الاتفاق المثالي: الدولة اللبنانية والدول الأوروبية تتفق على المخاطرة بحياة المهاجرين

يضع الحصار والحواجز الأوروبية والصفقات السرية المهاجرين أمام خطر كبير، بينما تحاول الجهات السياسية اللبنانية التهرَّب من مسؤوليتها عن حالات الموت في عداد المهاجرين عبر البحر

17 تشرين الثاني، 2022

بدأ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) باعتقال لبنانيين وفلسطينيين حاولوا الهجرة من شواطئ الشمال اللبناني، ويتبع هذا القمع بقيادة الجيش اللبناني أسوأ مأساة غرق قارب مهاجرين في التاريخ المعاصر، بعدما انقلب قارب انطلق من لبنان قرب الساحل السوري في سبتمبر (أيلول) الماضي، وأودى غرق القارب بحياة أكثر من مائة شخص. توضح هذه الأحداث نمطًا متناميًا من الهجرة والنزوح معظمهم من اللبنانيين الذين يحاولون الهرب من بلدهم على متن قارب.

عادة ما تتجلى محاولات النخبة السياسية لتجنّب الحديث عن الواقع الاقتصادي كمسبب أساسي للهجرة غير الشرعية عبر اتباع خطاب سياسي يلوم اللاجئين السوريين على الأزمة الحالية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، زعم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) أن اللاجئين السوريين “أكبر من طاقة لبنان على التحمّل”. ويترافق هذا التصريح مع خطة وزارة المهجرين التي ترمي لإعادة 15 ألف لاجئ سوري شهريًا، عاد منهم ما يقارب ألف شخص إلى سوريا في أول قافلتين. كما أبرمت اتفاقية إعادة القبول الثنائية التي لم تحظ بكثير من الشهرة مع قبرص، وجددت عام 2020 بهدف الإعادة القسرية للمهاجرين الذي يصلون عبر البحر من لبنان إلى قبرص.

وقالت المتحدثة باسم منظمة “ألارم فون” (Alarm Phone) كورينا زيتز، وهي منظمة لديها خط ساخن للاجئين الذي يواجهون صعوبة أثناء عبورهم البحر المتوسط، حول ذلك: “ستحاول الدولة اللبنانية… إيجاد شخص مسؤول مثلما حصل مع قضية غرق المركب في أبريل [نيسان]”.

قال الناجون من القارب الغارق في أبريل (نيسان) الماضي في طرابلس إن اصطدام القوات البحرية التابعة للجيش اللبناني كان المسؤول الأول عن المأساة التي أودت بحياة 40 شخصًا، وردّت السلطات اللبنانية مسرعة باعتقال قوات الأمن الداخلي للمشتبهين بقضية التهريب، ومنذ الاعتقالات، نظم المهربون رحلات هجرة عبر قوارب مكتظة بإهمال متجاهلين متطلبات السلامة، بينما رفع أهالي ضحايا المركب الغارق في أبريل (نيسان) دعوة لم تحظَ بشهرة واسعة، بعدما ألقى الجيش اللبناني القبض على الناجين المفقودين.

لكن هذه التكتيكات لاتفاجئ أحدًا، ووفقًا لمدير المركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر “يحمل خطاب اليمين المتطرف المسؤولية للضحية وليس للمرتكب”، إذ إن معظم اللبنانيين يعتبرون أن سوء إدارة الحكومة لعقود والفساد المنظّم قد أدى إلى الأزمة الحالية التي تجبر السكان على الهرب.

وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن 12% من المهاجرين عبر القوارب غير الشرعية من لبنان في عام 2021 حملوا الجنسية اللبنانية، وتضاعف هذا الرقم إلى 28% في عام 2022.

مدفوعون باليأس

بسبب الانهيار شبه التام لمؤسسات الدولة يحاول عدد أكبر من اللبنانيين مغادرة البلد، وهي رحلة سبق وخاضها اللاجئون السوريون والفلسطينيون منذ عام 2011. وقد زعمت الحكومة اللبنانية مرارًا أن عبء استضافة المهاجرين السوريين أجهد الموارد العامة كالكهرباء والمياه والخبز. تشحن هذه التوترات الاجتماعية باستمرارن ويقع اللوم على السياسيين اللبنانيين لإشعال الفتنة، حيث أجبرت السلطات اللبنانية اللاجئين على الوقوف بطوابير خبز غير تلك التي يقف بها اللبنانيون لاعتقادهم بوجوب اعتبار الزبائن اللبنانيين أولوية.

ومع ذلك، فيما تنتشر الدعاية العنصرية ضد السوريين، فإن اللبنانيين الذين يحاولون الهجرة يتهمون مجرمًا آخر تسبّب بنقص الموارد، وهو: الدولة اللبنانية، ووفقًا لاستطلاع للرأي أجرته شبكة باروميتر العرب للأبحاث، فإن 44% من اللبنانيين اعتبروا أن الفساد الدافع الأول للهجرة، بينما اعتبر 7% منهم فقط أن الأزمة الاقتصادية الدافع الأول.

قد تجد الحكومة صعوبات في إيجاد جهة جديدة تلومها للصعوبات المفرطة التي يواجهها اللبنانيون باحثين عن طريق رسمية للهجرة، خاصة في ظل تأخير الحصول على جواز سفر أو تجديده، حيث أعلنت مديرية الأمن العام في أبريل (نيسان) توقفها عن إعطاء أو تجديد جوازات السفر رغم تزايد الطلبات عليها، وينتظر المواطنون حاليًا شهورًا أو حتى عامًا كاملًا للحصول على موعد للحصول على جواز السفر.

تجبر الصعوبات التي يواجهها اللبنانيون للحصول على جواز السفر والتأشيرة اللازميّن للهجرة عبر الطرق الشرعية اللبنانيين على الهرب عبر طرق بحرية خطرة، وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن 12% من المهاجرين عبر القوارب غير الشرعية من لبنان في عام 2021 حملوا الجنسية اللبنانية، وتضاعف هذا الرقم إلى 28% في عام 2022.

وقد أوضحت مفوضية شؤون اللاجئين لـ”بديل” الأسباب التي دفعتهم للرحيل، حيث قالت: “لم يعودوا قادرين على العيش في لبنان بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية وحرمانهم من الوصول إلى الخدمات الأساسية والنقص بفرص العمل وانتظار أقاربهم أو أفراد من مجتمعاتهم لهم في الدول المهاجرين إليها”.

نجا ماهر حمودة، وهو أحد اللبنانيين اليائسين للرحيل، من غرق قارب الهجرة في أبريل (نيسان) في عام 2022، وأرجع هروبه لظروف المعيشة الصعبة في لبنان قائلًا: “الوضع في البلد صعب… لا يوجد كهرباء ولا ماء ولا مستشفيات”.

معتبرًا أن رفض الحكومة اللبنانية السماح بالوصول إلى تفاصيل الاتفاق المجدّد مع قبرص دليل على تورطها بالجريمة

الإبحار في مياه السياسة العكرة

استخدم السياسيون اللبنانيون أزمة الهجرة سرًا لتعزيز سياستهم الداخلية العدائية تجاه اللاجئين السوريين في البلد، وجدد لبنان في عام 2020 اتفاقًا ثنائيًا أبرمه مع قبرص في عام 2002 بهدف صد رحلات الهجرة عبر البحر.

كانت الحكومة اللبنانية قد فشلت سابقًا بالتصديق على بروتوكولات تطبيق الاتفاق بعد توقيعه عام 2002. يهدف الاتفاق إلى حماية إعادة المهاجرين بحسب معاهدة جنيف والمعاهدة الأوروبية لحقوق الانسان، وتجادل المنظمات الحقوقية بأن رفض بروتوكولات تطبيق الاتفاقية سمح للدولة اللبنانية بترحيل السوريين الذين تمت إعادتهم إلى لبنان بموجب هذا الاتفاق، بعدما أصبح ذلك ممكنًا بقرار صدر عن المجلس الأعلى للدفاع في لبنان في مايو (أيار) في عام 2019، والذي نص على أن لسوريين الذين دخلوا إلى لبنان بشكل غير شرعي بعد أبريل (نيسان) عام 2019، سيتم ترحيلهم وتسليمهم إلى السلطات السورية، وسيتسبب ذلك بقمع غير مباشر يتحمّل مسؤوليته لبنان وقبرص.

وقال الأسمر معلقًا على الاتفاقية: “هذه طريقة غير مباشرة لإعادتهم إلى سوريا”، معتبرًا أن رفض الحكومة اللبنانية السماح بالوصول إلى تفاصيل الاتفاق المجدّد مع قبرص دليل على تورطها بالجريمة.

حصل “بديل” على نسخة من اتفاقية إعادة القبول الثنائية من مكتب وزارة الداخلية في قبرص، حيث لم تتضمن الاتفاقية بندًا واضحًا غير قمعي يحمي طالبي اللجوء من العودة لمنطقة قد يتعرضوا بها للخطر، بيد أنها مدرجة “كسلطة كفوءة للتعامل مع طلبات إعادة القبول والنقل” في الاتفاقية.

أحال ناطق باسم وزارة الداخلية والبلديات في لبنان “بديل” إلى قوى الأمن الداخلي للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بتفاصيل الاتفاقية، ورفضت قوى الأمن الداخلي التعليق على المحاضر عندما تواصل معهم “بديل”، لكن ضابطًا من قوى الأمن الداخلي أخبر “بديل” بصفة مجهولة أن اعتقالات “المهاجرين غير الشرعيين” تنسق بين قوى الأمن الداخلي والقوى اللبنانية المسلحة، كما شرح أن قوى الأمن الداخلي تعتقل كل الرعايا الأجانب، ومعظمهم من السوريين، وتحيلهم إلى قوى الأمن العام. ولم تجيب قوى الأمن العام على طلباتنا بالتعليق رغم محاولاتنا المتكررة.

للتعاون السياسي القبرصي-اللبناني تداعيات ملموسة عبر البحر المتوسط، حيث تشرع قوارب الهجرة اللبنانية في رحلات أطول وأخطر لتفادي قبرص، بينما كانت الجزيرة المتوسطية الواجهة الأولى لقوارب الهجرة التي غادرت لبنان خلال السنوات الماضية، وبحسب مفوضية شؤون اللاجئين فإنه غادرت قوارب إلى إيطاليا أكثر بخمس مرات من تلك التي غادرت إلى قبرص عام 2022.

يبرهن ازدياد المهاجرين على الوضعية القتالية التي اتخذتها الحدود البحرية القبرصية بعد ازدياد المسافة ثمانية أضعاف، وصرح رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية القبرصي لويزوس مايكل لـ”بديل” بأن المهاجرين “لا يدخلون الجمهورية” بموجب الشروط المنصوص عليها في الاتفاق الثنائي، مضيفًا أنه لقبرص “الحق الشرعي باعتراض طريقهم” بعد التحقيق معهم، وأنه “قد تعيدهم السلطات القبرصية سالمين” إلى لبنان إذا لم يكن بحوزة المهاجرين طلب اللجوء الضروري.

تخدم هذه الحدود الصارمة أهدافًا وقائية، وهي “إرسال رسالة (لطالبي اللجوء) مفادها ألا يأتوا أصلًا”، بحسب ما أوضحت العضو في مجلس اللاجئين القبرصي كورينا دروسيوتو.

تحمل الجنسية اللبنانية تحديات من نوع آخر للبنانيين الواصلين إلى الشواطئ الأوروبية، ويصنف اللبنانيون الهاربون من الفقر لتحسين وضعهم المادي “كلاجئين اقتصاديين” عند وصولهم، بينما يتمتع اللاجئون بالإقامة القانونية في البلد المستقبل بحسب شرعة حقوق الإنسان التي أقرت عام 1945، لكن يفتقد “المهاجرون” لهذه الحماية الرسمية ولذلك يبقون عرضة للترحيل. ومع ذلك، قد تطلب نسبة صغيرة فقط من اللبنانيين اللجوء السياسي في ظل تردي الأوضاع الأمنية في البلد.

يتكرر ترك الذين لا يتمتعون بذلك الخيار أي دليل موثق لحملهم الجنسية اللبنانية، يقول حمودة حول تحضيره للهرب من البلد: “لم أرد أخذ أي وثيقة تبرهن على أنني لبناني”.

لقد زاد انتشار الخطاب السياسي الكاره للأجانب في أوروبا من صعوبات المهاجرين اللبنانيين بالوصول والاستقرار أو التنقل عبر الدول الأوروبية، والذي كان آخرها فوز مرشحة اليمين المتطرف جورجيا ميلوني في الانتخابات التشريعية الإيطالية في سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث أغلقت الحكومة الإيطالية الجديدة جميع مرافئها بوجه قوارب إنقاذ المهاجرين في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، وذلك وفاء لتعهدات حملتها الانتخابية، مما أدى إلى انتشار الفوضى على الشواطئ الإيطالية بعدما علقت سفن الإنقاذ في البحر، وأجبرت أخيرًا على الرسو في فرنسا.

إلى أين نذهب الآن؟

تبقى عمليات الإعادة القسرية غير قانونية بغض النظر عن الجنسية. إذ إنه لجميع المهاجرين الحق بالحصول على اللجوء بطرق قانونية بحسب شرعة حقوق الإنسان. يجب أن يتلقى المهاجرون الذين وصلوا إلى الحدود الأوروبية الدولية نظريًا المساعدة والحماية من المخاطر وألا يميز ضدهم، كما يجب أن يعرّفوا على الطرق القانونية لطلب اللجوء بحسب المادة الثالثة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الانسان ومبدأ عدم الإعادة القسرية وفقًا لمعاهدة جنيف.

يوضح الأسمر قائلًا إن: “إغلاق الحدود يسبب هذه المأساة. عندما تتقدم القوارب غير المجهزة من الحدود تزداد المشاكل”، ويتابع مضيفًا “هنا نتكلم عن أكثر من مائة حالة موت في أخر ثلاثة أو أربعة أشهر”.

يمكن أن تأخذ عمليات الإعادة القسرية أشكالًا عدة منها منع وصول القوارب المهاجرة إلى الشاطئ وتأخير عمليات الإنقاذ والبحث، وفي جميع الأحوال تؤدي هذه الممارسات إلى موت الركاب بشكل متكرر، كما يمكن اعتبار الإعادة القسرية لقوارب المهاجرين رفضًا جماعيًا ينتهك المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولا يمكننا معرفة ما إذا كانت الإعادة القسرية تهدد سلامة أو حياة المهاجر، بدون تقييم حالات المهاجرين بشكل فردي.

ما زالت أوروبا تقدم حياة أفضل من تلك في لبنان بالنسبة للكثير من اللبنانيين، بيد أنها ترسل رسائل خطرة لتحبط محاولات المهاجرين لخوض هذه الرحلة. كرر حمودة أنه سيواصل محاولات الهروب رغم ما حصل معه في أبريل (نيسان)، فهو يصف حياته في طرابلس، وهي واحدة من أفقر على ساحل المتوسط، بالقول: “ولكنني الآن أموت يوميًا هنا”.

من المرجح أن تستمر الهجرة البحرية إلى أوروبا بينما تتراجع الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في لبنان، حيث تبقى الهجرة غير الشرعية الخيار الوحيد القابل للتطبيق لبعض اللبنانيين الذين يريدون الرحيل.

ويقول حمودة حول ذلك: “سأحاول الرحيل عبر البحر مجددًا. ذلك لا يخيفني”، ويضيف “ليس سهلًا لكن سأجد طريقة للنجاح”.

المواضيع ذات الصلة