“روليت الثوار”: الرهان التركي على المعارضة المسلحة في سوريا

بعد سنوات من الإحباط يقلب أردوغان اليوم الطاولة على نظام الأسد في سوريا، إلا أن مناورات تركيا هذه ليست مضمونة النتائج

4 كانون الأول، 2024

إن الهجوم الكبير الذي أطلقته المعارضة المسلحة في سوريا في 27 تشرين الثاني 2024 قد يعيد رسم توازنات الصراع السوري، ويمثل رهاناً عالي الخطر وعالي العوائد بالنسبة لتركيا.

إذ أدت الحملة الأخيرة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” وتنظيمات مسلحة متحالفة معها إلى تحطيم الاستقرار الهش الذي ساد لسنوات في محافظة إدلب السورية وما حولها، وسط وقف متوتّر لإطلاق النار بين قوات النظام السوري والمجموعات المناوئة لها.

سيطرت قوات المعارضة على حلب (أكبر مدينة في سوريا) في أيام قليلة وضمت مناطق واسعة إلى سيطرتها في شمال غرب سوريا، وصولاً إلى ريف حماة وسط البلاد. استغلت المعارضة المسلحة في حملتها الأخيرة نقاط الضعف التي يعاني منها نظام الأسد في الوقت الراهن والناجمة عن تهالك جيش النظام والحالة المتردية لداعميه الرئيسيين. فروسيا اليوم الغارقة في مستنقع الحرب في أوكرانيا، وحزب الله الذي أنهكته حربه مع إسرائيل، باتا اليوم أقل قدرة على تقديم دعم فعّال لدمشق.

فإن السيطرة على حلب وتقدم المعارضة —ما إذا استمر— سيمنح تركيا نفوذاً كبيراً في صياغة مستقبل سوريا خلال المفاوضات.

وفي حين أن تركيا لم تعلن رسمياً انخراطها في مجريات الأرض إلا أن حجم العملية ونجاحها يشيران بوضوح إلى موافقة أنقرة ودعمها الضمني، ما قد يمنح تركيا امتيازات كبيرة على عدة جبهات —خاصة إذا تمكنت المعارضة من تعزيز مكاسبها بشكل فعّال.

فإن السيطرة على حلب وتقدم المعارضة —ما إذا استمر— سيمنح تركيا نفوذاً كبيراً في صياغة مستقبل سوريا خلال المفاوضات. وهذا التحول الجذري في توازنات القوة يلغي فعلياً اتفاقيات سابقة بين تركيا وروسيا تم بوفقها رسم مناطق خفض التصعيد وتسيير دوريات مشتركة، وإنشاء منطقة عازلة حول إدلب.

أما أبرز ما يثير إحباط تركيا فهو تعثّر محادثات التطبيع مع دمشق والتي تم أغلبها بمبادرة من أنقرة، وهي محادثات سبق أن انهارت بسبب اختلافات قيل أنها “غير قابلة للتسوية”. إذ طالبت تركيا تعاون دمشق ضد مجموعات حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب الكردية وطلبت مساعدة الحكومة السورية لتسهيل عودة أكثر من 3 مليون من اللاجئين السوريين في تركيا.

ومن جانبها أصرّت دمشق على انسحاب تركيا بشكل كامل من شمال سوريا و إنهاء دعمها لجماعات المعارضة، ويبدو الآن أن الفشل في حل هذه المآزق دفع أنقرة إلى أخذ زمام الأمور.

“ألعاب الحرب” السورية

وسط هذه الفوضى اغتنمت جماعات المعارضة المدعومة تركياً الفرصة لطرد المقاتلين الأكراد من معاقلهم المتبقية في شمال غرب سوريا، وخاصة كانتون “تل رفعت” شمال حلب، عبر عمليةفجر الحرية” التي انطلقت في 30 تشرين الثاني. يمثل هذا التطور انتصاراً عسكرياً كبيراً لتركيا، لأنه يزيد من تقييد نطاق عمليات المسلّحين الأكراد ويعزز الحاجز الأمني ​​لأنقرة على طول حدودها الجنوبية والمناطق الخاضعة لسيطرتها الفعلية في سوريا.

وربما الأهم من ذلك كله أن اكتساب النفوذ على حلب والمناطق المحيطة بها سيوفر لتركيا ميزة رئيسية في التعامل مع عودة اللاجئين السوريين. ففي الأشهر الأخيرة، ووسط تصاعد الخطاب المناهض للاجئين و الصراعات  السياسية الداخلية حول الوجود السوري، واجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضغوطاً متزايدة للتحرك في هذا الصدد. ففي ظل وجود ملايين السوريين المقيمين في تركيا – والعديد منهم من أصول حلبية – فإن احتمال عودتهم الطوعية إلى مدينتهم المألوفة سيكون أسهل بكثير من محاولة إعادة توطينهم قسراً في “المناطق الآمنة” التي تسيطر عليها تركيا في أماكن أخرى من الريف الشمالي لسوريا.

يضاف على ذلك وجود علاقات اقتصادية تاريخية تجمع رجال الأعمال الحلبيين والأتراك، إلى جانب دور حلب التاريخي كمركز اقتصادي في المنطقة مما يوفر أساساً عملياً لإعادة الإدماج ويجعل هذا السيناريو ممكناً اقتصادياً وذي منفعة اجتماعية للاجئين العائدين.

كما أن هناك سيناريو آخر مقلق لأنقرة يتمثل في احتمال التحالف بين نظام الأسد والقوات الكردية ضد تركيا والمعارضة.

إلا أن ما يبدو انتصار لتركيا يأتي مع محاذير ومخاطر كبيرة. فإن توسيع النفوذ على الأراضي التي تمت السيطرة عليها حديثاً وخاصة مدينة حلب سيتطلب من أنقرة أن تستثمر رأس مال اقتصادي وسياسي كبير. إن تجربة تركيا في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها في شمال سوريا كانت محفوفة بتحديات شملت السخط المحلي وأحياناً المقاومة العنيفة للنفوذ التركي. فالحفاظ على الاستقرار وتوفير الخدمات الأساسية في مناطق النفوذ له تكلفة، وقد يكون من الصعب توسيع هذا النموذج ليشمل حلب وضواحيها. كما ستحتاج تركيا إلى تقديم الدعم العسكري والأمني بشكل ​​مستمر بما يشمل إعادة تسليح مجموعات المعارضة التي تسيطر على حلب.

يضاف إلى ذلك كله أن استدامة هذه المكاسب لا تزال غير مؤكدة. فمن غير المرجح أن يقبل النظام السوري وحلفاؤه (وخاصة روسيا وإيران) خسارة حلب دون الردّ بقوة. وبالتالي فإن أي هجوم مضاد يستفيد من تفوق القوة الجوية والأسلحة الثقيلة لدى النظام وروسيا من المحتمل أن يؤدي إلى تراجع المكاسب التي حققتها المعارضة المسلحة ما لم تسعى تركيا إلى الانخراط المباشر في التطورات العسكرية. كما أن هناك سيناريو آخر مقلق لأنقرة يتمثل في احتمال التحالف بين نظام الأسد والقوات الكردية ضد تركيا والمعارضة. أمّا في حال انهيار المعارضة فإن الخطر المباشر الأكبر بالنسبة لتركيا هو تجدد تدفقات اللاجئين.

فإن نجح النظام السوري وحلفاؤه في استعادة المناطق التي فقدوها اليوم يصبح من شبه المؤكد أنهم سيفرضون عقاباً جماعياً على السكان في إدلب ويضغطون لاستعادة المحافظة بأكملها. وفي مثل هذا السيناريو قد تواجه تركيا موجة غير مسبوقة من النازحين السوريين عابرين حدودها بحثاً عن ملاذ آمن، ما سيخلق تحديات إنسانية ولوجستية جمّة.

إن مناورات أردوغان الأخيرة عززت موقفه على المدى المنظور، لكن العديد من الأوراق لم يتم لعبها على رقعة الـ”روليت” السورية حتى الآن.

تم نشر هذا المقال باللغة الإنجليزية في العربي الجديد.

المواضيع ذات الصلة