عبرت الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء غربيون آخرون بوضوح عن رغبتهم في إضعاف حزب الله أكثر، بعد الخسائر الكبيرة التي مُني بها في الحرب الأخيرة. ومن الواضح أيضاً أن زعماء الخليج يتشاركون هذه النظرة، وإن كانوا أقل صراحةً.
ومن بين أكثر الجهود خطورةً ولا أخلاقيةً لتحقيق هذا الهدف، والتي من المرجح أن تأتي بنتائج عكسية، تأخير تزويد لبنان—وهو يعاني من ضائقة مالية—بالتمويل الذي يحتاجه لبدء إعادة بناء نحو 100 ألف منزل دمرها الجيش الإسرائيلي أو تضررت بفعل الحرب.
سوف يؤدي هذا التأخير إلى إطالة أمد نزوح اللبنانيين من جنوب البلاد وسهل البقاع وجنوب بيروت، وسيعمق في الوقت نفسه مظلومية مئات الآلاف من الذين عادوا إلى مناطقهم المدمرة منذ وقف إطلاق النار. بالمقابل، من المستبعد أن يؤدي تأخير إعادة الإعمار إلى إضعاف نفوذ حزب الله بين مؤيديه. بل يبدو أن العكس هو الاحتمال الأكثر رجحاناً، حيث سيُنظر إلى ما يحدث اليوم على أنه حصار مالي وإنساني على الطائفة الشيعية في لبنان، مما سيعزز رواية حزب الله لمؤيديه منذ تأسيسه: العالم يقف ضدنا، والحزب هو الحماية الوحيدة.
الوضع اليوم في تناقض تام مع الاستجابة السابقة للصراع المسلح بين إسرائيل ولبنان. ففي العام 2006، تسببت حرب تموز في دمار هائل، خصوصاً في الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان، حيث دُمّرت نحو 90,000 وحدة سكنية وألحقت خسائر بحوالي 2.8 مليار دولار أميركي. استجابت الدول العربية آنذاك لإنقاذ لبنان، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي. قادت المملكة العربية السعودية الطريق، حيث أودعت مليار دولار في البنك المركزي اللبناني لتحقيق الاستقرار في الليرة وتمويل جهود إعادة الإعمار الضخمة، بما في ذلك إعادة بناء 200 بلدة في جنوب لبنان والبقاع، و900 عقار في الضواحي الجنوبية لبيروت، بالإضافة إلى البنى التحتية الأساسية. كما التزم المانحون الغربيون بمنح –940 مليون دولار أميركي للبنان في آب 2006، وبحلول كانون الثاني من العام التالي، كان لبنان قد تلقى 7.6 مليار دولار أميركي من المساعدات الدولية.
كان لإيران أيضاً دور مهم في إعادة إعمار لبنان، حيث قامت بتمويل مؤسسة “وعد”، وهي ذراع إعادة الإعمار التابعة لجهاد البناء، مؤسسة حزب الله التنموية. وفي تلك الفترة، كان غياب الاستجابة الفعالة من جانب الحكومة اللبنانية سبباً في تمكين حزب الله، الذي ظهر ـ سواء في التصور أو الواقع ـ باعتباره الفاعل الرئيس في قيادة جهود إعادة الإعمار.
وأُنهت إعادة الإعمار تقريباً بشكل كامل في غضون خمس سنوات، وتمكّن حزب الله، بدعم من إيران، من الاستفادة من هذا الجهد لتعزيز مكانته كحامي للطائفة الشيعية في لبنان، ليخرج من حرب 2006 أقوى من ذي قبل. ولم يثبت الحزب نفسه عسكرياً فحسب، بل كان أيضاً الوصي السياسي والاجتماعي بلا منازع على قاعدته الشعبية، وأصبح القوة المهيمنة في السياسة اللبنانية وصناعة القرار الحكومي في السنوات التالية.
تزامنت فترة إعادة الإعمار مع طفرة اقتصادية في البلاد، بالرغم من أن الوضع في لبنان بدأ بالتدهور منذ العام 2011. فقد أدت الثورة السورية في ذلك العام إلى اندلاع أزمة اللاجئين التي انتشرت في أنحاء المنطقة، وبصورة أكثر حدة في لبنان. ومع مرور الوقت، تدهورت العلاقات بين لبنان وجيرانه الخليجيين، حيث دخلت الرياض وبيروت في سلسلة من المشاحنات الدبلوماسية المتواصلة، خصوصاً بعد انتخاب الرئيس اللبناني ميشال عون في العام 2016، الذي يعد أحد أبرز حلفاء حزب الله.
وفي هذه الأثناء، كان برنامج الهندسة المالية للبنك المركزي اللبناني (الذي وصف لاحقاً بأنه يشبه “مخطط بونزي”) في تسارع مستمر، مما أتاح للأثرياء اللبنانيين سحب مليارات الدولارات من الاقتصاد. ثم بلغت الأزمة ذروتها مع الانهيار المالي للبلاد في العام 2019، تلاه انفجار مرفأ بيروت في العام 2020، بالإضافة إلى سنوات من الجمود السياسي مع حكومات تصريف الأعمال.
إن فشل لبنان في تنفيذ الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي لمعالجة الإخفاقات النظامية التي أدت إلى الانهيار المالي دفع المجتمع الدولي إلى حجب المساعدات لإنقاذ الاقتصاد اللبناني. وبالتالي، حتى ما قبل 8 تشرين الأول 2023، عندما بدأ حزب الله وإسرائيل في تبادل إطلاق النار عقب هجمات حماس على إسرائيل في اليوم السابق، لم تلبّى نداءات لبنان للحصول على المساعدة المالية الدولية.
شهدت الحرب التي تلت ذلك قيام إسرائيل بقتل الآلاف من المدنيين اللبنانيين، وتسوية أحياء وقرى بأكملها بالأرض. وتقدَّر الأضرار الحالية بأكثر من 3.4 مليار دولار أميركي. كما تكبد حزب الله خسائر فادحة، حيث قُتل وجُرح الآلاف من أعضائه، وتعرضت المستويات العليا من قيادته العسكرية والسياسية للتدمير الكامل تقريباً.
استغل أصحاب المصلحة الدوليون والمحليون وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان في تشرين الثاني 2024، وكذلك موقف الحزب الشيعي الضعيف، كفرصة لكسر الجمود السياسي في لبنان. شاركت كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا في إقناع السياسيين اللبنانيين المتنافسين بالموافقة على انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية في أوائل كانون الثاني من العام الجاري. وبعد ذلك، عَيّن نواف سلام، الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية، رئيساً للوزراء وكلفه بتشكيل حكومة جديدة.
رُوّج لانتخاب عون وتعيين سلام على أنهما “عهد جديد” في السياسة اللبنانية، وأعادا الأمل في عملية إعادة الإعمار، لا سيما في ظل الدعم الواسع الذي يحظى به عون من اللاعبين الدوليين الرئيسيين. ومع ذلك، وعلى عكس ما حدث بعد حرب 2006 حين ضُخّت أموال إعادة الإعمار بسخاء، لا تزال استجابة الجهات المانحة اليوم فاترة. وتعهدت القوى الإقليمية، بقيادة الرياض، مرة أخرى بمساعدة مشروطة، ولكن لم تُترجم هذه الوعود بعد إلى جهود ملموسة لإعادة الإعمار.