تفكيك البنية وراء المحافظ الالكترونية : المصالح المصرفية السياسية تعيد انتاج نفسها

إبعاد شركتي "ألفا" و"تاتش" عن سوق المحافظ الإلكترونية يثري الشركات الخاصة على حساب خزينة الدولة والمواطن

كانون الأول 23, 2024

خلفية: 

رَسَت التعاملات الماليّة في لبنان لفترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ على الصيغة الاحتكاريّة التي شجّعها مصرف لبنان، عبر حصر خدماته الأساسيّة، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالتحويلات الرقميّة، بالقطاع المصرفيّ التقليديّ. ولم يمنح رخصه سوى لهذه المصارف ولبضعة مؤسّساتٍ ماليّة. وكان على اللّبنانيين الاكتفاء بما أُتيح لهم من وسائل “للتحويل”، فاضطرّوا للتكيّف مع بيروقراطيتها ونفقاتها المرتفعة، إلى أن تفجّرت الأزمة الماليّة في العام 2019.

ترافق تدهور قيمة العملة الوطنيّة خلال هذه الفترة، مع انهيار الثقة بالمصارف الّتي صادرت أموال المودعين. فتحوّلت معها البطاقات الائتمانيّة، الّتي كانت وسائل سهلة لتلقّي الأموال أو إرسالها إلكترونيًّا، إلى “حرق للأعصاب” أمام آلات الصرّاف الآلي (ATM) وترسّخ لفترةٍ طويلةٍ مشهد الناس وهم يحاولون سحب أكبر قدرٍ من المال “الكاش” لوضعه في جيوبهم وخزناتهم، كسيولةٍ ماليّة.

ومع التهافت على سحب “الكاش”، وفي ظلّ التضخّم وانهيار قيمة العملة الوطنيّة، اشتدّت الأزمة وصار الأمر مرهقًا لحملته، إذ لم تعد أيّ محفظة جيب قادرة على استيعاب ما يوازي قيمة الـ100 دولار بالعملة الوطنيّة. إلا أنّ التداعيات الأخطر لهذا التضخّم كانت بدفع لبنان إلى القائمة الرماديّة لمجموعة العمل الماليّ FATF. ولم يكن هناك مهربٌ من اللّجوء إلى وسائل تحويلٍ إلكترونيّة ماليّة أقلّ “تلوّثًا” (أي أقلّ عرضةً لأنشطةٍ غير قانونيّة) وأكثر أمانًا. 

وعليه، دخل لبنان في عصر المحافظ الإلكترونيّة بعد واحدةٍ من أسوأ الأزمات الماليّة في تاريخ العالم الحديث. وقد بدا مصرفه المركزيّ “مُجبرًا لا بطلًافي سعيه لتدارك مخاطر الاقتصاد النقديّ المتفشّي على نطاقٍ واسع في مختلف التّعاملات. فمهّد لولادةِ المؤسّسات الماليّة المحليّة وتعميم خدماتها الرقميّة من خلال التعميم رقم 539 الذي صدر بتاريخ 17 كانون الثاني من العام 2020، ويتعلق بتعديل القرار الأساسي رقم 7548 الصادر منذ العام 2000، بما يسمح لعملاء المصارف في لبنان وحاملي بطاقات الدفع القيام بتحاويل مالية فورية instant payment عبر استخدام أجهزة الخليوي والتطبيقات المناسبة. هذا الأمر الذي لم يكن مسموحا سابقا مهد لبيئة أكثر تنافسية في قطاع التعاملات المالية الإلكترونية وتلاه تعاميم أخرى سعت لتدارك مخاطر الاقتصاد النقدي المتفشي على نطاق واسع في مختلف التعاملات.

وأُلحق التعميم بتعاميم أخرى، كان أبرزها التعميم رقم 165 الذي أمَّن مشروعيّةً لفتح حساباتٍ ماليّةٍ في مناطق مصرفيّةٍ جديدة، خُصّصت فقط لعمليات التسوية الإلكترونيّة على الشيكات والتحويلات المصرفيّة. إلّا أنّ هذا الأمر لم يلقَ حماس المصارف في ظلّ تراجع قدرتها على التّحقق من مصدر كلّ الأموال، إثر تفشّي الاقتصاد النقديّ، على الرغم من أهميّته في تقليص تداول الأوراق النقديّة بالدولار من خارج النظام الماليّ. وعليه، تحوّل معظم هذا النشاط إلى المؤسّسات الماليّة أو “المصرفيين الجدّد”… الذين تزايدوا في ظلّ قطاعٍ مصرفيّ “زومبي”، وسرّعوا خطواتهم لقطف خدمات تخصّصوا بتقديمها إلكترونيًّا، قبل تلمّس الطريق نحو الأطر الطبيعيّة الّتي يُفترض أن تُقدَّم من خلالها، أي بريد لبنان وشركتي الاتّصالات الخلويّة. 

تشكّل المؤسّسات الماليّة حاليًّا اللّوبي الموازي للمصارف في هيمنتها على التّعاملات الماليّة الرقميّة. وقد اجتهد كلّ منها لنيل حصّته من السّوق، عبر اتّفاقاتٍ عُقدت مع الجامعات والنقابات والمستشفيات والمؤسّسات الخاصّة، وصولًا إلى المنظّمات غير الحكوميّة الباحثة عن حلولٍ لتقديم بياناتٍ شفّافة حول أرقام نفقاتها. كما أنّها انتعشت بتمدّد خدماتها إلى مؤسّساتٍ حكوميّة، فنجحت في مصادرة الجزء الأكبر من الامتيازات الممنوحة لقطاع بريد لبنان، بالتزامن مع دخول الأخير في نفق العقد المُمدَّد مع ليبان بوست (Liban Post)، والخيبة في إتمام صفقةٍ مقبولة بمعايير الرقابة الإداريّة المُسبقة. .وكان لافتًا تمدّد النفوذ السياسيّ – الماليّ إلى بعضها، مخترقًا نوافذ التكنولوجيا وخدماتها الرقميّة، ليحاول إبقاءها امتيازًا بيد

أمامهما عقبات "مُفتعلة" غالبًا، وكشف الغوص في تفاصيلها عدم جدّية السلطة السّياسيّة الّتي تخضع الشركتان لوصايتها، أي وزارة الاتّصالات، في تطبيق الإصلاحات المطلوبة في القطاع.

في المقابل، لم تكن تعاميم مصرف لبنان الّتي شجّعت التحوّل نحو الاقتصاد الرقميّ كافيةً لتنطلق شركتا الموبايل اللبنانيتان: MIC1 المعروفة بـ“Alfa” وMIC2 : المعروفة بـ“Touch”، في بناء محفظتيهما الإلكترونيّتين ضمن بنيتهما الأساسيّة. فقد وضعت أمامهما عقبات “مُفتعلة” غالبًا، وكشف الغوص في تفاصيلها عدم جدّية السلطة السّياسيّة الّتي تخضع الشركتان لوصايتها، أي وزارة الاتّصالات، في تطبيق الإصلاحات المطلوبة في القطاع. وعليه، نُزعت هذه المحافظ حتّى الآن من جيب “Alfa” و“Touch” لتوضع تحت جناح مؤسّساتٍ ماليّة، حاولت التسلّل بعلاماتها التجاريّة لتقديم الخدمة عبرهما. 

تخلّف شركتا الاتّصالات الخلويّة عن تقديم خدمة المحفظة الإلكترونيّة 

تخلّفت “Alfa” و“Touch”حتّى الآن عن تقديم خدمتهما للمحفظة الإلكترونيّة، إذ لا تزالان بعيدتين حتّى عن أقرب الدول الّتي طوّرت أو تحاول تطوير محافظها ضمن سياساتٍ وطنيّةٍ لتحقيق الشمول الماليّ، مثل مصر ، حيث تحدّث تقريرٌ صدر في تشرين الأوّل من العام 2023 عن ارتفاع نشاط عملاء شركة “أورانج” على محفظتها “أورانج كاش” بنسبة 200 بالمئة، وزيادة عدد عملائها بنسبة 120 بالمئة. وكذلك الحال في الأردن، حيث أعلنت شركة الاتّصالات “أورانج” أنّها باتت تمتلك 800 ألف محفظةٍ إلكترونيّةٍ خلال سنة 2023. أمّا في الإمارات، فيخطّط أكثر من 50 بالمئة من المستهلكين لسداد مدفوعاتهم بغير النقد بنسبة 100 بالمئة بحلول عام 2024، وذلك وفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن Visa. 

عند التطرّق إلى تقديم خدمة المحفظة الإلكترونيّة عبر شركتي الاتّصال الخلويّ، يؤكّد خبير الاتّصالات، مدير عام شركة “تاتش” سابقًا، وسيم منصور: “إنّها لا تنطلق من عدم. فلدى الشركتين بنيتهما التسويقيّة الّتي أمّنت حضورهما عبر وكلاء مباشرين أو وكالات وسيطة، وبالتالي هما سابقتان للمؤسّسات الماليّة في تقديم الخدمات الماليّة لمشتركيهما، حتّى لو اقتصرت حتّى الآن على تغذية الخطوط وتسديد رسوم الخدمات المضافة أو البرامج والتطبيقات الّتي يتمّ تنزيلها عبر الموبايل.” ويرى أنّ “بناء المحافظ الإلكترونيّة يشكّل تطوّرًا في خدماتهما الأساسيّة الّتي تسمح بشراء كافّة السّلع وإجراء التحويلات على نطاقٍ واسع. علمًا أنّ الرسم الذي سيتمّ تقاضيه من خلال هذه الخدمة يؤمّن إيراداتٍ لشركات الاتّصال من خارج جيوب الناس مباشرة، ويتيح توظيف هذه الإيرادات في تطوير خبرات الموظّفين، سعيًّا لتأمين خدمات أفضل للمشتركين، ممّا ينعكس حتمًا على قيمتهما السّوقيّة.” ويعتبر منصور “أنّ ذلك يقع في صلب مسؤوليّات الإدارة الناجحة السّاعية إلى تطوير مواردها البشريّة والماليّة والتكنولوجيّة، بما يواكب تطوّرات العصر ومتطلّباته.” 

كشف النقاش الدائر حول إنشاء المحافظ الإلكترونيّة عبر الشركتين، منذ نحو العام، عن إشكاليّةٍ جوهريّةٍ في بلوغ مقاربةٍ واضحةٍ لمفهومها وطبيعة خدمتها. فهل هي خدمة أساسيّة (Core Service) على مشغّلي "Alfa" و"Touch" تقديمها مباشرةً ضمن خدماتهما الأساسيّة لمشتركيهما، كما أوصت به هيئة الشراء العام؟ أم هي خدمة إضافيّة (Value Added Service - VAS)، كخدمات الموسيقى والألعاب وغيرها؟

تتوافق “Alfa” و“Touch” على “فكرة المحافظ الإلكترونيّة المغرية” هذه. ولكن على الرغم من تلمّسهما الطريق إلى سوقها “الناشئ”، بالتزامن مع انطلاق مؤسّسات تحويل الأموال ومحافظها، فإنّ إصرارهما على تقديم الخدمة عبر موردٍ خارجيٍّ أثار الشبهات حول أهدافهما من طرحها. 

وقد كشف النقاش الدائر حول إنشاء المحافظ الإلكترونيّة عبر الشركتين، منذ نحو العام، عن إشكاليّةٍ جوهريّةٍ في بلوغ مقاربةٍ واضحةٍ لمفهومها وطبيعة خدمتها. فهل هي خدمة أساسيّة (Core Service) على مشغّلي “Alfa” و“Touch” تقديمها مباشرةً ضمن خدماتهما الأساسيّة لمشتركيهما، كما أوصت به هيئة الشراء العام؟ أم هي خدمة إضافيّة  (Value Added Service – VAS)، كخدمات الموسيقى والألعاب وغيرها؟ وقد تبنى وزير الاتصالات جوني القرم ذرائع عجز الشركتين عن تقديمها مباشرةً، ليؤيّد تلزيمها إلى “شريكٍ مضارب” من مؤسّسات تحويل الأموال الحاصلة على ترخيصٍ من مصرف لبنان، والّتي باشرت عملها على الأراضي اللبنانيّة. 

شكّلت هذه الإشكاليّة جوهر كلّ نقاشٍ دار بين فريق الوزارة وشركتي الاتّصال الخلوي من جهة، وهيئة الشراء العام وفريق النواب الذي تبنّى توصياتها من جهةٍ ثانية. لتتكشّف مع هذه النقاشات النوايا الحقيقيّة من طرح خدمة المحفظة الإلكترونيّة عبر “Alfa” و“Touch”، بدءًا من محاولة تمريرها خارج إطار قانون الشراء العام. 

في 21 آب من العام 2023، توجّهت Touch بكتابٍ إلى هيئة الشراء العام، تفصح فيه عن تلقّيها عروضًا من شركات مورّدة قالت إنّها “مؤهّلة” لإطلاق الخدمة على الأراضي اللبنانيّة. حدّدت Touch طبيعة الشراكة المطروحة من قبلها، والّتي تقوم على نموذج تقاسم الإيرادات (Revenue Share Model)، على أن يتّفق الطرفان لاحقًا على نسبتها. 

تجنّبت Touch الظهور في دائرة الضوء من خلال المواجهة التي خاضتها وزارة الاتصالات مع هيئة الشراء العام حول هذا الملف، وخصوصًا بعد التجاوزات الّتي كشفتها الهيئة حول صفقتها الموقعة مع شركة  Inmobiles لتقديم خدمة الرسائل القصيرة عبر التطبيقات  (A2P)وتوصيتها بإلغائها، وهي التوصية الّتي تبنّاها لاحقًا ديوان المحاسبة. فأبدت Touch توجّهًا لإعداد دفتر شروط يضمن التنافسيّة في تلزيم خدمة المحفظة الإلكترونيّة، والخضوع لقانون الشراء العام، ولكن مع تجاهل توصيتها الأساسيّة القاضية بتقديم الخدمة مباشرة. 

كانت Alfa أكثر وضوحًا أو “وقاحة” في سعيها لتخطّي قانون الشراء العام. فقد عرضت مباشرةً التعاقد الرضائيّ مع شركة “سيول”، ولقيت دعم وزير الاتصالات جوني القرم الذي أكّد عدم خضوع مشروعها لهذا القانون، مستندًا إلى دراسة أعدّتها سيولتُظهر إمكانيّة إتمام الصفقة بالتراضي، وفقًا لما نقله سؤالٌ نيابيّ وجّهته النائبة بولا يعقوبيان عن جلسات لجنة الاتصالات النيابيّة. علمًا أنّ القرم صرّح إعلاميًّا بأنّ Alfa هي صاحبة هذه الاستشارة. 

سواء جاءت هذه الاستشارة من Alfa أم من “سيول”، فقد أهمل القرم توصية المرجعية القانونية الوحيدة لمثل هذه الاستشارة، أي هيئة الشراء العام. وحاول مع Alfa إخضاع الهيئة لقرارهما بإتمام العقد رضائياً، بعدما انغمست Alfa بشكل مفرط في الترويج لمشروعها عبر رسالةٍ إلكترونيّةٍ وكتابٍ وجّهاهما إلى رئيس الهيئة، وقّع على الأولى المدير الماليّ لـ”ألفا” رفيق حداد، وعلى الثانية المدير العام جاد ناصيف. وقد رسم محتوى المستندين خارطة طريق مبكرة نحو هدفٍ واحد، وهو تأمين التغطية القانونيّة لمشروع العقد الرضائي. 

نضوج “الطبخة” التي أعدّها فريق وزارة الاتصالات، دفع بالوزير القرم إلى طرحها في اجتماعٍ للجنة الاتصالات النيابيّة في 15 تشرين الثاني، من خارج جدول أعمال الجلسة المخصّصة لمناقشة موضوع صفقة البريد، والّتي أصرّ القرم على توقيع عقدها مع تحالف شركتي “ميريت إنفست ش. م. ل.” اللبنانية و“Colis Privé France”، خلافًا لرأي وقرارات هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة. وكان واضحًا حينها أنّ “سيول” اطمأنّت لنتائج هذه الضغوطات إلى حدّ مباشرتها بعد فترةٍ قصيرة بنشر لوحاتٍ دعائيّة تؤشّر إلى فوزها بالعقد. 

وفقاً لنقاشات اللجنة، قُدّمت “سيول”، الّتي كانت قد انطلقت بعملها في لبنان قبل شهرين فقط، على أنّها الوحيدة القادرة على تقديم هذه الخدمة، كمدخلٍ للتهرّب من إجراء دراسةٍ للسوق. إلاّ أنّ رئيس هيئة الشراء العام جان العليّة، الذي كان حاضرًا في الاجتماع، أصرّ على هذه الدراسة واعتبرها أساسيّة لضمان حقوق خزينة الدولة من الصفقة. كما أصرّ على توصيته الصادرة في 13 تشرين الثاني 2023 بـ”أنّ تتولى الشركتان تنفيذ الخدمة بنفسيهما، لما في ذلك من رفدٍ للخزينة بمزيدٍ من الأموال وحمايةٍ لبيانات مستخدمي شبكتي الخليويّ”. وقدّم نموذجًا لذلك استند فيه إلى آراء خبيرة، ويقضي بإطلاق مناقصةٍ تستدرج شركاتٍ عالميّة تعنى بالبرمجيات (Software)  المتعلّقة بالمحفظة الإلكترونيّة، على أن يتمّ اختيار من يقدّم السّعر الأفضل. وفي هذه الحال، يكون السّعر الأفضل هو الرسم الأدنى الذي تتقاضاه الشركة عن كل عمليّة تحويلٍ تجري عبر برنامج الشركة الفائزة بالمناقصة. 

التفّ حول توصية الشراء العام لوبيٌ من نوابٍ وخبراء اعتبروا أنّ “الدولة عبر شركتي الاتصالات لديها مدخلٌ لهذه الخدمة غير متاحٍ لأي شركة تحويل للأموال، ومن شأنه وضع كلّ عمليات التحويل في إطار شرعيّ، ومنع التهرّب من التصريح الماليّ، مع الحفاظ على الأرباح من العمولات، وحماية بيانات المشتركين الّتي تشمل نحو خمسة ملايين مستفيد من خدمات شبكتي Alfa وTouch، بالإضافة إلى تطوير خبرات موظّفي الشركتين، ورفع قيمتهما السّوقيّة.” 

إلاّ أنّ القرم أدار أذنه الصمّاء للاقتراحات البديلة، كما بيّنت تصريحاته الصحافيّة لاحقًا. فشكّل جبهة واحدة مع شركة Alfa في شيطنة توصية الشراء العام. وحاول تعرية التوصية حتى من قانونيتها، متسائلًا عن المادة الّتي استندت إليها الهيئة في إصدارها. ولم يكن موقف القرم مفهومًا حينها، إلى أنّ بدأت تتكشّف خيوط تشابك المصالح السياسيّة والماليّة، الّتي حاولت ممارسة نفوذها لإتمام الشراكة مع “سيول”

شهرين من تقديم عرضها بالتزام محفظةٍ تُقدّم تحت علامتها التجاريّة مع Alfa. وهي تعمل في قبرص تحت غطاء "Astro Bank"

ويبدو لافتًا ما كشفه تقريرٌ صحافي تناول سيرة “سيول”، الّتي توضّح أنّها سُجّلت في لبنان في شهر تموز من العام 2023، أي قبل شهرين من تقديم عرضها بالتزام محفظةٍ تُقدّم تحت علامتها التجاريّة مع  Alfa. وهي تعمل في قبرص تحت غطاء  “Astro Bank”، وهو مصرفٌ مملوكٌ من شركاء لبنانيين على رأسهم مجموعة م. الصحناوي، الّتي عملت لسنوات في القطاع المصرفيّ في لبنان. علمًا أن أن تقريرًا صحفيًّا آخر تحدّث أيضًا عن شراكة مالك وسارة السيّد، نجل وكريمة النائب جميل السيد، في “Astro Bank” أقلّه بحسب مستندات صادرة عنه منذ سنة 2019 وقبل وضع وزارة الخزانة الاميركية جميل السيد على لائحة العقوبات الاميركية. وفي معلوماتٍ إضافيّة حصلت عليها “البديل”، فإنّ رئيس مجلس إدارة “سيول” وأحد المساهمين الرئيسيين فيها هو أرز المرّ، الذي يملك أيضًا موقع “النشرة” الإخباريّ، إلى جانب رجل الأعمال رومل شاوول صابر، نائب الرئيس السابق للتيار الوطني الحر وهو أيضًا كان أحد المساهمين الرئيسيين في تلفزيون OTV التابع للتيار، وشركاء آخرين. فبدت التركيبة مبرّرة تمامًا لتدخّل المدير المالي لـ Alfa مباشرةً في حملة مناصرة توقيع العقد الرضائيّ مع “سيول”، خصوصًا أنّ خوري هو أيضًا منسّق اللجنة المركزيّة للمال في التيار الوطنيّ الحرّ، أو أقلّه هذا ما ظهر في محضر تشكيل لهذه اللجان في سنة 2016. 

 إدانة الوزير من فمه 

شرح القرم في تصريح لـ”البديل” أنّ “ميزة سيول، عندما عُرِضَ ملف التعاقد معها، كانت في الخبرة التي اكتسبتها في قبرص، وفي انطلاقتها المبكّرة في لبنان. وعليه كنّا نتوقّع أن نحصل على نسب من الإيرادات الّتي ستؤمّنها، سواء من مشتركي ألفا مباشرةً أو من خلال الاتفاقات المعقودة مع الجامعات والمستشفيات، كما تفعل حاليًّا. وكانت سيول، في سعيها للانطلاق بخدمة المحفظة الإلكترونيّة في لبنان، قد رأت في عقد اتفاق مع Alfa ما يوفّر لها دعاية إضافية ويساعدها على الانطلاق بشكلٍ أسرع. ولكن اليوم باشروا العمل وحدهم، والحصول على الصفقة بشروطها السّابقة لم يعد متاحًا”. وبالتالي، يقول القرم إنّهم “صرفنا النظر عن مشروع المحفظة الإلكترونيّة حاليًّا”.  

إذ وفقًا لما قاله القرم، فإن الرغبة كانت منذ البداية لدى “سيول” في طرح محفظتها عبر  Alfa، ولم تكن يومًا رغبة وزارة الاتصالات في تأمين هذه الخدمة الأساسيّة لعملاء شركتَي الاتصالات الخليويّة. وهذا ما ولّد الشكّوك في محاولة لتسخير موارد الدولة خدمة لمصالح الشركات الخاصّة، والتفريط بامتيازات الشركتين، وتحويلهما إلى مجرّد قنواتٍ لتمرير الصفقات، بينما يُفترَض أن تغذّي إيرادات أيّ خدمة جديدة تقدّمها شركتا الاتصالات الخليويّة الخزينة اللبنانيّة، طالما أنّ ملكيتهما تعود حاليًّا للدولة اللبنانيّة. 

عزّزت هذه الشبهات المحاولات المتكرّرة لوزارة الاتصالات وشركتَي الاتصالات الخليويّة في قولبة ذرائعها بما يتلاءم مع هدف تلزيم الخدمة لشريكٍ مضارب. فكانت ذريعة وزارة الاتصالات وفريقها الأولى أنّ مصرف لبنان لا يمنح شركتَي الاتصالات رخصة محفظة إلكترونيّة، وهو مت تراجعت عنه لاحقاًبعدما تأكّد عدم تقدّم الشركتين أساسًا للحصول على هذه الرخصة التي ذُكِرَ أنّ مصرف لبنان لا يمانع منحها لهما. وكانت الذريعة الثانية أنّ الشركتين ليستا مجهّزتين ببنية تشغيلية، وأعربت Alfa عن خشيتها من أن “تصل إلى تقديم الخدمة متأخّرةً إذا لم تبدأ في بناء الخبرة مع شريك قوي مثل سيول وشركاء آخرين مشابهين”، وأُرفِقت هذه الذرائع بإبراز للتحديات الماليّة والبشريّة واللوجستيّة. فتحدّثت عن الوقت الذي سيستغرقه ترسيخ هذه الخدمة في أساساتها، وحاجتها إلى توظيفات وكلفة مالية قدّرتها بأكثر من مليون دولار، وعن النقص في خبرات كوادرها، وشكّكت حتّى في قدرتها على الالتزام بشروط مصرف لبنان، خصوصًا لجهة الحفاظ على رأس المال التشغيليّ، وذلك من دون إرفاق تبريراتها بدراسةٍ علميةٍ تكون مقنعة، أقلّه لدفع هيئة الشراء العامّ إلى إعادة النظر في توصيتها. 

لوزير قرم غير مقتنع بتسليم خدمة المحفظة إلى الشركتين مباشرة، ولا يحبّذ أن تحفظ Alfa وTouch أموال الناس، ويكون لهما دورٌ ماليّ". كاشفًا أنّ الوزير "الجالس في مكتبه عاجزٌ عن معرفة ما يدور داخل الشركتين في معظم الأحيان، ولا يعرف كيف تنفّذان القرارات الّتي يتّخذها، ويواجه ممانعة في تنفيذ بعض هذه القرارات".

كشفت بعض الذرائع أيضًا عن تخبّط في أداء وزير الاتصالات تجاه الملف، وتناقضات في تصريحاته الّتي تدرّجت من عدم رغبته في تحميل الشركتين مسؤوليات ماليّة، إلى الحديث عن عدم ثقته بأدائهما، ثمّ إلى التسليم بإرادتهما. 

ردًّا على سؤالٍ “البديل”، قال القرم أيضًا إنّه “ليس مقتنعًا بتسليم خدمة المحفظة إلى الشركتين مباشرة، ولا يحبّذ أن تحفظ Alfa وTouch أموال الناس، ويكون لهما دورٌ ماليّ”. كاشفًا أنّ الوزير “الجالس في مكتبه عاجزٌ عن معرفة ما يدور داخل الشركتين في معظم الأحيان، ولا يعرف كيف تنفّذان القرارات الّتي يتّخذها، ويواجه ممانعة في تنفيذ بعض هذه القرارات”. وتحدّث عن “نمطٍ سائدٍ في إدارتهما لا يمكن أن يتغيّر في شهر أو شهرين، خصوصًا أنّه لا يُسمح للوزير بتعيين موظفين من قبله، ولا يملك حتى صلاحية إجراء تدقيقٍ داخليّ، وهو بالتالي مُلزَم بالواقع الموجود”. وإذ ذكّر القرم بمشكلة الثقّة الّتي يعانيها اللبنانيون مع القطاع المصرفيّ، وختم تصريحه قائلاً: “بالعربي المشبرح: مش ناقصنا مشاكل”. 

ولكن على الرغم من كل ما ذكره القرم، بدا واضحًا أنّه متّفق تمامًا مع الشركتين في ملف خدمة المحفظة الإلكترونيّة، وهو قد صرّح به سابقًا: “إذا قالت الشركتان إنهما غير قادرتين على تقديم الخدمة، فأنا لا يمكنني أن ألزمهما بذلك”. فاستدرج بذلك نقاشًا جانبيًّا حول العلاقة التعاقدية بين الوزارة وكلٍّ من مشغلي Alfa و Touch، خصوصًا أنّ وزارة الاتصالات كانت تخوض معركتها في صفقة تلزيم خدمة الـ A2P التي فرضت من خلالها قرارها على Touch بترسية العقد على شركة INMOBILES . 

مواجهة الصفقة بالرأي العام 

سقطت ذرائع فريق الوزارة واحدةً تلو الأخرى، مع تطوّر الوعيّ حول خلفيّات المشروع، وخصوصًا لدى معارضيه من أعضاء لجنة الاتصالات النيابيّة، وبالتالي تعرية عامل أساسيّ من عوامل رفضه وهو “عدم عدالة الصيغة المقترحة بالنسبة لخزينة الدولة. خصوصًا أنّ الشريك الخارجيّ سيستفيد من قاعدة المشتركين، ومن نسبة الأرباح الكبيرة الّتي يُمكن أن توفّرها هذه الخدمة، فضلًا عن الامتيازات الّتي ستتوفّر لأيّ شركةٍ تفوز بالصفقة، بينما لا تحصل شركتا الاتصالات سوى على حصّةٍ من الإيرادات يحدّدها الشريك الماليّ الموجود أساسًا في السّوق ويخوض منافسة مع مؤسّسات أخرى شبيهة” وفقًا لما قالته النائبة بولا يعقوبيان لـ “البديل”.  

وتشرح يعقوبيان: “الخلاف مع الوزير القرم في كلّ الملفات المتعلّقة بوزارته يقوم على الشبهات الّتي تحيط بمحاولاته الدائمة لتلزيم كلّ خدمة أساسيّة لطرفٍ ثالث، وهذا ما يعزّز شبهاتنا حول وجود تنفيعاتٍ زبائنيّة، المقصود منها تحويل الدولة إلى بقرةٍ حلوب”. وتساءلت في المقابل: “من أين يأتي الوزير بثقته بالمؤسّسات الماليّة الّتي ستتولّى الخدمة إذا كان غير واثق بأداء الشركتين التابعتين لسلطته؟” مضيفةً: “هل يمكن لأحدهم في الأساس أن ينال رخصةً من مصرف لبنان، حتى لتأسيس دكّان، إذا لم يكن من ضمن منظومة المافيا التي تحكمنا؟”. 

وجهت يعقوبيان سؤالًا نيابيًّا إلى القرم ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ذهب إلى أبعد من طلب مبرّراتٍ علميّة للتفريط بمحافظ شركتي الموبايل، ورسم خارطة طريق توصل الشركتين لتقديم الخدمة مباشرة. 

إلّا أنّ سؤال يعقوبيان الموجّه من نائب عن الشعب اللّبنانيّ إلى صانع سياسات الاتصالات، أي وزير الاتصالات، قوبل باستخفاف بدور وصلاحيات النواب في مراقبة ومساءلة ومحاسبة عمل الوزراء والحكومة، وبخرق لأصول تراتبية المسؤوليات في المؤسّسات العامّة. فتلقت لجنة الاتصالات جوابًا تبنّى “مطالعة” من شركة Alfa وقدّمها القرم على أنّها “جواب الوزارة النهائيّ” مع أنّه حوّل للجنة الاتصالات جوابين متمايزين: واحد من Alfa والثاني من Touch. 

خلا جوابا Alfa وTouch، في المقابل، من دراسة جدوى علمية تثبت مزاعم العجز الّتي سوّقتا لها. فقالت Touch في خمسة أسطرٍ مرفقة بقاعدة بيانات أوليّة أوردتها في صفحتي A4 غير مكتملتين إنّها “لا تزال تدرس الأمر من جوانبه التطبيقيّة، الأمنيّة والاقتصاديّة”، واعتبرت أنّها “تحتاج للاستعانة باختصاصيين كفوئين لدراسة السوق بموضوع خدمات المحفظة الإلكترونية“.  

أمّا Alfa فاختزلت مضمون رسالتها وكتابها السّابقين، وبرّرت عدم رغبتها بتقديم الخدمة مباشرةً بنقص الإمكانيات، وتجنّب مخاطرها “المحتملة”. فاستخدمت Alfa في “مطالعتها” كلمة “قد” 18 مرّة، لتكشف، وفقًا لقراءة الخبير وسيم منصور، “عن وجه إدارة متشائمة يخاف التطوّر والتطوير، مقابل سعيها وراء حصة من إيرادات إضافية من دون أيّ عمل منتجٍ ومستدامٍ يعزّز الخدمات الأساسيّة وينمّي خبرات موظفيه وبالتالي يرفع من قيمة الشركة.” 

تجاهل ردّ “ألفا” و”تاتش”، في المقابل، مصدر قوّتهما الأساسيّ الذي يفتح شهية المؤسّسات السّاعية وراء محفظتيهما، أي قاعدة المشتركين في شبكة كلّ من الشركتين. علمًا أنّ هذه البيانات، وحمايتها، ومحاولة “تناتُشِها” أو تعطيل أهميتها من قبل المؤسّسات الماليّة السّاعية للهيمنة على سوق التعاملات الماليّة، حدّدت موقف كلّ من هيئة الشراء العام واللّوبي النيابيّ الذي ساندها، من شكل الصفقة المطروحة منذ البداية. 

فلم تتوقّع “تاتش” في دراستها المذكورة فتح أكثر من 84 ألف محفظة عبر شبكتها بنهاية أربع سنوات من تشغيل الخدمة. علمًا أنّه إذا قورن الرقم بعدد مشتركيها الذي ذكرت أنّه ارتفع إلى نحو مليونين ونصف المليون مشترك خلال عام 2024، فهذا يعني أنّ 0.0029 في المئة فقط من عملائها الحاليين سيستخدمون محفظتها في نهاية أربع سنوات من إدراجها ضمن خدمات الشركة الأساسيّة. 

أمّا “ألفا” فقد اعتبرت أنّ المعادلة خاسرة تمامًا بالنسبة إلى تقديم الخدمة مباشرةً، مع أنّها بدت متحمّسة لعرضها توقيع عقدٍ رضائيّ مع “سيول” الّتي اختارتها من بين 19 مؤسّسة ماليّة عزّزت محافظها بعد الأزمة الماليّة تحديدًا. علمًا أنّ طموح كلّ من هذه المؤسّسات لا بدّ أن يكون في زرع محافظها ضمن الخدمات المقدّمة عبر شركتي الاتصالات الخليويّة، وبالتالي من الطبيعيّ أنّ يعرقل كلّ منها أي محاولة لولادة الخدمة بشكلٍ مستقلّ، مع التمسّك بعدالة المنافسة الّتي تنعدم متى زُرعت واحدة من محافظها في صلب خدمات شركتي الاتصالات الخليويّة وأُهملت المحافظ الأخرى، بصرف النظر عمّا ذكرته “ألفا” بأنّ اختيار “سيول” لا يقطع الطريق أمام محافظ أخرى. 

وبعيدًا عن المضمون، كشفت الوزارة عن ارتباكٍ في تقديم إجاباتها حتّى في الشكل، ولم ينفصل ذلك عن مجمل المسار الذي ساد في مقاربة تقديم هذه الخدمة. فقد تبنّى وزير الاتصالات في البداية طرح “ألفا” بتلزيم الخدمة رضائيًّأ، ثمّ قال إثر ممانعة هيئة الشراء العام إنّه طلب وقف كل الإجراءات لتوقيع العقد بين “ألفا” و”سيول” حتّى تصدر الهيئة تقريرها. ومع ذلك، بقي يدافع عن العقد في كلّ جلساته وتصريحاته الإعلاميّة. 

وعقب جلسة للجنة الاتصالات النيابيّة في 21 كانون الأول من العام 2023، قال القرم إنّه أوقف مناقشة المشروع برمّته، ولن يكون هناك تعاقد مع أي شركة. ليعود ويعلن في 4 شباط عن مناقصة ستُجرى لتلزيم الخدمة. 

أكدّ القرم في شباط 2024 ما ورد في الكتاب المرفوع ردًّا على سؤال يعقوبيان، وقال: “إنّ خدمة الـe-wallet  ماضية على سكّة التلزيم”، شارحًا أنّ شركتي الاتصالات هما في طور إعداد دفتر الشروط لعملية مزايدة أعطى توجيهاته لإطلاقها بأسرع وقت، على أن تُحدَّد مدة العقد بثلاث سنوات. إلا أنّ القرم لم يُطلع هيئة الشراء العام على هذا الأمر سوى شفهيًّا، إلى أن أعلن أخيرًا لـ “البديل” أنّ هذا الملف مجمّد حاليًّا. 

والارتباك ينسحب أيضًا على مراسلات القرم إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء المتضمّنة جواب الوزارة على سؤال يعقوبيان. فقد أفاد في رسالة أولى أنّ الوزارة “تؤيّد إلى حدٍّ كبير مطالعة ألفا”، ليعود في كتاب آخر ويعتبر المطالعة “جواب الوزارة النهائيّ”، مبرّرًا تبنّيها بكون “ألفا” هي الشركة التي أطلقت “مزايدة” لخدمة المحفظة الإلكترونيّة، علمًا أنّ “ألفا” لم تقدّم سوى مشروع واحد لعقدٍ رضائيّ، وخصّصت كلّ مطالعاتها من بعده للمرافعة عنه. كما قال القرم إنّ مطالعة “ألفا” هي خلاصة عدّة اجتماعات ومناقشات حول المحفظة بين الوزارة وشركتي الخلويّ. وهذا ما طرح علامة استفهام عن سبب رفع جواب “تاتش” بشكلٍ منفصل إلى لجنة الاتصالات النيابيّة. 

النقاش الذي ولّده المشروع المطروح تحوّل إلى قضيّة رأي عام، استدرج تصريحات عديدة كان أبرزها لمدير عام هيئة “أوجيرو” عماد كريدية، الذي رأى في حديث لـ “البديل” أيضًا أنّ العائق الفعليّ أمام تقديم خدمة المحفظة الإلكترونيّة عبر شركتي الخليوي هو “البنوك الجديدة”، أي المؤسّسات الماليّة، الّتي اعتبر أنّها تخشى من قدرة الشركتين على الدخول إلى السّوق كمنافسٍ قويّ. وتحدّث كريدية عن لوبي مصرفي قديم جديد يحتكر التعاملات المصرفيّة، ودعا إلى التدقيق في هويّة هذا اللوبي لنفهم تمامًا لماذا يُمنع على شركتي “ألفا” و”تاتش” تقديم الخدمة.  

المؤسَّسات الماليّة: علاماتٌ تجاريَّةٌ جديدةٌ للمصارف التقليديَّة؟ 

في تقريرٍ نشره «بنك الاعتمادِ اللبنانيّ» نَقلًا عن «البنك الدوليّ»، قدِّرت تدفُّقات التحويلات الماليَّة إلى لبنان بنحو 6.4 مليار دولار في عام 2023، ممَّا وضعه في المركز الثالث على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث الحجم المُطلق للتحويلات الماليَّة، بعد مصر (24.2 مليار دولار) والمغرب (12.1 مليار دولار). 

لا شكَّ أنّ المؤسَّسات الماليَّة غَنِمَت ولا تزال تَغنَم من تدفُّق تحويلات المُغتَربين اللُّبنانيِّين إلى ذويهم، تلك الّتي شكَّلَت – وفقًا لتقرير صادرٍ عن الأمم المتّحدة – مصدر دعمٍ حيويٍّ للناتجِ المحلّيِّ الإجماليِّ. فأمَّنَتْ هذه التحويلات أرضًا خصبةً لتوسع هذه المؤسسات بأعمالها ووكلائِها إلى مختَلف المناطقِ، وبالتّالي تنويعِ خدماتِها. فلدى OMT، الوكيلِ المعتَمَد لـ Western Union، حاليًّا أكثر من 1400 وكيلِ بيعٍ على الأراضي اللبنانيّة. ولـ Western Union وكيلٌ آخرُ في لبنان هو BOB Finance، ولديه حاليًّا 700 وكيلِ بيعٍ.
أمّا المؤسَّسةُ الأُمّ فقد امتلكت شبه حصريَّةٍ في تحويلِ الأموال قبل سنة 2019، وذلك قبل أن يجذب هذا السّوق استثماراتٍ إضافيّةً، فأصبح الحديث اليوم عن 19 مَحفظةً إلكترونيّةً، بعضُها يتمّ تشغيله عبر مؤسَّساتٍ ماليَّةٍ مُرخَّصةٍ بعد سنة 2020، وبعضها الآخر عبر تطبيقاتٍ إلكترونيّةٍ، من دون الحاجة إلى فتح حساباتٍ مصرفيَّة. 

وتشكِّل هذه الوكالات صورةً مختَزَلةً عن النّفوذ السياسيِّ والمصرفيِّ المتمدِّد إلى «البنوك الجديدة». فرئيسُ مجلسِ إدارةِ OMT على سبيلِ المثال هو حِكمت أَمَل أبو زيد، خَلَفًا للرّاحل توفيق مَعوَّض. وأبو زيد شريكٌ في المؤسَّسة إلى جانب شقيقه ناجي، وهما نجلا النّائب السّابق عن «التيّار الوطنيّ الحر» أَمل أبو زيد، مُستشار رئيسِ الجمهوريّة السّابق ميشال عون للشؤون الروسيّة، وقد تمّ تداول اسمه في صفقاتٍ ماليّةٍ عديدة. علمًا أنّ اسم ناجي أبو زيد يتكرَّر أيضًا في مؤسَّسة Online Cash International مع جويا توفيق معوَّض، العضو في مجلس إدارة OMT. 

في المقابل، تظهر بعض المؤسَّسات الماليَّة ملكيَّةً مصرفيَّةً مشتركةً لها، كما هي الحال بالنّسبة إلى  BOB Finance، حيث يبرز اسما كلٍّ من سليم صفير، رئيسِ جمعيَّة المصارف، وفوّاز نابلسي، الذي يملِك حصصًا في عددٍ من المصارفِ والمحافظ الإلكترونيَّة، كمساهمَين رئيسيَّين في رأس مال المؤسَّسة، ممّا يربطها مباشرةً بالقطاع المصرفيّ. 

وفي السّياق ذاته، إذا كانت ZAKI هي أُولى هذه المحافظ الّتي نَشأَت في ظِلّ الأزمةِ الماليّة، فإنّه لا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ غَرْسَها ضمن خدمات الأموال الرّقميّة تمَّ عبر شركة Areeba التي يملكها ماهر ميقاتي، نجل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. 

وبصمات Areeba حاضرةٌ في أكثر من محفظةٍ إلكترونيّةٍ ومؤسَّسةٍ ماليَّة، كـ Cash United المملوكة من فيليب داغر منذ سنة 2004، والتي تُقدِّم خدمة  Wee Pay، وهي أيضًا ممثِّلةٌ محلّيةٌ لـ MoneyGram وداغر عضوٌ في مجلسِ إدارة «بنك الاعتماد الوطني» منذ سنة 2019، وهو بنكٌ يملك ثلاثة فروعٍ في لبنان، ومن المصارف الّتي وقَّعت بروتوكولًا لتقديم القروضِ السّكنيّة عبر المؤسَّسة العامّة للإسكان منذ سنة 2015. علمًا أنّ الشركةَ تضمّ في مجلس إدارتِها أيضًا خليل داود، الّذي شغل منصب مدير عامٍّ لشركة «ليبان بوست» (“بريد لبنان”) المُتحكِّمة بالقطاع البريديّ منذ أكثر من 25 سنة، على الرغم من انتهاء عقدِها منذ سنوات.

اعتمدت معظم الشّركات الماليَّة على خبرات مصرفيِّين مخضرمين في نشأتها، كما تظهر تركيبة مجالسِ إدارتها، أو بتعيين شخصيّاتٍ مصرفيّةٍ بارزةٍ في مراكز مسؤولةٍ بداخلها. فوسام غرّة – أَحد مُنشئي محفظة PURPL – له خلفيّاتٌ طويلةٌ مع «بنك لبنان والمهجر»، أمّا مسعود مراد، الذي تولّى مسؤوليّاتٍ لمدّة 19 سنةً في «الاعتماد اللّبنانيّ»، فهو مدير المحاسبة في «سيول». كما أنّ ملحم صعب، مدير التّواصل مع العملاء في الشّركة، تولّى أيضًا مسؤوليّاتٍ إداريّةً في «بنك بيروت» لمدّة 15 سنة، و«بنك البحر المتوسّط» لمدّة 5 سنوات. 

وإذا أضيفت التّركيبة الإداريّة لشركة «سيول» إلى نفوذِها الماليِّ السّياسيِّ المذكور، والمحاولات الّتي بذلت في إخضاعِ الهيئات الرّقابيّةِ لشروط اتّفاقٍ عقديٍّ رضائيٍّ معها، يمكن الخروج باستنتاجاتٍ شبه نهائيّةٍ حول الخبرةِ المصرفيّة الّتي تستثمرُ فيها المؤسَّسات الماليَّةُ النّافذة، لتسريعِ بلوغِها أهدافها التّسويقيّة عبر الهيمنة على قاعدتَي مُشتركي شركتي الخلويّ، ومن دون أيّ حاجةٍ إلى رفعِ تحدّياتِها في تقديمِ خدماتٍ إضافيّةٍ بأسعارٍ تنافسيّة.  

شتّان ما بين لبنان وكينيا 

لا شكّ أنّ المؤسّسات الماليّة سدّت حاجاتٍ تولّدت نتيجة الفشل في وضع وتنفيذ الخطّط الإصلاحيّة الماليّة والإداريّة الشاملة، وإنّ بقيت هناك علامات استفهامٍ كثيرة حول نشاطات بعضها، وارتباطاتها الداخليّة والخارجيّة، واستثماراتها وتمويلاتها الّتي جعلتها في دائرة الشبهات بدعم نشاطاتٍ حزبيّة وتبييض أموالٍ دوليّة. 

إلّا أنّ هذا الازدهار للمؤسّسات الماليّة واكبه إهمالٌ متعمّدٌ وتجاهلٌ لتجاربَ ناجحةٍ خاضتها شركات الاتّصال عالميًّا، وحقّقت من خلالها الشمول الماليّ في ظلّ اقتصاداتٍ متعثّرة، وتضخّماتٍ ماليةٍ مفرطة، أو انهياراتٍ لأنظمةٍ مصرفيّة، أو تضرّرٍ لبُناها التحتيّة. 

ولعلّ أبرز هذه التجارب هي تجربة كينيا، حيث إنّ 59 بالمئة من الناتج المحلّي الإجماليّ يمرّ عبر “M-PESA”، النظام الرائد للدفع عبر الهاتف المحمول في البلاد، محقّقةً 20 مليار عملية خلال عام 2023. علمًا أنّ كينيا أرست هذه الخدمة عبر الهاتف المحمول منذ أن كانت خدماته تقتصر على نقل الصوت والرسائل النصيّة  (SMS)، وشكّل انتعاش خدمة المحفظة الإلكترونيّة حينها عاملًا أخرج شركتي الخلويّ فيها من تعثّرهما الماليّ. وهذا ما يجعل الوقت المستغرَق في تطبيق خدمة المحفظة الإلكترونيّة عبر شركتي الاتّصال الخلويّة في لبنان خسارةً لهما كما لعملائهما. 

لم تتراجع وزارة الاتّصالات عن محاولاتها لتمرير الصفقة الّتي أعدّت لها، وعندما عجزت عن تجاوز توصية الشراء العامّ بتأمين مبدأ الشفافيّة والمنافسة العادلة، والخضوع للتشريعات القانونّية في تقديم خدماتٍ أكثر أمانًا وفعالية، صرفت النظر عن المشروع. 

وعليه، لم يخرج المسار الذي سلكه ملفّ المحفظة الإلكترونيّة عن أداءٍ متكرّرٍ أرسته وزارة الاتّصالات في إهمالها كلّ خدمةٍ أساسيّةٍ ومطلوبة، متى اصطدمت بجبهة مواجهة أساليب محاباتها في ترسيتها على شركاء مضاربين. الأمثلة كثيرة ولا يتّسع المكان لعرضها جميعًا، إلّا أنّ صحيفة “البديل” تطرّقت لأحدها في تقريرها السّابق حول صفقة البريد. فثبت مجدّدًا أنّ ما نفتقده فعليًّا في تعزيز إنتاجية القطاعات “المربحة” في بلدنا، ليس “القدرة” وإنّما الاهتمام بالصالح العامّ والرغبة في تقليص مكاسب النخبة. 

Related