الويل لأمة تدخل في حرب لا يمكن ربحها

لبنان والعالم عاجزون عن تحمل حرب بلا أفق

1 تشرين الثاني، 2023

نحنُ في لبنان، ومنذ أكثر من ثلاثة أسابيع نشاهد دماء الغزّاويين وهي تتدفّق عبر هواتفنا الذكية وشاشات التلفزيون. نحنُ اللبنانيونَ اعتدنا جيداً على القصف الإسرائيلي الوحشي للقطاع المحاصر في فلسطين وغزّة ونعلم جيداً خبايا ما تعرفه معظم الدّول الأخرى: إنّه لا يحقّ لإسرائيل اليوم أن تدّعي كونها الطرف الأكثر أخلاقيةً في الصراع. وبغض النظر عن الفظائع التي حلت بالمدنيين الإسرائيليين في السابع من تشرين الأول، فإن أي مبرر لرد مدروسٍ قد دُفن جنباً إلى جنب مع آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين سحقوا تحت أنقاض منازلهم. في كلّ من مدينة غزة، وخان يونس، ورفح، لم نتمكن من غض الطرف عن هذه الصور الفظيعة، لأننا على علمٍ باحتمالية أن يأتي دورنا بعدها.  

وبينما نشاهد المذبحة في غزة، لا يمكن إلّا أن نتخيل أن هذه المشاهد قد تتكرر في صور وفي صيدا وبيروت وكل أنحاء بلادنا، وأننا سنشاهد كلّ هذا الرعب في الشوارع حولنا، لا عبر تلفوناتنا وشاشات تلفزيوناتنا. نتخيل أن هؤلاء الأطفال الذين تمطرهم الطائرات الحربية بالموت هم أطفالنا، بينما تقوم تقارير وسائل الإعلام الغربية بعزل هذه المعاناة ومسحها، ويقف القادة الغربيون “كتفاً إلى كتف” مع إسرائيل و”حقّها” غير المشروط على ما يبدو في “الدّفاع عن نفسها”.  

وتماماً كما تصغر الحروب السابقة في غزة مقارنة بالهجوم الذي نشهده اليوم، فإن الحرب التي من الممكن وقوعها في لبنان من المرجّح أن يكون دمارها غير مسبوقٍ في أضراره. وقد جاء من بين التهديدات الموجهة إلى لبنان، ما أدلى به وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات الذي هدّدنا مباشرةً بأن بلادنا “ستمسح… عن وجه الأرض” إذا حاول حزب الله التدخل. كل هذا ينذرُ بإقبال جديد وجامح للعنف من قبل القادة الإسرائيليين في منطقة نالت نصيبها من استخدامهم الهمجيّ للقوّة. إن هذه الوحشية التي يتحدث بها القادة الإسرائيليون بشأن غزة غيرُ عقلانية ومضطربة ومن المحتمل أن ترقى إلى مستوى التحريض على الإبادة الجماعية. 

وبعيدا عن السجال، فإنه ومنذ عام 2006 والحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، نجد أن إسرائيل قد تلقّت أكثر من 50 مليار دولار من الأسلحة والدعم العسكري من الولايات المتحدة، مما يعني أن قدرتها اليوم على تنفيذ تهديداتها أكبر من أي وقت مضى. ومع وجود مجموعتين من حاملات الطائرات الأميركية في المنطقة، فإن إسرائيل لن تكون وحدها إذا امتدت الحرب الدائرة إلى لبنان أو إلى مناطق أبعد. لا يخطئن أحدٌ، فلبنان يقع بالفعل في مرمى النيران، ولا يوجد أي تقدم استراتيجي أو عسكري حاسمٍ حققه حزب الله منذ عام 2006 من شأنه أن يحمينا من الدمار الشامل. 

 

الويل لأمة 

لم يكن ضروريا أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم. لو كان لدى المؤسسة الحاكمة في لبنان بعض المنطق، لكان بإمكانها بعد حرب 2006 أن تجتمع وتبني الرادع الذي نحتاجه في شكل استراتيجية دفاعية وطنية. استراتيجية دفاعية تجمع بين كل مقدراتنا العسكرية والاستراتيجية- بما فيها قدرات حزب الله – لمواجهة التهديد الوجودي الرئيسي لبلدنا على الحدود الجنوبية. ولو أننا لعبنا أوراقنا بشكل صحيح، إلى جانب الدول الأخرى في المنطقة، لربما تمكنا من أن تأسيس توازن قوى يكبح جماح إسرائيل منذ زمنٍ بعيد. بالعكس من ذلك فأننا انحرفنا عن كلّ هذا ودخلنا في حالة من الجمود السياسي، وحملات الاغتيالات السياسية وتفخيخ السيارات وتفجيرها، ثم مررنا بطفرة عقارية تركت مصارفنا جالسة على سوق عقارات متضخم وأسعار السكن فيه بعيدة عن متناول عموم اللبنانيين. واليوم، فإننا وفي ظل الحرب الأهلية الكارثية في سوريا، وأزمة اللاجئين، وجائحة كوفيد 19، وانفجار مرفأ بيروت، والانهيار المالي المستمر، لسنا في وضع يسمح لنا بـ «بتحرير فلسطين» من الاحتلال ولا من أيديولوجيات الفصل العنصري والصهيونية. وفوق ذلك، ويل للأمة التي تجد نفسها اليوم في مواجهة وشيكة مع حربٍ لا يمكنُ الفوز بها. 

 يبدو أن حزب الله اليوم وإيران ورعاياهم في جميع أنحاء المنطقة يفهمون هذا الواقع. إذ لا يزال حزب الله وإسرائيل ضمن قواعد الاشتباك، وبالتالي فإن هذه المصالح تتماشى على جانبي الحدود. بل لا بدّ من الإشارة – زيادةً على ذلك – إلى أنّ حزب الله قد نجح أيضاً في جذب عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين إلى الحدود الشمالية الذين كان من الممكن أن يستخدموا في العملية في غزة. لكنّ هذا جاء مع ثمنه.  

لقد نزح عشرات الآلاف من اللبنانيين حتى اليوم، وقُتل صحفيون، واقتصادنا ما يزال يعاني، ولم نخرج من النفق المظلم بعد. ومع بدء الهجوم البري، وتحذير نتنياهو من “حرب طويلة وصعبة”، تهافتت العديد من آراء المحللين التي تشير بمجملها إلى أن هذا ليس هو الوقت الأكثر ملاءمة لشن جبهة ثانية، في ظل الزخم العسكري الإسرائيلي في غزة. وإذا كان حزب الله يرغب حقاً في تعقيد الأمور بالنسبة لإسرائيل، فإنه سيفتح جبهة ثانية بعد أن يتورط الجيش الإسرائيلي في القطاع، مما سيجبره على الموازنة بين الأولويات المتلاحمة في منعطف عسكري أكثر صعوبة بكثير. 

وبالنسبة لإيران وحزب الله، اللذين تستندُ أيديولوجيتهما التأسيسية على دعم النضال الفلسطيني ومقاومة إسرائيل، فإن السماح بغزو بري لغزة دون ردّ وتدخّل واضحٍ من شأنه أن يشكل تهديداً وجودياً صريحاً. ومع ذلك، فإن هذا الرد سيؤدي بشكل شبه مؤكد إلى اتساع التدخل الأمريكي، وسيحفز بالتّالي قوات محور المقاومة المتحالفة مع إيران في اليمن والعراق وسوريا على الرد أيضاً. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تصاعد التداعيات إلى ما هو مرعبٌ وغير معروف النتيجة – وما لا يبشر بالخير لأحد. 

 

لا للتخوين والاتهامات بالخيانة  

لتجنب مثل هذه النتيجة، علينا أن نستبق الخطاب الذي من شأنه أن يدفع لبنان إلى الصراع المستمر. إذ تدور الحروب أكثر من أي وقت مضى في ساحة المعارك وشاشات الاعلام على حدّ السّواء. وبينما يزال حزب الله وحلفاؤه متحفظين نسبياً، إلا أنهم بحاجة إلى خلق رأي عام خصب لأي عمل يقع خارج قواعد الاشتباك. وبالفعل، تشير أبواق حزب الله السياسية إلى أنهم ما يزالون ينتظرون اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة إلى إسرائيل. وعلى الأرجح أن الرواية المجربة والمختبرة ستطبّق على أولئك الذين يعارضون دخول لبنان في حرب لإنقاذ “المقاومة” الذين سيتم وصمهم بأنهم “خونة” و”عملاء” تماماً كما يحدث في كلّ مرة.  

لهذا علينا ألا نبقى صامتين بوجه هذه التهم، وأن يكون ردنا على ذلك أن لا أحد لديه الحق باحتكار مقاومة الصهيونية وممارسات الفصل العنصري والاحتلال. وبالتالي، يجب أن نكون واضحين في أن أنجع طريقة لدعم فلسطين وتقرير مصيرها هي عدم الدخول في حرب دون هدف واضح وإذا كان الهدف النهائي هو “تحرير فلسطين”، فإن هذا لن يحدث من خلال بدء صراع إقليمي مع الجيوش المسلحة نووياً – الأفضل تمويلاً والأكثر تقدماً – من الناحية التكنولوجية في العالم. 

إنّ أي استراتيجيّة فعالة وناجعة لن تتمّ بدون التنسيق المنظّم مع الدول المجاورة، حيث لا يتم اتخاذ القرارات بطريقة أحادية مستقلة، مما سيساهم في صكّ أهداف واضحة للمعركة. باستثناء ذلك، فإننا سندافع عن أرضنا بكل ما في وسعنا، منددينَ بصوت عالٍ ضد الصهيونية والفصل العنصري والاحتلال وهذه السياسات التابعة لها. وسوف نستمر بضم أصواتنا إلى كل الأصوات في جميع أنحاء العالم – خاصةً الأصوات اليهودية والتقدمية التي تعارض الاحتلال – لوضع حدٍ أخيرٍ للمعايير المزدوجة في العواصم الغربية عندما يتعلق الأمر بتطرف إسرائيل وعنفها وعدم احترامها للقانون الإنساني الدولي. 

ونعم، نحن ندين استهداف حماس للمدنيين واحتجازهم كرهائن، لكنّ هذا لم يأت من فراغ. كما إننا ندين الفكرة المجسدة في “اتفاقات إبراهيم” بأن السلام يمكن أن يتحقق بدون عدالة. ولنكون واضحين، فإذا كان صراعنا مع إسرائيل قد علمنا أي شيء، فهو أنه عندما يعمل اللاهوت (وجدل الدّين حوله) كأساس للعمل السياسي وإقامة الدولة، فإن النتيجة ستكون هي نفسها دوماً: صراعاً لا يخفت ولا ينتهي. ومن المفارقات، أن نجد أنّ من يستفيد من تأطير الصراع على أنه صراع ديني وليس – معركةً سياسية جوهريةً ترتبط بالدرجة الأولى بحقّ تقرير المصير هي كلّ من إسرائيل وحماس وحزب الله. 

أمّا على المدى القصير، فإننا جميعاً بحاجةٍ إلى وقف إطلاق النار لتقويض الاستغلال الذي تمارسه كلّ من إسرائيل وحماس وحزب الله لما يحدث من حولنا. بعدها علينا أن نسعى إلى حلٍّ مستدام لهذا الصراع، حلّ سياسي يفسح المجال لشعب فلسطين بأن يقرر مصيره بنفسه وأن يؤسس دولة قابلة للحياة، ذات سيادة، وديمقراطية، وعلمانية (ونأمل أن تكون تقدمية)، دولة للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية. وأن ليس للبنانيين، أو لحزب الله ،أو إيران، أو مصر أو المملكة العربية السعودية أو أوروبا أو الولايات المتحدة أن يقرروا مألات هذه الدولة؛ إنه لشعب فلسطين وحده.    

هيئة التحرير – البديل.

المواضيع ذات الصلة