سيول جارفة: لا يقع اللوم على الأمطار فقط

عقود من التوسع العمراني وسوء إدارة النفايات والفيضانات المفاجئة في لبنان.

3 شباط، 2023

اعتاد سكان العاصمة بيروت ومناطق الساحل اللبناني الاستياء من الفيضانات والطرق السريعة، وتسرب مياه أنظمة الصرف الصحي المدمّرة للمنازل خلال الشتاء. 

يمكن توقّع الاستجابة السياسية لهذه الكوارث بقدر ما يمكن توقّع فصل الشتاء: تبادل الاتهامات. في حادثة من سلسلة أحداث تبادل الاتهامات المشابهة، لجأ وزير النقل والأشغال العامة في حكومة تصريف الأعمال علي حمية  إلى منصة تويتر لإلقاء اللوم على “غياب مراقبة السلطات المختصة (البلدياتوزارة الطاقة)” على الفيضانات التي حصلت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي 

يساهم التغيّر المناخي بازدياد الفيضانات المفاجئة في لبنان بتقّلب نمط سقوط الأمطار في لبنان منذ الستينات، حيث تزداد فترات الجفاف المطوّلة التي تسبق هطول أمطار غزيرة، بينما ينخفض هطول الأمطار شهرياً بحسب ملف التغيّر المناخي الذي أصدرته الحكومة الهولندية في عام 2019.  

وفي حين أن التغيّر المناخي مشكلة عالمية تتطلب حلولاً عالمية، إلا أن عوامل محلية تسبب الفيضانات المفاجئة في لبنان، حيثُ إنه “من العمى ألا نعتبر ذلك سياسياً“، وفقاً لما تقول إليسا سافيلي، وهي خبيرة مائية في جامعة أوبسالا بالسويد، وكانت قد عملت على مشاريع مائية في الشرق الأوسط.  

تبنى لتفيض أو لا تبنى أبداً  

قد تؤدي الأمطار الغزيرة إلى فيضانات بحسب التضاريس. لكن يفضح الشتاء العاصف فشل الدولة في لبنان ببناء بنى تحتية متينة. ينتج هذا الإهمال عن عقود من تفضيل بناء الشوارع والجسور على بناء أنظمة الصرف الصحي والأبنية العشوائية في المناطق المهددة بالفيضانات، وعلى ضفاف الأنهار، وكذلك فشل صيانة أنظمة الصرف الصحي الموجودة، وفقاً للخبراء الذين تحدثوا لـ”البديل”، حيث يتجلى ذلك بوضوح بالتمدد العمراني السريع والعشوائي في العاصمة اللبنانية وضواحيها، ووفقاً لسافيلي فإن منطقة برج حمود الواقعة على ضفاف نهر بيروت تعتبر مثالاً حياً، نظراً لتضرر أو عدم عمل 83 في المائة من قنوات ومصافي المياه في المنطقة، مما يؤدي إلى فيضانات متكررة عند هطول الأمطار الغزيرة.  

كما تتكرر الفيضانات المفاجئة في المناطق الساحلية في محافظة كسروان-جبيل، وخاصة في المدن والطرق السريعة التي تصل جبيل بجونيه وزوق مصبح. هذه ليست مصادفة بل يحصل ذلك لأن هذه المناطق الساحلية هي إحدى أكثر المناطق حضرية في البلد، كما يوضح ماريو الصياح، وهو باحث سابق في المجلس الوطني للبحوث العلمية، ويعمل حالياً على التكيّف المدني للتغيّر المناخي. 

بالرغم من الفيضانات السنوية في جونيه، فإن مدير عام الطرقات والمباني في وزارة الأشغال العامة والنقل اللبنانية طانيوس بولس ذكر بأنه لم يسبق في جبيل أن هطلت كمية أمطار من قبل مثل الكمية التي هطلت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. ومضى بولس في حديثه لـ”البديل” مضيفاً أن البنى التحتية في جونيه عادة ما تكون مهيئة للأمطار، لكن الأضرار الناجمة عن الفيضانات المفاجئة في السنوات السابقة تطرح رأياً آخراً 

لم يُحسن تنظيم البنى التحتية بحسب التركيبة السكانية اللبنانية والنمو المتسارع في المناطق الساحلية، فقد تضاعف عدد سكان المدن من 42 في المائة إلى 89 في المائة ما بين عامي 1960 – 2021، لكن سياسات التنظيم المدني في لبنان ما زالت عشوائية وقديمة جداً 

ولعل أهم التشريعات في هذا الخصوص هو القانون رقم 63 في قانون التخطيط العمراني المشرّع لعام 1983. يفرض القانون نظرياً أن تمتلك المراكز الإدارية في الأقضية مخططات رئيسية للتطوير، كما ركّز القانون على تقسيم المناطق وشبكات الشوارع، بيد أن بعض بنوده المتعلقة بالتنظيم المدني أو القروي عطلت، كما تتطلب هذه الخطط موافقة وزارية لتصبح قانونية، لذلك فإن تطبيق القانون ما زال خجولاً 

يملك لبنان اليوم 15 في المائة فقط من مساحة مخططات رئيسية، في حين لم تدخل المساحة المتبقية إطار التنظيم المدني أو الخطط الجزئية لمناطق محددة، أما المخططات التنموية الكثيرة التي لم تحظ على موافقة وزارية فإنها تعتبر مشبوهة قانونياً، كما لا يتضمن القانون أحكام متعلقة بالتوعية حول التغيّر المناخي لإطار التنظيم المدني.  

في ظل غياب وزارة متخصصة تأخذ على عاتقها تنظيم التخطيط العمراني، فإن مؤسسات عديدة هي التي تقوم بهذه المهمة، ومنها البلديات والمديرية العامة للتنظيم المدني ومجلس الإنماء والإعمار. لقد أدى ذلك إلى تنظيم عشوائي قادته أجندات عدة على المستويين المحلي والوطني، وبالرغم من إضافة حقيبة لوزير شؤون الدولة للتخطيط عام 2016، إلا أنه لم تلمس متغيرات كبيرة ولم يشغر المقعد لآخر أربع سنوات.  

لا قيمة للتوضيح الحكومي 

أدى امتلاء المطامر بما يفوق طاقتها في ظل الجمود التشريعي إلى طمر النفايات بطرق لاقانونية مهدت الطريق لأزمة نفايات وطنية. وتم استعادة 20 في المائة فقط من نفايات لبنان حتى العام 2020، أما النسبة المتبقية فتخضع للحرق على الملأ أو للدفن اللاقانوني الذي يزيد من احتمالية الفيضانات المفاجئة، ويحصل كل ذلك بينما تفشل أنظمة الصرف الصحي والممرات المائية الطبيعية بتحمل مياه الأمطار التي تتكدس ثم تتسرب إلى الشوارع والمنازل المأهولة بالسكان 

وتقع على عاتق البلديات مسؤولية التعامل مع “المراحل الأولى” لمعالجة النفايات، والتي تتضمن التقليل من إنتاج النفايات والفرز من المصدر، وفقاً لخطة إدارة النفايات الصادرة عن مجلس الوزراء في عام 2015، ومدّد قانون إدارة النفايات الصلبة الصادر في عام 2018 اللامركزية التي طالت البلديات 

لكن من مسؤوليات وزارة الأشغال العامة والنقل الحفاظ على أنظمة الصرف الصحي نظيفة لتجنّب الفيضانات، بحسب الخبيرة البيئية في ائتلاف إدارة النفايات سمر خليل، والائتلاف هو مجموعة من الجمعيات غير الحكومية والخبراء والناشطين الذين يعملون على الإدارة المستدامة للنفايات. 

سمح التداخل القانوني للأطراف السياسية بتبادل إلقاء اللوم، ولفهم ذلك يكفي أن نقرأ تغريدات وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حمية التي غردها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ويسأل فيها عن أسباب فشل تنظيف البلديات وشركات إدارة النفايات لأنظمة الصرف الصحي المسدودة.  

وصرحت شركة رامكو (Ramco)، وهي إحدى شركات إدارة النفايات في بيانها بالقول: “كنا نتمنى على وزير الأشغال (علي حمية) أن يوجه سؤاله إلينا أو إلى مجلس الإنماء والإعمار أو إلى وزارة البيئة المعنيين مباشرة بالملف لكان حصل على الجواب والحل فوراً، ذلك لو أراد الحصول على الحل”. 

قوبلت الطلبات الرسمية الموجهة للوزارات المركزية حول توضيح سياساتها ومسؤولياتها بالصمت أو المراوغة المقصودة. وقدم النائب إبراهيم منيمنة سلسلة من الأسئلة الشاملةلأعضاء الحكومة اللبنانية” حول سياساتها حيال أسباب وتأثيرات الفيضانات المفاجئة في لبنان، وتضمنت الأسئلة استفسارات عن الخطة العامة التي تتبعها وزارة الأشغال العامة والنقل لخفض الفيضانات المتكررة، وما إذا أجريت دراسات لفهم هذه الظاهرة في المناطق الأكثر عرضة للفيضانات.  

وأضاف منيمنة لـ”بديل أنه لم يتلقَ أي إجابة من الوزراء الذين تواصل معهم، بينما جاءه الرد من مجلس الإنماء والإعمار الذي لم يجيب عن أسئلته بل أرسل “قائمة محطات (معالجة النفايات) تذكر ما إذا كانت تعمل أم لا“.  

في طور البحث عن حلول أفضل 

من المستبعد حل المشاكل المنهجية المسببة للفيضانات المفاجئة سنوياً، كانهيار شبكات الصرف الصحي والتوسّع العمراني العشوائي وإهمال البنى التحتية في ظل الالتباس القضائي حول مسؤولية السياسيين اللبنانيين،  

ومع ذلك، قد تكون نقطة بداية جيدة تبنى على “تحسين تنظيم العمل بين جميع المؤسسات والجهات المعنية خاصة البلديات”، بحسب ما صرح الباحث في المجلس الوطني للبحوث العلمية شادي عبدالله لـ”بديل”. كما سيسهل العملية تأسيس لجنة برلمانية فرعية تعمل على إزالة الإبهام القانوني عن مسؤولية الجهات المعنية بإيقاف الفيضانات المفاجئة، وسيسمح إحياء اللجنة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة، المؤسسة وفق القانون رقم 80 لعام 2018، وبحسب خليل فإن اللجنة غير نشطة في الرقابة التشريعية على إدارة النفايات في الوقت الراهن. 

برغم هجرة الأدمغة التي تلت الأزمة الاقتصادية، ما زالت الحكومة تملك خيار الاحتفاظ بأطر مشاركة الرأي العلمي في عملية تطوير السياسات. قد يكون أهمها المجلس اللبناني الوطني للبحوث العلمية الذي تأسس عام 1995 “لدعم اتخاذ القرارات” بغية خفض أخطار الكوارث الطبيعية، وبحس صياح فإن “المقاربة التشريعية الحالية تتسم بالتفاعل وليس بالفعالية“.  

لقد قدم البنك الدولي قرضاً للبنان بقيمة 200 مليون دولار لتنفيذ مشروع الطرقات والتوظيف في عام 2017، ويتضمن المشروع الذي طبقه مجلس الإنماء والإعمار “إصلاح شبكات الصرف الصحي وصيانة الطرقات“، بحسب مهندس المواصلات ومدير المشروع في مجلس الإنماء والإعمار إلياس حلو، كما ذكر تقرير حالة المشروع أنه سيؤدي إلى “تحسين شبكات الصرف الصحي” على طريق طوله 121 كم ابتداء من يناير (كانون الثاني) لعام 2023.  

لكن تدابير الوقاية من الفيضانات المذكورة في أهداف المشروع تعتبر إجراءات رمادية. يرمز هذا المصطلح الأكاديمي إلى تدابير الوقاية من الفيضانات المذكورة في مشاريع هندسية وإعمارية أخرى، بيد أن مشاريع الوقاية من الفيضانات تساعد على خفض الأضرار الناجمة عن الأمطار الغزيرة، إلا أن تأثيرها يبقى محدوداً إذا لم يتم إدخالها ضمن مشروع محلي أكبر.  

يذكر صياح منافع مشاركةحلول تعتمد على الطبيعة” بتخطيط المنع والاستجابة للفيضانات في لبنان، كما تطرح هذه المقاربة في بحث للبنك الدولي كحل أكثر مرونة وفعالية بتكلفة أقل بدلاً من الاعتماد على التدابير الرمادية وحدها، وسيشمل ذلك المشاريع التي تهدف إلى إدارة واستعادة النظم البيئية باستدامة في لبنان، والتي يمكن أن تستخدم بالتزامن من الحلول الرمادية، كما أوضح صياح أنه هناك إمكانية إقامة حدائق عامة في لبنان. توفر هذه الحدائق نظام تصفية مبني على الزراعة، ويعتمد على مياه العواصف في الشتاء، بينما توفر في بالصيف مكاناً عاماً نادراً للبنانيين.  

ستزداد الفيضانات المفاجئة في لبنان بينما يشير التغيّر المناخي إلى مزيج قاتل من فترات جفاف طويلة وفترات أمطار غزيرة، وسيجبر البلد المنهك على تحمل المزيد من الفيضانات المفاجئة في فصول الشتاء المقبلة طالما تهمل السلطات السياسية تطبيق الحلول اللازمة. 

المواضيع ذات الصلة