يعاني القطاع الصحي اللبناني من حالة يرثى لها، بينما يهاجر الأطباء اللبنانيون بأعداد كبيرة، تاركين العيادات والمستشفيات في مأزق لتلبية حاجة السوق. وبحسب وزارة الصحة اللبنانية، غادر 20 في المائة من الممرضين، و40 في المائة من الأطباء البلد منذ عام 2019، حيثُ تعتبر هذه الهجرة الجماعية إحدى أكبر التحديات التي نشرتها الوزارة في الاستراتيجية الوطنية للقطاع الصحي-رؤية 2030.
في حين أن أزمة الرعاية الصحية كبيرة، فإن نقص الكوادر الطبية ليس فريداً من نوعه في لبنان. في الواقع، تحاول جميع الدول حول العالم تأمين الموارد البشرية بهدف تلبية حاجات المرضى، وهو حل يتطلب تغييراً مبتكراً باستراتيجية التفكير.
على سبيل المثال لا الحصر، شهدت تركيا دخول أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري ما بين عامي 2011-2016 مما شكل ضغطاً هائلاً على القطاع الصحي التركي. إثر ذلك، أسست وزارة الصحة التركية الأنظمة الضرورية لإعادة تدريب وتأهيل الكادر الصحي السوري للعمل في تركيا كحل لمشكلة النزوح، حيث أدى ذلك إلى دمج آلاف الأطباء والممرضين السوريين في القطاع الصحي التركي، وهم يقدمون اليوم خدماتهم للاجئين والشعب التركي.
يستقبل لبنان اليوم مليون ونصف لاجئاً سورياً، وما يقارب النصف مليون لاجئ فلسطيني بإمكانهم أيضاً ملئ النقص في القطاع الصحي عبر السماح للأطباء والممرضين السوريين والفلسطينيين بالعمل.
يبحث “البديل” في هذا التقرير القوانين اللبنانية ووجهات النظر التي تمنع اللاجئين الأطباء من أن يكونوا قادرين قانونياً على تقديم الرعاية الصحية لشعب بأمس الحاجة إليها.
القطاع الصحي في لبنان: هدف مدمر
عُرف لبنان بـ”مستشفى الشرق الأوسط” بفضل المعايير الطبية العالية التي جذبت السياحة الطبية من المنطقة وخارجها قبل الأزمة الاقتصادية في عام 2019، لكن القطاع واجه تحديات عدة، منها ارتفاع النفقات الشخصية والتوزيع غير العادل لموارد القطاع الصحي.
فقد أثّرت الأزمة الاقتصادية على القطاع الصحي اللبناني بشكل كبير منذ العام 2019، حيث تكافح المستشفيات والمراكز الطبية لتأمين المعدات واللوازم الطبية، بينما تدهورت رواتب وحوافز العاملين في القطاع الصحي بعد انخفاض سعر صرف العملة المحلية التي خسرت أكثر من 95 في المائة من قيمتها خلال السنوات الثلاث الماضية.
ودفع الانهيار الاقتصادي الكثير من الأطباء والممرضين اللبنانيين إلى الهجرة بحثاً عن فرص مهنية، وظروف عمل أفضل، بحسب خبير الصحة العامة وعالم الأوبئة جاد خليفة. يقول خليفة لـ”البديل”: “أنا على معرفة شخصية ببعض الأشخاص الذين لا يستطيعون دفع كلفة المواصلات من وإلى المستشفى”، ويتابع مضيفاً “لا نفقد أعداداً فقط، بل أيضاً الأطباء الماهرين، حيث يغادر رؤساء الأقسام والممرضين والأطباء ذوي الخبرة”.
كما صرح رئيس نقابة الأطباء اللبنانيين البروفيسور يوسف بخاش لـ”البديل” بأن 3,500 طبيباً غادروا لبنان منذ بداية الأزمة، مضيفاً “نعاني الآن من مشكلة كبيرة. نحن نحتاج للعديد من المتخصصين كجراحي الأطفال وأطباء التخدير”.
لقد خلق الوضع الاقتصادي حلقة مفرغة، حيث تزداد مهام الطاقم الطبي المتبقي بعد هجرة الأطباء والممرضين مما يصعب جذب المتخصصين للقطاع الصحي، والمحافظة عليهم في البلاد. وفي الوقت ذاته، أدى الانهيار الاقتصادي إلى تراجع سريع بالوضع الإنساني وتردي الوضع الصحي العام للمواطنين.
في الوقع، انخفض متوسط العمر المتوقع عند الولادة بأكثر من خمسة في المائة ما بين عامي 2019-2021، وازدادت معدلات وفاة الأمومة ثلاثة أضعاف تقريباً، وانخفضت نسبة تلقيح الأطفال الروتيني 31 في المائة، وعادت أمراض مثل الكوليرا، التي غابت عن تاريخ لبنان الحديث، إلى الظهور.
وهذا يعني أن هناك طلباً متزايداً على خدمات الرعاية الصحية في وقت أصبح فيه “القطاع الصحي المنهك لا يستطيع التصدي ويواجه الانهيار” بحسب وزارة الصحة.
فشل بتقديم الرعاية
لا يستطيع الأطباء والممرضون السوريون والفلسطينيون ممارسة مهنتهم قانونياً في لبنان بسبب محظورات قديمة، حيث تمنع وزارة العمل قانونياً اللاجئين السوريين من العمل إلا في ثلاث قطاعات، وهي: النظافة، البناء والزراعة. بيد أن الوزارة ألغت بعض القوانين التي تحظر عمل اللاجئين الفلسطينيين بأكثر من 30 مهنة، لكن النقابات التي تدير هذه المهن، ومنها نقابة الأطباء حافظت على الكثير من السياسات الإقصائية.
يجب على الأطباء من غير الجنسية اللبنانية حمل جواز سفر دولة وقّعت عقداً ثنائياً ومتبادلاً مع لبنان بحسب نقابة الأطباء، وسوريا ليست إحدى هذه الدول. يوضح بخاش أن الأطباء اللبنانيين يواجهون العوائق البيروقراطية ذاتها للعمل في سوريا، كما أنه من المستحيل عقد اتفاق العمل الثنائي هذا مع الفلسطينيين، بينما لا يوجد اعتراف رسمي بفلسطين. ويحتاج السوريون والفلسطينيون إلى شهادات طبية ومؤهلات تعترف بها الدولة اللبنانية، بالإضافة إلى موافقة من وزارة الصحة، والانتساب إلى نقابة الأطباء، واستيفاء غيرها من باقي الشروط.
جود، التي فضّلت إخفاء اسم عائلتها بسبب مشاكل في إقامتها، حازت على شهادة في طب العيون من جامعة حلب، وعملت كجراحة لسنة ونصف قبل قدومها إلى لبنان، حيث أخبرت “البديل” عن محاولاتها لممارسة مهنتها قانونياً في لبنان حتى استسلمت، موضحة “حاولت الانتساب إلى نقابة الأطباء في صيف 2021، لكنني تفاجئت أن العملية ستكلفني 500 مليون ليرة لبنانية لأنني سورية. أي ما يعادل 333 ألف دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف حينها. لذلك أحاول الهجرة الى ألمانيا كالكثيرين غيري لمزاولة مهنتي”.
صرح البروفيسور بخاش لـ”البديل” بأنه “لا فكرة لديه” عن كلفة انتساب الأطباء السوريين والفلسطينيين إلى النقابة، بينما يذكر الموقع الإلكتروني للنقابة أن كلفة انضمام الطبيب اللبناني الذي يوافي جميع الشروط إلى نقابة الأطباء هي ثلاثة ملايين ليرة لبنانية. لكن لا يوجد معلومات عن تكلفة انتساب الأطباء الأجانب، ومنهم السوريين والفلسطينيين.
رغم أن السوريين والفلسطينيين يمكنهم دراسة الطب في الجامعات اللبنانية، فإن أقساط شهادات الطب تعتبر أعلى تكفلة من غيرها، والحيازة على شهادة لا يضمن ممارسة المهنة في لبنان. تقول تلميذة علم النفس آية رديني إن جنسيتها الفلسطينية حدت بشكل كبير من فرصها المهنية، رغم أنها درست المنهج نفسه الذي درسه زملاؤها في الجامعة اللبنانية، وأضافت “لا أعلم إذا كنت سأعمل في لبنان بعد التخرج. لن يمنحوني رخصة لأنني فلسطينية، لذا لن أتمكن من العمل في عيادة تحمل اسمي في لبنان، بل سأضطر إلى الهجرة للعمل في عيادتي الخاصة”.
سوق سوداء للأطباء
صرح طبيب إسعافات سوري لـ”البديل” أنه يعمل بشكل غير قانوني في وادي البقاع، وقد فضّل ألا يذكر اسمه كيلا يلقى القبض عليه. فهو لا يسمح له كسوري بتوقيع ملفات أو كتابة وصفات طبية، وأوضح أنه يعمل لصالح طبيب لبناني أو متطوع عالمي مقابل راتب أدنى كيلا تعتقله السلطات اللبنانية، يقول: “إنهم يحتاجون إلينا لكن لا يدعونا نعمل. إنه أمر محير”، وأضاف لـ”البديل” أن زميلاً سورياً له ألقي القبض عليه مؤخراً، وسجن لأسبوع.
وقال عدة أطباء سوريون لـ”البديل” إنهم عرضوا على مستشفيات وعيادات لبنانية العمل خلال جائحة كورونا لكن طلباتهم رفضت بسبب آليات التوظيف البيروقراطية.
ومع ذلك، قام بعض الأخصائيين السوريين بفتح عيادات خاصة غير قانونية لأنهم ممنوعون من العمل ضمن إطار قانوني، وقد أدى ذلك إلى انتشار عيادات أسنان لأطباء سوريين في مخيم اللاجئين الفلسطينيين شاتيلا في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال الأعوام الماضية.
وقد تحدث عدة أطباء سوريون “البديل” عن الأسباب المقنعة التي تدفع اللاجئين إلى تفضيل تلقي العلاج من طبيب من خلفية مشابهة، حيث أظهرت دراسة حديثة نشرتها مجلة نظرية الأنثروبولوجيا الطبية أهمية علاج اللاجئين للاجئين في حالات التهجير القسري، وتلاحظ أن المهجرين السورين الذين يعملون في قطاع الرعاية الصحية بشكل غير قانوني في لبنان خلقوا شبكات رعاية ديناميكية تستجيب للقيود اليومية للمرضى السوريين. وتعتبر هذه الممارسات أنسب لثقافة المرضى، وتستجيب للبرامج الإنسانية الشاملة، كما تطبق سياسات وتقدم خدمات صحية للاجئين.
يقول البروفيسور بخاش لـ”البديل” إن نقابة الأطباء في لبنان ستعلم وزارة الصحة اللبنانية بالأطباء غير اللبنانيين الذين يعملون بشكل غير قانوني كي توقفهم الوزارة عن العمل، وأضاف “نعلم أن هناك الكثير من الأطباء الذين يعملون بشكل غير قانوني، وخاصة من الجنسية السورية”.
هذا، ولم ترد وزارة الصحة اللبنانية على طلب “البديل” للتعليق على هذا التقرير.
المضي قدماً
في ظل النقص الملح للأطباء الأخصائيين في لبنان، فإن العوائق التي ما زالت تمنع الكوادر الصحية الفلسطينية والسورية من العمل قانونياً في لبنان تعتبر غير منطقية من وجهة نظر السياسات العامة.
ومع ذلك، يبقى السؤال ما إذا كانت العوامل التي دفعت الأطباء اللبنانيين للهجرة ستؤدي إلى هروب الأطباء السوريين والفلسطينيين، حتى لو تمت الموافقة على عملهم في لبنان.
يقول خليفة متساءلاً: “لماذا نسمح بإعطاء الممرضين والأطباء السوريين معاشات متدنية بينما يعملون والفلسطينيون بنفس الظروف التي يعمل بها الأطباء اللبنانيون؟”، لكن جود ترى الأمور من منظار مختلف، فهي تقول: “الرواتب متدنية لكن ذلك أفضل من البطالة. لدينا الكثير لنقدمه”.