الجيل المنسي: إعادة تعريف سياسة اللاجئين في لبنان

مع انحسار موجة الحرب، يحتاج لبنان إلى حل قائم على الحقوق لإدارة أزمة اللاجئين السوريين

29 تشرين الثاني، 2024

مقدمة   

دخلت أزمة اللاجئين السوريين في لبنان مرحلة جديدة بعد تصاعد الحرب العدوانية الإسرائيلية في 23 أيلول 2024، مما دفع أكثر من 300 ألف لاجئ إلى العودة إلى ديارهم. ومع سريان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني، أصبح من الضروري أن يعيد لبنان والمجتمع الدولي تركيز جهودهما لمعالجة أزمة اللاجئين بطريقة مستدامة ورصينة. 

 

قبل هذه الموجة الجماعية من العودة، كان وضع اللاجئين السوريين في لبنان بالغ السوء، ومن المرجح أن يستمر كذلك حتى مع انحسار الحرب. فقد فرض العدد الكبير لللاجئين ضغوطاً اجتماعية واقتصادية هائلة على لبنان وساهم بدفعه إلى حافة الانهيار. ومع ذلك وعلى الرغم من هذه الضغوط، لا يزال معظم اللاجئين يعتبرون العودة إلى سوريا خياراً غير آمن في ظل محدودية فرص إعادة بناء حياتهم الاقتصادية هناك. 

وبالنتيجة يجد اللاجئون السوريون أنفسهم عالقين في بلد يُعتبرون فيه غير مرحب بهم من قبل شرائح واسعة من المواطنين والقيادات السياسية – ودون وجود بدائل واقعية أخرى. وقد أدت إقامتهم الطويلة والتي تفاقمت بفعل السياسات المحلية والدولية غير الفعالة، إلى تفاقم الأزمات في لبنان. وفي السنوات الأخيرة أصبحت حوادث العنف والممارسات التمييزية أمراً متكرراً بشكل مقلق، مما أدى إلى زعزعة استقرار اللاجئين والمجتمعات المضيفة على حد سواء. إن التكلفة البشرية لهذه التوترات غير المحلولة هائلة، حيث يعيش العديد من اللاجئين في حالة من التهميش والخوف، ودون أمل في مستقبل مستقر. 

ما يزيد الأمر سوءاً أن الخطاب العام في لبنان غالباً ما يُستخدم لاستغلال أزمة اللاجئين السوريين كوسيلة لصرف الانتباه عن إخفاقات الطبقة السياسية، وخاصة دورها في الانهيار الاقتصادي الكارثي للبلاد. وبينما يشكل اللاجئون السوريون تحديات اجتماعية واقتصادية حقيقية، فقد تم تقديمهم مراراً ككبش فداء لصرف الأنظار عن قضايا الفساد وفشل الحوكمة العميقة التي دفعت لبنان إلى الهاوية وفقاً لتحليل سردي قائم على البيانات أجراه “البديل”. 

اليوم، تُجبر السياسات الحكومية القمعية السوريين على العيش في أوضاع غير منظمة، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، وزيادة الاستغلال، ومنع الحلول المستدامة. ومع ذلك، فإن الروابط التاريخية والطائفية والجغرافية بين لبنان وسوريا تعني أن الوجود السوري سيظل جزءاً أساسياً من المشهد اللبناني في المستقبل المنظور، سواء اعترف صناع القرار بذلك أم لا. 

وبالمثل، وعلى الرغم من استرضاء الساسة الأوروبيين للمشاعر القومية اليمينية المتطرفة، فإن العوامل التي تدفع اللاجئين السوريين نحو أوروبا ستستمر. وطالما بقيت الظروف المعيشية في لبنان والمنطقة غير مواتية فإن السعي نحو أوروبا سيظل خياراً جذاباً. إن الجهود الأوروبية لتشديد الحدود لن توقف تدفقات الهجرة بل ستدفع اللاجئين الأكثر يأساً إلى سلك طرق أكثر خطورة للهجرة إلى أوروبا. 

لم يعد هناك مجال للتقاعس أو التغاضي عن الوضع الراهن. فجميع الأطراف المعنية بهذا الملف بما فيهم لبنان والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي، لديهم مصالح سياسية واضحة في إيجاد حل لهذه الأزمة. ورغم أنه لا توجد حلول سريعة على المدى القريب، إلا أن هذه الحقيقة المزعجة تتطلب من صناع السياسات مواجهتها واستيعابها. 

على المهتمين بالحلول الدائمة أن يوجهوا النقاش نحو حقيقة مفادها أن الخيار الوحيد القابل للتطبيق هو اتباع نهج سياسي طويل الأمد يمتد على مدى أجيال. فالتحديات التي يفرضها هذا الملف مشتركة، ويجب أن تكون الحلول كذلك. لذا على صناع السياسات في أوروبا ولبنان وسوريا والعالم العربي التعاون لوضع حزمة منسّقة من السياسات التي تعطي الأولوية لرعاية كل من اللاجئين السوريين والمجتمعات اللبنانية المضيفة. 

أما على أرض الواقع تتجلى أفضل السيناريوهات الممكنة اليوم في ثلاثة خيارات رئيسية: العودة الطوعية إلى سوريا بشكل آمن وكريم تتم مراقبتها عن كثب؛ أو إعادة التوطين في مكان آخر؛ أو استمرار الإقامة في لبنان من خلال برنامج منظم. ولا يمكن مواجهة التحديات وحلّها إلا من خلال مزيج من هذه السياسات المتكاملة. 

الخلفية والسياق 

قبل تصعيد الحرب الإسرائيلية في أيلول 2024، كانت التقديرات تشير إلى أن لبنان يستضيف مليون ونصف لاجئ سوري أي ما يعادل حوالي ربع سكان البلاد. وقد تسبب هذا العدد الكبير بضغوط هائلة على الخدمات العامة في لبنان وزاد من حدة التوترات الطائفية. ورغم محاولات السلطات اللبنانية التعامل مع أزمة اللاجئين، كانت هذه التدابير غالباً غير إنسانية وغير فعالة. فقد ركزت الجهود على إجبار اللاجئين على مغادرة لبنان إلى جانب ممارسة الضغط على المجتمع الدولي للحصول على المساعدات. لكن هذه السياسات كانت مفككة وأتت بنتائج عكسية، مما أدى إلى زيادة معاناة اللاجئين دون تحقيق أي تقليص ملحوظ في أعدادهم. وكثيراً ما استُخدم اللاجئون السوريون كبش فداء لتبرير الأزمات الاقتصادية التي تواجه البلاد بهدف صرف الأنظار عن سوء الإدارة الحكومية. وقد ساهم أكثر من عقد من السياسات الخاطئة في تعميق تهميش اللاجئين وزيادة فقرهم. 

حولت سياسة الإقصاء العديد من اللاجئين إلى مقيمين غير شرعيين، ما عرّضهم لخطر الاعتقال والترحيل وحرمانهم من حقوقهم الأساسية بما فيها الوصول إلى الخدمات العامة والسكن القانوني والمشاركة في سوق العمل الرسمي وحرية التنقل.

رغم أن لبنان لم يوقع على اتفاقية اللاجئين لعام 1951 إلا أنه صادق على اتفاقيات دولية أخرى تلزمه بضمان الحقوق الأساسية المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجميع الأفراد المقيمين على أراضيه بما فيهم اللاجئون [1]. كما أن لبنان ملتزم بالقانون الإنساني الدولي الذي يرسخ مبدأ عدم الإعادة القسرية. إلا أن الممارسة العملية تجاهلت معظم هذه المبادئ. ففي عام 2011 تبنت الحكومة اللبنانية نهجاً غير سياسي سمح بحدود مفتوحة أمام اللاجئين السوريين، مع تفويض مهمة تسجيلهم مفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وقد أضعف هذا النهج قدرة الدولة على إدارة الأزمة.  

ثم في أواخر عام 2014 وبعد تجاوز عدد اللاجئين حاجز المليون، سعت الحكومة اللبنانية إلى استعادة السيطرة على الوضع. وتم تنفيذ تدابير لمنع دخول السوريين إلى لبنان وتشديد أنظمة الإقامة وتصاريح العمل. وقد حولت سياسة الإقصاء هذه العديد من اللاجئين إلى مقيمين غير شرعيين مما عرضهم لخطر الاعتقال والترحيل وحرمانهم من حقوقهم الأساسية بما فيها الوصول إلى الخدمات العامة والسكن القانوني والمشاركة في سوق العمل الرسمي وحرية التنقل. 

وبعد ذلك بفترة قصيرة طلبت الحكومة اللبنانية من المفوضية السامية للأمم المتحدة تعليق تسجيل اللاجئين السوريين ممّا زاد من تعقيد عملية الإدارة وتقديم الدعم الفعال لهم. ومنذ ذلك الحين لم تتوفر لدى الحكومة ولا وكالة الأمم المتحدة بيانات دقيقة حول عدد اللاجئين المقيمين في لبنان. وبدون تسجيل رسمي لدى المفوضية يُحرم اللاجئون من الاعتراف القانوني، مما يحد من قدرتهم على الوصول إلى المساعدات والوضع القانوني والحماية ويزيد من تعرضهم للاستغلال والاعتقال والترحيل. 

استمر هذا النهج في التصعيد مع إصدار المجلس الأعلى للدفاع قراراً في عام 2019 يقضي بالترحيل الفوري للسوريين الذين دخلوا لبنان بشكل غير قانوني بعد 24 نيسان 2019 وهدم الملاجئ الدائمة وشبه الدائمة وملاحقة السوريين العاملين دون تصاريح. أدى ذلك إلى تسريع عمليات الترحيل والإعادة القسرية غير القانونية التي أصبحت ممارسة واسعة الانتشار واستمرت حتى عام 2024.  تجدر الإشارة إلى أن هذه العمليات لم يتم الإبلاغ عنها إعلامياً منذ تصاعد الحرب في لبنان في أيلول 2024. [2]

لا يستطيع لبنان بمفرده إدارة أزمة اللاجئين، وبالتالي يجب على الجهات الفاعلة الدولية وعلى رأسها الدول الغربية والدول العربية وسوريا ذاتها أن تلعب دوراً أكثر جدّية.

إن محدودية تنظيم وجود اللاجئين أدت إلى تهميشهم وتركهم في حالة من النسيان، حيث باتوا اليوم عالقين بين وضعهم غير المنظم في لبنان وعدم قدرتهم على الانتقال إلى مكان آخر. وقد تصاعدت التوترات بين اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة اللبنانية خلال العقد الماضي بسبب التنافس على الموارد الشحيحة وفرص العمل منخفض المهارات والخدمات العامة. وصلت هذه التوترات إلى نقطة الغليان في عام 2024 بعد مقتل باسكال سليمان، عضو رفيع المستوى في حزب القوات اللبنانية اليميني التوجه. حيث نُسبت جريمة القتل إلى مواطنين سوريين مما أدى إلى موجة من العنف وفرض قيود غير قانونية على اللاجئين. 

 

لا يستطيع لبنان بمفرده إدارة أزمة اللاجئين، وبالتالي يجب على الجهات الفاعلة الدولية وعلى رأسها الدول الغربية والدول العربية وسوريا ذاتها أن تلعب دوراً أكثر جدّية. إن افتقار اللاجئين السوريين إلى بدائل وواقع الدعم المالي لنظام إدارة غير فعال، يعني أن جميع أطراف النزاع السوري عززت بشكل غير مباشر الظروف السيئة والخطيرة التي يواجهها اللاجئون. وقد سمح التقاعس الدولي عن اتخاذ إجراءات سياسية جادة وتقاسم العبء مع لبنان بتفاقم الأزمة وفرض ضغوط قسرية على اللاجئين للعودة إلى سوريا. 

على الرغم من أهمية الدعم المالي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي للبنان  إلا أن النهج الذي اتبعه كان منقوصاً وقصير النظر. إذ يصر الاتحاد الأوروبي اليوم على أن الظروف الحالية في سوريا لا تسمح بالعودة الآمنة لكنه في الوقت نفسه غير راغب في قبول المزيد من اللاجئين من لبنان في أراضيه. وقد ركزت الجهود الأوروبية على وقف الهجرة غير النظامية من خلال تعزيز تأمين الحدود البحرية للبنان تحت مظلة “بناء المرونة” بدلاً من العمل على حل مستدام يعالج احتياجات اللاجئين والمجتمعات المضيفة. نتيجة لذلك لجأت السلطات اللبنانية إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للحصول على دعم ملموس، مستخدمة أساليب تضمنت التهديد بالسماح للاجئين بدخول أوروبا وتكثيف عمليات الترحيل القسري. ففي أيار 2024 أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم مليار يورو إضافية كحزمة دعم للبنان للمساعدة في إدارة أزمة اللاجئين، إلا أن هذه الخطوة ووجهت بانتقادات واسعة من الزعماء اللبنانيين الذين اعتبروها إجراءً مؤقتاً وعاجزاً عن معالجة جذور الأزمة. 

على مجلس التعاون الخليجي باعتباره جهة تسعى إلى التقارب مع النظام السوري وحليفاً لكل من لبنان والغرب أن يلعب دوراً رئيسياً في المفاوضات الرامية إلى إيجاد حلول طويلة الأمد لأزمة اللاجئين السوريين.

كما اتجه الزعماء اللبنانيون إلى العالم العربي لتشكيل جبهة موحدة للتنسيق مع الحكومة السورية فيما يتعلق بشؤون اللاجئين. إلا أن مشاركة دول مجلس التعاون الخليجي لم تسفر إلا عن نتائج محدودة نظراً لغياب الإرادة السياسية لتقاسم العبء. وعلى مجلس التعاون الخليجي، باعتباره جهة تسعى إلى التقارب مع النظام السوري وحليفاً لكل من لبنان والغرب، أن يلعب دوراً رئيسياً في المفاوضات الرامية إلى إيجاد حلول طويلة الأمد لأزمة اللاجئين السوريين. 

 

والآن وبعد عودة أكثر من 300 ألف لاجئ إلى سوريا واستعادة النظام السوري لعضويته في الجامعة العربية، يمكن للزعماء العرب والدول الغربية اغتنام هذه الفرصة لإشراك الحكومة السورية في حوار بنّاء. يجب أن يهدف هذا الحوار إلى ضمان أن تكون عودة اللاجئين طوعية وآمنة وكريمة، بالإضافة إلى إعادة إطلاق العملية السياسية بالتنسيق مع جميع القوى المعنيّة. 

تعمل هذه الإستراتيجية المتكاملة من خلال ثلاث مرتكزات: أولاً عودة اللاجئين الطوعية والآمنة والكريمة تحت مراقبة دولية؛ ثانياً تحسين مسارات الهجرة القانونية؛ وثالثاً تسوية أوضاع اللاجئين في لبنان.

توصيات السياسة  

لتجاوز الوضع الراهن، لابد من تحول جذري في نهج السياسات. وعلى الرغم من التحديات السياسية الكبيرة التي يواجهها لبنان، إلا أن أزمة اللاجئين السوريين تستدعي استجابة تتسم بالعملية والمبدئية في آنٍ واحد. ما تقترحه هذه الورقة هو إطار سياساتي شامل وطويل الأجل يتماشى مع إطار الحلول الدائمة للأمم المتحدة ويوازن بين الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحالية والحاجة إلى حلول مستدامة وقائمة على الحقوق. 

تعمل هذه الاستراتيجية المتكاملة من خلال ثلاث ركائز أساسية:  

  1. عودة طوعية وآمنة وكريمة تحت مراقبة دولية: إنشاء وتنفيذ آليات حماية ومراقبة لعمليات العودة الطوعية، تضع الأولوية للأمان والكرامة وموافقة اللاجئين. تُنفذ هذه العملية بدعم دولي ومساعدات مالية لتيسير إعادة الإدماج التدريجي والآمن في سوريا. يجب أن تكون هذه العمليات تحت مراقبة دقيقة، ومصحوبة ببروتوكولات سلامة شاملة لمعالجة المخاطر التي قد يواجهها اللاجئون. 
  2. تحسين المسارات القانونية للهجرة: دعم المسارات المشروعة لإعادة توطين اللاجئين السوريين، مع التركيز على الفئات الأكثر ضعفاً وتسهيل هجرة العمال من مختلف مستويات المهارة. 
  3. تسوية أوضاع اللاجئين السوريين المتبقين في لبنان: تنظيم الوضع القانوني للاجئين من خلال توفير تصاريح إقامة وعمل مؤقتة بما يضمن اندماجهم بشكل أفضل في النسيج الاجتماعي والاقتصادي وتعزيز الإنتاج الاقتصادي وزيادة إيرادات الدولة والحد من الاستغلال.  
وفي الوقت نفسه على المجتمع الدولي – وخاصة الجهات المانحة – أن يعيدوا النظر في نهجهم. فإن المساعدات المالية لن تكفي وحدها.

يجب أن تُستخدم هذه الركائز بدرجات متفاوتة وفي أوقات مختلفة بما يتماشى مع الظروف المتطورة. ويعتمد نجاح هذه الاستراتيجية على تكامل هذه الركائز فلا يمكن لأي منها أن يعمل بفعالية بمعزل عن الأخرى. يجب أن تُطبق الركائز بطريقة منسقة ومرنة – مع الحفاظ على التوازن السياسي. 

من المهم أن تكون الحوافز للعودة الطوعية الآمنة وللهجرة القانونية أقوى دائماً من الحوافز لتنظيم بقاء اللاجئين في لبنان، حيث إن الهدف من هذا الإطار ليس توطين اللاجئين بشكل دائم. يضع هذا الإطار توصيات سياسية واقعية تسعى إلى تحقيق التوازن بين مصالح لبنان والمصالح الإنسانية للاجئين الذين استضافهم البلد لنصف جيل. 

الركيزة السياسية الأولى: عودة اللاجئين بشكل طوعي وآمن وكريم بمراقبة دولية 

أظهرت الدراسات الاستقصائية حول اللاجئين باستمرار أن نسبة كبيرة منهم يأملون في العودة إلى سوريا يوماً ما. يشير ذلك إلى أنه عندما تتحسن الظروف في سوريا، قد يكون العديد من اللاجئين مستعدين للمشاركة في برامج دعم العودة. يمكن أن توفر مثل هذه البرامج بديلاً إنسانياً وعملياً عن الإعادة القسرية. ومع ذلك فمن الضروري أن تعطي أي مبادرات عودة الأولوية لسلامة العائدين وكرامتهم وضمان حياة كريمة لهم وأن تكون العودة طوعية بالكامل زتخضع لمراقبة دقيقة من الجهات الدولية ومصحوبة ببروتوكولات أمنية شاملة لمعالجة أي مخاطر محتملة. 

تُبرز عودة أكثر من 300 ألف لاجئ  مؤخراً بسبب الصراع في لبنان الحاجة الملحة لآليات قوية وطويلة الأمد. فقد أدت الطبيعة المتسرعة وغير المنسقة لهذه العمليات إلى فجوات كبيرة في الحماية والمساعدة، مما جعل العديد من العائدين عرضة للخطر مع خيارات محدودة للمأوى ومخاطر الانتهاكات من مختلف الأطراف على الأرض السورية – بما فيهم النظام السوري. يؤكد ذلك على الحاجة الماسة إلى تنفيذ برنامج منظم للعودة لمنع عمليات العودة العشوائية التي قد تؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن والاستقرار بالنسبة للعائدين. بالإضافة إلى ذلك فإن فشل برامج العودة قد يؤدي إلى تثبيط الجهود المستقبلية في هذا الصدد. 

لذلك ينبغي على الأمم المتحدة – بالتعاون مع الدول والجهات المعنية – إنشاء أنظمة حماية ودعم ومراقبة لضمان سلامة العائدين. ستسهم هذه الجهود في سد الفجوات الحالية في الدعم والحماية كما ستمكن الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية من جعل عمليات العودة المستقبلية أكثر أماناً ووضوحاً، مما يعزّز فرص النجاح في إعادة إدماج العائدين تدريجياً في وطنهم.   

بالنسبة لسوريا فإن برنامج العودة الطوعية المنسق يمكن أن يساهم في استعادة رأس المال البشري الذي تحتاجه البلاد لتعافيها الاجتماعي والاقتصادي. وبالنسبة للبنان فتقليص عدد اللاجئين من خلال العودة الطوعية قد يخفف من الضغوط الاجتماعية مع ضمان التزام البلاد بالاتفاقيات والقوانين الدولية ذات الصلة. وبالنسبة لأوروبا والمجتمع الدولي ككل، فإن هذا النهج يمكن أن يقلل من أعداد اللاجئين الذين يسعون إلى إعادة التوطين ويخفف من الضغوط المرتبطة بالهجرة غير النظامية. أمّا بالنسبة للاجئين السوريين أنفسهم فإن مثل هذا البرنامج قد يوفر لهم فرصة العودة إلى وطنهم بأمان وكرامة، مما يمكنهم من لمّ شملهم مع أفراد أسرهم، واستعادة ممتلكاتهم وإعادة بناء حياتهم في بيئة مألوفة لهم. كما فإن العودة الطوعية قد تتيح للاجئين فرصة للابتعاد عن حالة عدم الاستقرار والتمييز والصعوبات الاقتصادية التي يواجهونها حالياً في لبنان، مما يمنحهم إمكانية استعادة الحكم الذاتي والمساهمة في جهود إعادة الإعمار والتنمية في سوريا. 

التحديات 

العودة الآمنة  

إن تاريخ النظام السوري حافل بالوحشية وانتهاكات حقوق الإنسان وعدم الاكتراث بالقوانين والأعراف الدولية والتلاعب بالمساعدات الإنسانية، مما يثير شكوكاً جدية حول مدى استعداده لدعم وضمان أمن وسلامة اللاجئين العائدين. فقد وثقت وكالات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان  حالات عديدة من الانتهاكات التي تعرض لها العائدون، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب والعنف الجنسي والاختفاء القسري والقيود على الحركة والحرمان من حقوق السكن والأرض والملكية. والأمثلة حديثة على وقوع اعتقالات تعسفية وحالات اختفاء قسري بين العائدين منذ 23 أيلول 2024 تؤكد حقيقة هذه المخاطر بشكل واضح. 

لا يزال الوضع الأمني في سوريا هشاً، حيث يغيب حكم القانون وتنتشر الجماعات المسلحة والاضطرابات الاجتماعية والعنف. حتى في المناطق التي يُعتقد أنها آمنة نسبياً فإن قدرة سوريا واستعدادها لاستيعاب أعداد كبيرة من العائدين أمر يثير الشكوك، نظراً لأن البنية التحتية والخدمات العامة والاقتصاد لا تزال في حالة انهيار. ففي عام 2023 قدرت التقارير أن 85% من الأسر – أي ما يقرب من 12 مليون شخص – لا يمكنهم تلبية احتياجاتهم الأساسية وأن نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي. فإن إدخال أعداد كبيرة من العائدين إلى هذا الواقع – خاصة في المناطق الحضرية المكتظة – أمر غير واقعي حالياً، وعودة حوالي 300 ألف شخص حتى الآن لا تغير من هذا الواقع. 

ومما يزيد الأمور تعقيداً العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على سوريا مما يشكل عائقاً رئيسياً أمام تعافي الاقتصاد السوري وإعادة تأهيله. إضافة إلى ذلك، فإن العديد من صناع القرار في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى يعارضون بشدة أي شكل من أشكال التواصل المباشر مع نظام الأسد، مما يعوق الجهود الدولية لإيجاد حلول مستدامة لأزمة اللاجئين. 

الترحيل والإعادة القسرية والمناطق الآمنة  

يتعارض مفهوم “العودة الطوعية” مع عمليات الترحيل التي نفذتها السلطات اللبنانية حتى الآن والتي ووجهت بانتقادات واسعة من المجتمع الدولي لكونها غير قانونية وتنتهك حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. تجاهل هذه العمليات الظروف الفردية للعائدين بما يعرضهم لسوء المعاملة والانتهاكات فور وصولهم إلى سوريا. تسببت هذه الإجراءات في تآكل الثقة بين لبنان وشركائه الدوليين ما أدى إلى تقويض فرص التعاون لحلول مستدامة – كما زادت من عزلة لبنان على المستوى الدولي. فإن تنفيذ برامج للعودة الطوعية تحت إشراف دولي تضمن الأمان والكرامة للعائدين يمكن أن يلغي الحاجة إلى الترحيل القسري أو الجماعي. ومثل هذه البرامج توفّر بديلاً إنسانياً يعالج التحديات الحالية بطريقة أكثر احتراماً للحقوق. 

غالباً ما تُناقش سياسات العودة في أوروبا في سياق “المناطق الآمنة” وهي محلّ جدل سياسي كبير. وتدعم بعض الدول الأوروبية التقارب مع النظام السوري لإنشاء هذه المناطق بينما تعارض دول أخرى هذا التوجه. يكمن التحدي في أن “المناطق الآمنة” غالباً ما تُحدد من قبل الدول دون النظر في مدى مناسبتها أو رغبتها من جانب اللاجئين أنفسهم. يمكن لدعم العودة الطوعية الحقيقية أن يخفف من حدة الجدل حول هذه “المناطق الآمنة” ويقلل من الاعتماد عليها. إذ أن تشجيع اللاجئين على العودة طواعية – عندما تكون الظروف آمنة –  يمنحهم فرصة لاتخاذ القرار بأنفسهم بدلاً من فرض تصور خارجي لما يُعتبر “آمناً”. 

من المهم الإشارة إلى أن اللاجئين الذين عادوا مؤخراً (لا سيما منذ أيلول 2024) لم تكن عودتهم مدفوعة بتحسن الظروف في سوريا أو بكونها أصبحت آمنة. بدلاً من ذلك أُجبر هؤلاء العائدون بشكل غير مباشر نتيجة للصراع المحتدم في لبنان ما يجعل عودتهم فصلاً جديداً من النزوح القسري. بالتالي لا يمكن أن تُبنى القرارات المتعلقة بعودة اللاجئين على الوضع في لبنان فقط بل يجب أن تستند إلى مؤشرات موضوعية للأمن والسلامة والاستقرار وكذلك إلى توافر الموارد الأساسية داخل سوريا نفسها. هذا النهج ضروري لضمان أن تكون العودة طوعية ومستدامة تحقق الأمان والكرامة للعائدين. 

الخطوات المقبلة 

التعامل مع دمشق  

لم يكن النظام السوري على مدار تاريخه ملتزماً باحترام حقوق الإنسان مما يجعل مخاطر الانتهاكات تهدد سلامة وحقوق اللاجئين العائدين. في هذا السياق يصبح من الضروري عقد اتفاق سياسي مع دمشق يتضمن آليات واضحة لضمان الامتثال. يجب أن تركز هذه الآليات على أن تكون العودة آمنة وطوعية وتحفظ كرامة العائدين. كما ينبغي أن يشمل إطار العودة حواراً سياسياً شاملاً يجمع بين أصحاب المصلحة الرئيسيين مثل المنظمات الدولية والجهات الفاعلة الإقليمية والحكومة السورية، حيث يتم الاتفاق فيه على ضمانات واضحة تشمل السلامة وعدم التمييز والحماية القانونية. 

ولكي تكون هذه الضمانات فعّالة يجب أن تتناول أيضاً إنشاء آليات مراقبة دقيقة لأوضاع العائدين لضمان الامتثال الكامل لمعايير حقوق الإنسان. بالإضافة إلى ذلك ينبغي تقديم ضمانات ملموسة بعدم تعرض اللاجئين لأي شكل من أشكال الانتقام. بدون مثل هذه الضمانات فإن أي خطة للعودة قد تكون غير آمنة وغير عملية وقد تعرقل جهود تحقيق الاستقرار. 

ولتعزيز فعالية هذه الجهود يمكن الاستفادة من أدوات متعددة تشمل الحوافز والعقوبات، والتركيز على دور الجهات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية. يُمكن أن تُستخدم جهود التطبيع العربية مع الحكومة السورية كرافعة لضمان عودة اللاجئين بشكل أكثر أهمية واستدامة. ومن الحوافز الرئيسية التي يمكن تقديمها التخفيف الجزئي للعقوبات المفروضة على النظام السوري مقابل خطوات واضحة ومحددة لضمان العودة الآمنة والكريمة. 

هذه الجهود يمكن أن تسهم في تعزيز ثقة الجهات المانحة ودعمها لتمويل مبادرات التعافي المبكر وهي خطوة حيوية لاستقرار المجتمعات. إذ يتيح هذا التمويل استعادة الخدمات الأساسية وسبل العيش وهياكل الحوكمة المحلية، مما يمهّد الطريق لبيئة تدعم اندماج العائدين في وطنهم. في هذا الإطار ينبغي أيضاً أن يمارس المانحون الدوليون ضغوطاً لضمان احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان من قبل جميع الأطراف مع التركيز على دعم الإصلاحات المتعلقة بحقوق السكن والأراضي والتجنيد الإجباري، وهي قضايا غالباً ما تكون في صميم التحديات التي يواجهها العائدون. بالإضافة إلى ذلك فمن الضروري لتسهيل العملية توفير معلومات شفافة حول الشروط الإدارية والإجراءات المطلوبة للعودة. كما يجب ضمان تمكين كيانات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من مراقبة أوضاع العائدين وضمان حصولهم على الوثائق المدنية اللازمة دون أي تمييز. 

العودة الجماعية: لحظة حرجة  

شهدت العودة الأخيرة واسعة النطاق لأكثر من 300,000 لاجئ سوري سيناريو غير مسبوق يتيح فرصة لتقييم واقع العودة الطوعية وتطوير استراتيجيات أكثر فعالية للمستقبل. تُبرز هذه الموجة أهمية التنسيق المكثف وتطوير أنظمة دعم وآليات حماية لضمان أن تكون العودة المستقبلية آمنة ومستدامة وتحترم كرامة العائدين. 

أصبح تكثيف الجهود لإدارة عمليات العودة أولوية ملحّة. فالرصد الشامل والتقييم المنهجي لتجارب العائدين الجدد يعدان ضروريين لفهم التحديات التي يواجهونها خاصة تلك المتعلقة بإعادة الإدماج والوصول إلى الخدمات الأساسية والسكن، إضافة إلى الحماية من الانتهاكات بما فيها التجنيد القسري الذي يمارسه النظام السوري. 

في الوقت نفسه تظل قدرة سوريا على استيعاب الأعداد الكبيرة من العائدين قضية جوهرية تثير القلق. فمع ضعف الاقتصاد والبنية التحتية وقد يؤدي استيعاب هذا العدد الكبير في فترة قصيرة إلى ضغط إضافي على الأنظمة الهشة – خاصة في المناطق الحضرية. تشير الحكومة السورية إلى استعدادها لاستقبال العائدين في المناطق الريفية حيث قد تكون هناك فرص أكبر لإعادة الإعمار والتنمية. لكن تحقيق ذلك يتطلب استثمارات مستهدفة لضمان توفير سبل العيش والخدمات الأساسية في تلك المناطق.  

ولحل قضايا حقوق السكن والأراضي والممتلكات (HLP) للاجئين والتي فقد الكثير من اللاجئين حقوقهم فيها أثناء النزاع، يجب إنشاء آليات قانونية ونظم تعويض تُمكّن العائدين من استعادة ممتلكاتهم أو الحصول على تعويض عادل. إلا أن تاريخ النظام السوري في تجاهل هذه الحقوق يعزز الحاجة إلى نهج استراتيجي يتضمن شروطاً واضحة لاستعادة هذه الحقوق في أي مفاوضات معه – مدعومة بضغوط وحوافز دولية مثل التخفيف الجزئي للعقوبات كوسيلة لتشجيع الامتثال. 

ولا يجب أن تقع المسؤولية الكاملة على عاتق المنظمات الدولية وحدها. بل يجب أن تكون استعادة حقوق السكن وخلق فرص معيشة قابلة للحياة جزءاً أساسياً من أي مفاوضات مستقبلية مع النظام السوري. تُعتبر هذه التدابير ضرورية لضمان أن تسهم عودة اللاجئين في تعافي سوريا على المدى الطويل، وتمكينهم من إعادة بناء حياتهم بأمان وكرامة. 

الركيزة السياسية الثانية: تحسين المسارات القانونية للهجرة  

إن إنشاء مسارات قانونية للاجئين السوريين للاستقرار في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الغرب الأوسع ودول مجلس التعاون الخليجي، يُعد ركيزة أساسية لأي حل طويل الأمد لأزمة اللاجئين في لبنان. كما أنه خطوة حيوية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والديموغرافي للاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من الخطاب السياسي المناهض للهجرة وصعود اليمين المتطرف في أوروبا فإن الواقع يشير إلى حاجة العديد من دول الاتحاد الأوروبي إلى الهجرة القانونية. وتساهم هذه الحاجة في معالجة التحديات المتمثلة في شيخوخة السكان وانخفاض معدلات المواليد إلى ما دون مستويات الإحلال ونقص العمالة. يتم الاعتراف بهذا الواقع حتى من قبل السياسيين المناهضين للهجرة، مثل رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، التي اضطرت بشكل متناقض إلى زيادة أعداد المهاجرين الذين يمكنهم العمل بشكل قانوني في إيطاليا لسد نقص العمالة. 

إلى جانب المساهمة في الاستقرار الاقتصادي لأوروبا، فإن تعزيز المسارات القانونية للهجرة يمكن أن يقلل بشكل كبير من الضغط على لبنان من خلال توفير طرق منظمة وآمنة للاجئين مما يحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية. وقد أظهرت تجربة عام 2015 عندما طغت زيادة غير منظمة في أعداد اللاجئين على الاتحاد الأوروبي، أهمية تبني نهج استباقي ومنظم لإدارة الهجرة بما يخدم المصالح الإنسانية والاستراتيجية. ولتحقيق ذلك يمكن التركيز على مسارين رئيسيين: 

إعادة التوطين للاجئين الأكثر ضعفاً 

إعادة التوطين هي عملية نقل طوعية ودائمة للاجئين الأكثر حاجة إلى بلد ثالث. تُعد هذه العملية استجابة إنسانية وعملية لتلبية احتياجات اللاجئين الضعفاء، حيث توفر مساراً منظماً يضمن توثيق اللاجئين وفحصهم قبل الوصول إلى البلدان المضيفة. يسمح هذا النهج بتخطيط أفضل لتخصيص الموارد، حيث تضمن الدول المضيفة حصول اللاجئين على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والإسكان والتعليم. 

الهجرة القانونية للعمال ذوي المهارات العالية والمنخفضة 

تشمل الهجرة القانونية العمال ذوي المهارات العالية الذين يفتقرون إلى الفرص في لبنان، بالإضافة إلى العمالة ذات المهارات المنخفضة في القطاعات التي تعاني من نقص في الاتحاد الأوروبي. من خلال منح اللاجئين وضعاً قانونياً يمكنهم الوصول إلى سوق العمل الرسمي، مما يقلل من خطر استغلالهم ويمكنهم من المساهمة الاقتصادية والمالية. 

إلى جانب المنافع التي تعود على الاتحاد الأوروبي، فإن المسارات القانونية للهجرة تقدم فوائد كبيرة للبنان أيضاً. إذ يمكنها تحسين فرص العمل للعمال اللبنانيين ذوي المهارات العالية من خلال الحدّ من المنافسة مع اللاجئين متساوي المهارات. كما تقلل المنافسة على الوظائف ذات المهارات المنخفضة مما يخفف التوترات الاجتماعية التي نشأت بسبب تداخل القوى العاملة. بالإضافة إلى ذلك فإن الهجرة القانونية تزيد من تدفقات التحويلات المالية من قبل السوريين إلى لبنان ما قد يساهم في تعزيز استقراره الاقتصادي ودعم استقلالية اللاجئين المتبقين في لبنان. 

التحديات  

غياب الإرادة السياسية   

إن تنامي النزعة القومية والمشاعر المعادية للمهاجرين  للمهاجرين في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يخلق ضغوطاً داخلية كبيرة تعيق توسع مسارات الهجرة القانونية. واليوم تواجه العديد من الدول الأوروبية – حتى تلك التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين من الشرق الأوسط مثل ألمانيا والسويد –   ضغوطاً متزايدة من الجماعات اليمينية المتطرفة والسياسيين القوميين للحد  من استقبال مزيد من اللاجئين. خاصة أن هذه الدول تواجه تحديات مستمرة في مجالات الاندماج والإسكان والتماسك الاجتماعي، مما يجعلها أكثر تحفظاً في دعم سياسات هجرة أكثر شمولاً.   

علاوة على ذلك فإن غياب وحدة الموقف السياسيي داخل الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالهجرة يُعقّد التقدم نحو توسيع المسارات القانونية. ففي حين أن بعض الدول الأعضاء أكثر انفتاحاً، هناك دول أخرى تعارض بشدة هذه الخطوات. أدى هذا الانقسام إلى نهج مجزأ يمنع الاتحاد الأوروبي من تنفيذ استراتيجية موحدة وفعالة لإدارة اللاجئين السوريين والهجرة القانونية. وحتى مع اعتماد ميثاق الهجرة واللجوء مؤخراً جاءت الانتقادات من كلا جانبي الطيف السياسي إذ رأى البعض أن الميثاق متساهل للغاية مع الهجرة، بينما يرى آخرون أنه لا يلبي الاحتياجات الإنسانية والتكامل بشكل كافٍ. 

ولتجاوز هذه التحديات هناك حاجة ماسة إلى تحول منسق في الإرادة السياسية على مستوى الاتحاد الأوروبي. يجب أن تتجاوز السياسات الحسابات قصيرة الأمد المدفوعة بالضغوط الشعبوية والمعارضة للهجرة، من خلال تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء والعمل على تقاسم الأعباء بشكل أكثر عدالة. يجب أن تركّز السياسات على حماية اللاجئين مع معالجة المخاوف المتعلقة بالاندماج. على الزعماء السياسيين أن يبرزوا كيف يمكن للهجرة القانونية المنظمة أن تسهم في حل تحديات حقيقية مثل نقص العمالة وتعزيز النمو الاقتصادي وزيادة الإيرادات الحكومية ومعالجة القضايا الديموغرافية مثل شيخوخة السكان. قد لا يكون ترويج هذه الأفكار سهلاً، إلا أنه ممكن على المدى الطويل حتى على يمين الطيف السياسي في أوروبا.   

التكامل يتطلب الموارد   

إلى جانب الإرادة السياسية فإن تكامل اللاجئين في المجتمعات الأوروبية وأسواق العمل يتطلب استثمارات كبيرة في البداية، تشمل تطوير برامج إعادة التوطين وإنشاء مسارات الهجرة القانونية. يتضمن ذلك ضمان حصول اللاجئين على التدريب اللغوي اللازم والبرامج المهنية وأنظمة إصدار الشهادات التي تساعدهم على تلبية متطلبات سوق العمل. 

أما مسارات الهجرة القانونية مثل تلك التي تستهدف العمال من ذوي المهارات العالية أو شبه المهرة، فيمكن أن تستفيد بشكل كبير من استراتيجيات تكامل مصممة خصيصاً لتسهيل دخولهم إلى سوق العمل. يتطلب ذلك تنسيقاً فعالاً للإجراءات القانونية وتبسيط البيروقراطية وتوفير أنظمة دعم تشمل ليس فقط الاندماج في سوق العمل، ولكن أيضاً تأمين الوصول إلى السكن والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية. 

ومع ذلك قد تنشأ مقاومة من السكان المحليين الذين يشعرون بالقلق إزاء قضايا مثل المنافسة على الوظائف والهوية الوطنية أو المخاطر الأمنية، خاصة إذا كانت سياسات التكامل سيئة التنفيذ أو التواصل. لذلك على الحكومات اتخاذ تدابير استباقية لمعالجة هذه المخاوف مع التأكيد على الفوائد الاقتصادية والاجتماعية طويلة الأمد التي يمكن أن يحققها تدفق العمالة المدارة جيداً. 

من خلال تقديم إدماج اللاجئين كبديل للهجرة غير النظامية وفرصة لتعزيز الاقتصادات، يستطيع زعماء الاتحاد الأوروبي تأطير هذه السياسة كفرصة وليس عبئاً. تهدف مسارات الهجرة القانونية إلى دعم استراتيجيات سوق العمل القائمة والمساعدة في سد النقص وتعزيز التنوع. ومن بالغ الأهمية نقل القادة السياسيون هذه الفوائد بوضوح إلى الجمهور وصناع القرار والتركيز على إسهام السياسات في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي. 

محدودية النطاق 

على الرغم من أهمية برامج إعادة التوطين إلا أن نطاقها يظل محدوداً. وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن أقل من واحد في المئة من اللاجئين يستوفون المتطلبات المحددة لإعادة التوطين. وبالمثل فإن المسارات القانونية المتاحة للعمال ذوي المهارات العالية –على الرغم من فوائدها– تعاني من قيود جوهرية. هذه المسارات تستهدف شريحة صغيرة فقط من اللاجئين الذين يمتلكون مهارات متخصصة ويستوفون معايير محددة، مما يعني استبعاد الغالبية العظمى الذين لا يندرجون ضمن هذه الفئات. نتيجة لذلك تظل فعالية هذه المسارات في معالجة أزمة اللاجئين الأوسع نطاقاً محدودة بطبيعتها. يمكن لجزء صغير فقط من اللاجئين الاستفادة من هذه البرامج، مما يترك الغالبية دون خيارات قانونية قابلة للتطبيق للهجرة ويجبرهم في كثير من الأحيان على اللجوء إلى مسارات غير نظامية محفوفة بالمخاطر. إذاً يصبح من الضروري لمعالجة هذه القيود تبنّي نهجٍ أكثر شمولاً وتدريجية للهجرة القانونية على المدى الطويل بما يشمل توسيع نطاق البرامج الحالية وإنشاء مسارات جديدة تستهدف العمال شبه المهرة وأصحاب المهارات الأقل. ومن خلال تطوير هذه المسارات في بلدان الأصل يمكن تصميم حلول تعكس المهارات المتنوعة والاحتياجات المختلفة للاجئين وإتاحة خيارات قانونية وآمنة للهجرة لمزيد من الأشخاص. 

الخطوات المقبلة 

فرص التوطين الجديدة   

اعتمد الاتحاد الأوروبي مؤخراً ميثاق الهجرة واللجوء  الذي يتضمن إطار الاتحاد الأوروبي لإعادة التوطين والقبول الإنساني (URF). يهدف هذا الإطار إلى تعزيز المسارات القانونية للحماية الدولية وتوطيد الشراكات مع الدول الأخرى، كما يقدّم إجراءات مشتركة وخطة عمل مدتها سنتان لتنسيق عمليات القبول بدعم مالي من الاتحاد الأوروبي. 

والآن وبعد أن وافقت الدول الأعضاء على تنفيذ برنامج أكثر عدلاً وتوحيداً لإعادة التوطين عبر الاتحاد الأوروبي، يجب أن يتم تحديد معايير واضحة لاختيار المرشحين المؤهلين. من المرجح أن تستمر الأولوية في التركيز على اللاجئين الأكثر ضعفاً بما يتماشى مع توجيهات الأمم المتحدة الحالية. وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هناك ما لا يقل عن 232,000 لاجئ سوري في لبنان بحاجة ماسة إلى إعادة التوطين –وقد يكون الرقم الفعلي أعلى بكثير. لذلك يحتاج الاتحاد الأوروبي من خلال إطار إعادة التوطين الجديد إلى تسريع العملية لتوفير الحماية والفرص اللازمة للاجئين.  

مسارات للمهاجرين ذوي المهارات العالية   

يتطلب تكييف أدوات الهجرة الخاصة بالاتحاد الأوروبي لتلبية احتياجات اللاجئين السوريين في لبنان حلولاً مبتكرة. يقدم ميثاق الهجرة التابع للاتحاد الأوروبي مسارات جديدة محتملة بما في ذلك “مجمع المواهب في الاتحاد الأوروبي” الذي يسهل على العمال ذوي المهارات العالية العيش والعمل في أوروبا. ومن بين الأدوات السياسية المتاحة أي شراكة المواهب وهي إطار عمل يتيح لمواطني الدول الشريكة الدراسة أو العمل أو التدريب في الاتحاد الأوروبي. حالياً يقتصر هذا الإطار على المواطنين المصريين والمغاربة والتونسيين، لكن يمكن توسيعه ليشمل لبنان. 

كما يمكن إقامة شراكات متعددة الأطراف بين بلدان المنشأ والمقصد تشمل أصحاب المصلحة في القطاعين العام والخاص. على سبيل المثال يمكن تنفيذ  شراكات الهجرة المؤقتة التي تُعيد استثمار الضرائب على الرواتب من بلدان المقصد في الابتكار والتعليم في بلدان المنشأ أو شراكات المهارات والتنقل التي تتضمن برامج تلمذة صناعية مدعومة بتمويل عام وإعانات أصحاب العمل. 

ولتعم الفائدة يجب أيضاً أن تشمل مسارات الهجرة المواطنين اللبنانيين بالتعاون مع الحكومة اللبنانية. من خلال توفير فرص للعمل أو الدراسة أو التدريب في الخارج، يمكن لهذه البرامج المساهمة في الحد من هجرة الأدمغة ودعم النمو المهني للعاملين بهدف عودتهم في المستقبل. 

فرص للعمال ذوي المهارات المتوسطة والمنخفضة  

إلى جانب مسارات للمهارات العالية يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى معالجة النقص في العمالة ضمن القطاعات التي تعتمد على العمالة ذات المهارات المتوسطة والمنخفضة. يمكن هنا توسيع إطار شراكة المواهب أو تطوير آليات جديدة تلبي احتياجات هؤلاء العمال. فمثلاً توجيه اللاجئين نحو الوظائف التي تعاني من نقص على مستوى الاتحاد الأوروبي أو عرضة للنقص في المستقبل يمكن أن يحد من المنافسة على الوظائف المتاحة ويحقق الأهداف الثلاثية المتمثلة في إدماج اللاجئين في سوق العمل الأوروبية ومعالجة فجوات العمالة في القطاعات الحيوية وتقليل التوترات الاجتماعية التي يولدها التنافس على العمل. 

إضافة إلى ذلك، يتعين على دول مجلس التعاون الخليجي لعب دور أكبر من خلال تبني برامج هجرة مماثلة لتلك المقترحة للاتحاد الأوروبي. تمتلك هذه الدول اقتصادات سريعة التوسع واعتماداً كبيراً على العمالة الأجنبية، ما يجعلها في وضع مثالي لتوفير فرص عمل للاجئين السوريين. يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي الاستفادة من التشابه الثقافي وانخفاض الحواجز اللغوية لدعم إدماج اللاجئين السوريين في أسواق العمل لديها باستخدام آليات تبادل العمالة القائمة معالجة الاحتياجات الإنسانية والاقتصادية على حد سواء. وهذا النهج لن يؤدي فقط إلى تخفيف عبء اللاجئين عن لبنان بل سيتماشى أيضاً مع احتياجات سوق العمل في دول مجلس التعاون الخليجي بما يخلق ترتيباً متبادلاً يعود بالفائدة على جميع الأطراف. 

الركيزة السياسية الثالثة: تسوية أوضاع اللاجئين السوريين المتبقين  

مع عودة أكثر من 300 ألف لاجئ سوري إلى سوريا منذ سبتمبر 2024 نتيجة الصراع في لبنان يصبح من غير الواقعي توقع عودة جميع اللاجئين أو إعادة توطينهم على المدى القصير أو حتى المتوسط. وفي ظل هذه الواقع فإن الإبقاء على الوضع الراهن بالنسبة للاجئين المتبقين ليس خياراً مستداماً. إن حالة الإهمال الحالية لا تقتصر على الفشل في تلبية احتياجات اللاجئين الأساسية، بل تؤدي أيضاً إلى إدامة الاستغلال وزيادة التوترات الطائفية والاضطرابات الاجتماعية من خلال تكريس تهميش اللاجئين. يؤثر هذا النهج سلباً أيضاً على المجتمعات اللبنانية المضيفة، حيث يؤدي تدفق العمالة غير الرسمية إلى انخفاض الأجور ويزيد من الاستياء بين العمال اللبنانيين لا سيما في القطاعات ذات المهارات المنخفضة. هذا الوضع يؤجج التوترات الاجتماعية ويقوض الاستقرار الاقتصادي مما يدل على الحاجة الملحّة لتسوية أوضاع اللاجئين المتبقين. 

تقدم تسوية أوضاع اللاجئين فوائد اقتصادية واجتماعية عديدة مما يجعلها سياسة طويلة المدى ذات جدوى للبنان. من الناحية الاقتصادية يساعد تنظيم أوضاع اللاجئين على إدارة أسواق العمل وجمع الضرائب وتوفير بيانات ديموغرافية وديناميكيات سوق العمل مما يعزز قدرة الدولة على التخطيط والسيطرة على الهجرة المستقبلية. 

يمكن أن تفيد هذه السياسات اللبنانيين أيضاً من خلال خلق فرص اقتصادية أكثر إنصافاً. فحين يُوظَّف اللاجئون السوريون بشكل قانوني يصبح من الأسهل فرض معايير الأجور – مثل الحد الأدنى للأجور –  مما يحد من استغلالهم ويقلل من المنافسة غير العادلة مع الباحثين عن عمل اللبنانيين. كما يمكن أن يُمكّن الوضع الاقتصادي المحسن للاجئين من العودة إلى سوريا بشكل طبيعي أكثر إذا سمحت الظروف بذلك، حيث يمكنهم حينها تجميع رأس المال اللازم لتسهيل إعادة اندماجهم في وطنهم أو للتغلب على العقبات البيروقراطية مثل دفع رسوم تخفيف الخدمة العسكرية الإلزامية. أما من الناحية الاجتماعية فالتسوية تسهم في تحسين ظروف معيشة اللاجئين وعملهم مما يقلل من التهميش. وهي تتماشى مع سياسة لبنان بعدم إقامة المخيمات عبر إتاحة حرية الحركة للسوريين والانخراط بشكل كامل في المجتمع. وبالنسبة لأولئك الذين يعيشون في مخيمات غير رسمية فإن هذا التنقل ضروري لتحسين نوعية حياتهم والحد من المخاطر المرتبطة بالعزلة الاجتماعية. 

تُعد تسوية أوضاع اللاجئين السوريين من أكثر الحلول إثارة للجدل بالنسبة لصناع القرار اللبنانيين، وتتطلب تحولاً سياسياً واقتصادياً كبيراً. تعود هذه الحساسية إلى تجربة لبنان التاريخية المضطربة مع اللاجئين الفلسطينيين ما أدى إلى تردد الحكومة في تبني سياسات طويلة الأمد تجاه اللاجئين. في الوقت الحالي تركز الحكومة اللبنانية على تطبيق تدابير قمعية وغير فعالة لإدارة المخالفات، وهو ما يجعل تنفيذ تسوية قانونية للاجئين السوريين مهمة شاقة. 

الهدف من تسوية أوضاع اللاجئين السوريين ليس تكرار التجربة الفلسطينية بل تطوير إطار يمنحهم وضعاً قانونياً يتيح لهم العمل والوصول إلى الخدمات الأساسية دون اندماجهم الكامل في المجتمع اللبناني. يركز هذا النهج على إدارة مؤقتة تمهد الطريق لعودتهم إلى سوريا في نهاية المطاف، مع مركزية الخدمات وتجنب الأنظمة الموازية ومواءمة مشاركة اللاجئين مع السياسات الوطنية القائمة. 

يتطلب أي برنامج لتسوية الأوضاع إدارة حذرة وتنفيذاً مرحلياً وتعاوناً بين مختلف القطاعات. يمكن أن تبدأ العملية بسد فجوات العمل وفتح قطاعات محددة تدريجياً مثل الزراعة والبناء والخدمات، حيث يعمل اللاجئون السوريون بشكل غير رسمي حالياً. مثلاً تشير التجربة الأردنية مع تسوية أوضاع اللاجئين السوريين إلى إمكانية نجاح مثل هذه الجهود –على الرغم من التحديات التي واجهتها. ويمكن للبنان أن يستفيد من الدروس المستخلصة من النموذج الأردني مع تعديله ليتناسب مع سياقه السياسي والاقتصادي الخاص. 

العبء المالي: حقيقة أم مبالغة؟ 

على الرغم من أن تنفيذ سياسات تسوية الأوضاع يطرح تحديات، خاصة على مستوى الإرادة السياسية والدعم الشعبي، إلا أن العبء المالي المرتبط بها غالباً ما يكون مبالغاً فيه. يتطلب تنفيذ هذه السياسات التزاماً سياسياً أكثر من الموارد المالية الواسعة. إذ يمكن تخفيف التحديات المالية من خلال تخصيص عائدات الضرائب الناتجة عن سوق العمل الرسمي، حيث يساهم اللاجئون السوريون النظاميون. وقد أثبت لبنان قدرته على التنفيذ عند الضرورة كما تبيّن من خلال الحملات السابقة ضد العمل غير الرسمي. يمكن أن تساعد عمليات الرقابة على العمل وإعادة تخصيص الموارد المتاحة في إدارة المرحلة الانتقالية دون تحميل ميزانية الدولة عبئاً إضافياً. ومن المهم أيضاً توضيح الفوائد الاقتصادية طويلة الأمد لتسوية الأوضاع، بما في ذلك الحد من الاستغلال وزيادة الإيرادات الضريبية وتحسين سوق العمل. فإن إيصال هذه الفوائد بوضوح للجمهور اللبناني يمكن أن يساعد في حشد الدعم السياسي والشعبي. كما يمكن أن يضمن النهج التدريجي تطبيقاً سلساً ومقبولاً بحيث يستفيد لبنان من العمالة الرسمية ويعالج المخاوف المحلية في آن واحد. 

الخطوات المقبلة 

إعادة تفعيل تسجيل اللاجئين 

الخطوة الأولى نحو أي عملية تسوية ناجحة هي إعادة بدء تسجيل اللاجئين السوريين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. يتيح التسجيل توفير الحماية القانونية، وضمان الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتعزيز التنسيق في توزيع المساعدات الإنسانية. كما يوفر بيانات دقيقة ضرورية لتخطيط حلول طويلة الأمد وتمويلها، إلى جانب تحديد عدد اللاجئين السوريين بشكل موثوق، وهو أمر طالما كان مثار جدل ومجالاً للتكهنات على مدى سنوات. 

التسوية لمرة واحدة   

رغم وجود العديد من الأطر لبرامج التسوية تُعد البرامج “لمرة واحدة” خياراً مناسباً لتسوية أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان والمجتمعات المضيفة. تُصمم هذه البرامج لتقديم تصاريح إقامة مؤقتة وعمل لعدد كبير من الأشخاص خلال فترة تقديم محدودة ووفقاً لمعايير صارمة تتعلق بالتوظيف ومدة الإقامة. ومن خلال تقييد مدة البرنامج يتم تشجيع اللاجئين على تسوية أوضاعهم بسرعة، مع إمكانية تقييم البرنامج وإجراء تعديلات منتظمة عليه. 

يمكن لهذه البرامج أن تحقق تسوية فعالة للاجئين الحاليين مع منع المزيد من حالات التسوية مما يقلل من احتمالية تدفق لاجئين جدد. ومع ذلك ينبغي أن يوفر أي برنامج تسوية في لبنان مساراً واضحاً للعودة إلى سوريا أو لمواصلة الهجرة لجعل خيارات اللاجئين أكثر جاذبية من البقاء في لبنان بشكل دائم. 

سبل العيش وسوق العمل  

يجب أن تكون عملية دمج العمال السوريين في سوق العمل الرسمي تدريجية لتجنب إرباك الاقتصاد اللبناني. يعمل السوريون والفلسطينيون حالياً في كل من القطاعين الرسمي وغير الرسمي، ولذلك ينبغي التركيز على نقل هؤلاء العمال إلى السوق الرسمية بآليات متوازنة. يمكن أن تشمل هذه الآليات دراسات استقصائية منتظمة لسوق العمل وحصص عمل محددة وحوافز لأصحاب العمل لضمان تكافؤ الفرص بين السوريين والمجتمعات اللبنانية واللاجئين الفلسطينيين. 

وسيحتاج لبنان إلى طلب دعم المجتمع الدولي للتعامل مع التحديات الناجمة عن القوى العاملة الإضافية. كما يُعد من بالغ الأهمية دعم التعافي الاقتصادي والإصلاحات في البلاد بما يتماشى مع الخطط الدولية التي وافقت عليها الحكومة اللبنانية وأن تلتزم الجهات المانحة الدولية باستثمارات تعود بالنفع على اللاجئين والمجتمعات المضيفة بما يعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. 

توفر البيانات الدقيقة المستمدة من تسجيلات اللاجئين فرصة قيمة للجهات المانحة لتوجيه استثماراتها بشكل مستهدف. ويمكن لهذه البيانات أن تساعد في تحديد أولويات المشاريع التي تدعم الخدمات العامة مثل توسيع مرافق الرعاية الصحية وزيادة الطاقة الاستيعابية للمدارس وتحسين شبكات النقل. 

من الضروري اعتماد نهج طويل الأمد ومنسق يشمل جميع الأطراف المعنية – أي اللاجئين السوريين والحكومة اللبنانية والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي والجهات المانحة الدولية – لضمان الاستقرار ومنع التدهور.

وصلت أزمة اللاجئين السوريين في لبنان إلى مرحلة مفصلية، خاصة بعد العودة واسعة النطاق لأكثر من 300 ألف لاجئ. لم يعد بالإمكان الاستمرار في نهج التقاعس الذي ساد خلال العقد الماضي، والذي أدى إلى تفاقم معاناة اللاجئين وزيادة الضغوط على النسيج الاجتماعي والاقتصادي في لبنان. يتطلب الوضع الحالي تدخلًا حاسمًا من قبل جميع الأطراف المعنية، خاصة الاتحاد الأوروبي، لتوفير استجابة أكثر إنسانية واستدامة لهذه الأزمة الممتدة. إن التداخل العميق بين سوريا ولبنان وأوروبا من خلال الروابط التاريخية والسياسية والاقتصادية يؤكد أن أي حل لهذه الأزمة يجب أن يكون شاملاً وتعاونياً. إن التوصيات الموضحة – العودة الطوعية الآمنة والكريمة التي تتم مراقبتها، مسارات الهجرة القانونية، وتنظيم أوضاع اللاجئين السوريين – تقدم إطاراً عملياً للتعامل مع الأزمة بطريقة متوازنة. 

يتطلب تنفيذ هذه التوصيات فهماً دقيقاً للواقع السياسي والاقتصادي داخل لبنان وسوريا وعلى المستوى الدولي. يجب أن تأخذ برامج تسوية الأوضاع بعين الاعتبار حقوق اللاجئين إلى جانب الضغوط التي تواجهها المجتمعات اللبنانية. وينبغي أن تكون العودة الطوعية مبنية على مبادئ السلامة والكرامة مما يستلزم إشرافاً دولياً قوياً وتعاوناً مع النظام السوري. في الوقت نفسه توفر مسارات الهجرة القانونية فرصة لتخفيف الضغوط الداخلية في لبنان مع الاستفادة من اللاجئين في القوى العاملة الدولية، لا سيما في الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. 

لن تُحل هذه الأزمة من خلال إجراءات قسرية أو تدابير قصيرة الأجل. فالترحيل القسري والهجرة غير النظامية لا ينتهكان حقوق الإنسان فحسب، بل يسهمان أيضاً في استمرار دوائر عدم الاستقرار. ومن الضروري اعتماد نهج طويل الأمد ومنسق يشمل جميع الأطراف المعنية – أي اللاجئين السوريين والحكومة اللبنانية والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي والجهات المانحة الدولية – لضمان الاستقرار ومنع التدهور. والآن هو الوقت الأنسب للتحول من التدابير المؤقتة التفاعلية إلى إطار دائم مبني على الحقوق يُعزز الكرامة والمسؤولية المشتركة ويضمن الاستقرار على المدى الطويل. ومن خلال التزام جاد بالسياسات المقترحة هنا، يمكن للبنان وشركائه الدوليين العمل نحو مستقبل أكثر استقراراً وإنصافاً لكل من اللاجئين السوريين والمجتمعات اللبنانية المضيفة. 
 
ملاحظة من مركز السياسات البديلة: كتبت هذه الورقة البحثية قبل سقوط النظام السوري وهروب الرئيس السوري بشار الأسد.  
 

المواضيع ذات الصلة