما الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء فهي هيئة نص على إنشائها قانون يعود للعام 2002، ويتشكّل مجلسها من خمسة أعضاء يملك الصلاحية بتحديد تعرفة الكهرباء، والإشراف على خصخصة القطاع. وعلى الرغم من وجود مشاكل في تأسيسها، منها سلطة مجلس الوزراء في تحديد رواتب أعضاء المجلس بالتشاور مع وزير الطاقة، إلا أن الهيئة توفر بعض التنظيم للقطاع.
ومع ذلك، تقاعست الإدارات المتعاقبة على إنشاء الهيئة، وتمكنت وزارة الطاقة من الاستيلاء على صلاحياتها ومهامها خلال عقدين من الزمن عبر سلسلة من التدابير التشريعية.
تصاعد التنافس بين مختلف القوى السياسية لضمان أكبر قدر ممكن من التأثير على مجلس الهيئة على تشكيلة المجلس النهائية لخدمة المصالح السياسية مع زيادة دعوات إنشاء الهيئة خلال العقد الماضي، وتضمن ذلك جهود كبيرة بذلها التيار الوطني الحر لتعيين ستة أعضاء في الهيئة بدلاً من خمسة، لتشبه هيكلية الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، هيئة إدارة قطاع البترول، والتي ينظر إليها على أنها هيئة غير فعالة.
دعم فياض الذي تم تسميته من قبل التيار الوطني الحر لوزارة الطاقة التعديلات على الهيئة في الخطة المعدلة للكهرباء، وكان من بين هذه التعديلات وجوب حصول أغلبية مطلقة لأي قرار صادر عن مجلس إدارة الهيئة، وفي حال التعادل يصبح صوت رئيس مجلس إدارة الهيئة صوتاً مرجحاً. أما في حال حصول خلاف بين الهيئة والوزير يكون مجلس الوزراء حكماً بينهما، وتشكل التعديلات المقترحة حواجز تمنع الهيئة من ممارسة صلاحياتها وتطبيق قراراتها، ومن بين التعديلات القانونية التي اقترحها التيار الوطني الحر منذ العام 2012 على الرغم من عدم تطبيقها، كان مقترح تحويل الهيئة إلى هيئة استشارية فقط.
في إطار الجهود التي بذلت من أجل إرضاء معايير البنك الدولي، أصدر وزير الطاقة والمياه وليد فياض بياناً في آذار (مارس) 2022 يعدُ فيه “بترتيب انتقال الصلاحيات إلى هيئة فاعلة بشكل كامل بنهاية العام 2023“، لكن هذا الموعد يبدو أكثر فأكثر غير واقعي.
كان من المفترض أن تستغرق عملية تقديم الطلبات لعضوية الهيئة، وموافقة مجلس الوزراء عليها ثمانية أسابيع بعد الإعلان عن تفعيل تقديم الطلبات في كانون الأول (ديسمبر) 2022، وذلك بحسب الجدول الزمني الذي أعلنت عنه الوزارة، وعليه وبناء على مسار الأمور يبدو أن ذلك سيستغرق خمسة أضعاف الوقت المحدد.
في خطة كانون الأول (ديسمبر) 2022، أكدت الوزارة أن “الإنصاف والموضوعية وحسن سير العمل” سيكون حجر الأساس لعملية تشكيل الهيئة، لكن بين سطور المعايير، هناك مؤهلات غير معلنة للحصول على الوظيفة، وهي تأمين دعم سياسي من النخبة الحاكمة، إذ تشكل تعيينات 2020 لمجلس إدارة مؤسسة كهرباء، والتي وصفت بأنها توزيع طائفي، نموذجاً للولاء السياسي الطائفي الذي يأتي كأولوية على حساب الكفاءة. حيث قام الوزير بتمديد فترة التقديم مرتين، مشيراً إلى عدم وجود متقدمين مؤهلين، وتشير المعايير الوظيفية الشاملة بشكل واضح إلى أهمية الخبرة والمهارة في اعتبار وزارة الطاقة لمرشحي مجلس الهيئة. بالتأكيد، إن إنشاء هيئة تنظيمية مستعجلة، وغير مؤهلة سيؤدي إلى تعميق أزمات مؤسسة كهرباء لبنان وعدم فاعليتها.
في حديث سابق لموقع “البديل”، ادعى فياض أنه بمجرد تفعيل عملية التقديم لملئ الشغور في مقاعد مجلس إدارة الهيئة الناظمة للكهرباء، فإنه يحقق بذلك شرط البنك الدولي، لكن يبدو أن البنك لا يتفق مع هذا الادعاء، حيث أفاد خبراء في قطاع الكهرباء لموقع “البديل” أن المؤسسة الدولية تنظر في التراجع عن عملية التمويل، معتبرة أن المخاطر المحيطة بها كبيرة جداً. وبالفعل يمكن النظر إلى الإجراء الذي قام به فياض على أنه حبة مسكنات لمريض يعاني من داء السرطان، وفشل في تطبيق إصلاحات جوهرية ومستدامة. زيادة على ذلك، نجح فياض في الحصول على سلفة خزينة بقيمة 116 مليون في كانون الثاني (يناير) 2023 لضمان استمرارية تزويد الطاقة من قبل مؤسسة كهرباء لبنان. واعتبر فياض حينها أن ذلك مجرد حل مؤقت في مسعاه لتطبيق خطة (تعتريها الكثير من الشوائب) بهدف تأمين أربع ساعات تغذية يومياً، وإعادة شيء من الانتظام إلى حسابات المؤسسة.
تضمن ذلك زيادة في تعرفة الكهرباء المقدمة من الدولة في نهاية عام 2022. وعلى الرغم من تأكيد فياض في مقابلة سابقة مع موقع “البديل” بأن زيادة التعرفة ستؤدي الى “تحقيق استعادة التكلفة منذ اليوم الأول”، وعاد فياض للاعتراف فيما بعد بفشل خطته. بالنسبة لصندوق النقد الدولي، على مؤسسة كهرباء لبنان ومزودي الطاقة التابعين للدولة تأمين استدامة في التغذية قبل رفع التعرفة، وفي حال إجراء تدقيق طال انتظاره لمؤسسة كهرباء لبنان من المرجح اكتشاف ثغرات عديدة في خطة الوزير، وتحديداً قدرته على تحصيل الفواتير من المستخدمين. فقد كانت الإصلاحات المؤسساتية التي تشمل تحديثات في نماذج الحوكمة والملكية، من شأنها أن تمكّن مزودي الكهرباء من تأمين التوازن، لكن ذلك كان سيؤدي إلى تقليص كبير لسلطة الوزير على القطاع.
بعد عدم تحقيق شروط خطة البنك الدولي، وبعد فشل مبادرته الإصلاحية الخاصة، سعى فياض للإعلان عن نجاح ما من خلال الإعلان عن سلسلة من اتفاقيات الوقود مع العراق في آذار (مارس) 2023، حيث تهدف الصفقة إلى دعم قطاع الكهرباء في البلاد من خلال زيادة فورية في توريد الوقود لعدد قليل من محطات الطاقة، وعلى عكس متطلبات البنك الدولي، تجاوزت الصفقة الحاجة لإجراء إصلاحات هيكلية للمشكلة النظامية للقطاع، والتي أدت إلى انهياره من الأساس.
وفي جميع الحالات، كانت زيادة التعرفة التي اقترحها فياض إضافة إلى عقد الحصول على الوقود العراقي سيخضعان لمراقبة الهيئة الناظمة للكهرباء في حال تشكيلها وتفعيلها، وفي غيابها أنجز الأمرين دون أي مراقبة.
وعليه سيبقى اللبنانيون في الظلام في حال عدم تشكيل هيئة ناظمة وقادرة، ظلام بات اللبنانيون على معرفة جيدة به.