سذاجة التقدير: حزب الله لن يتضرر بتأخير المساعدات الدولية عن النازحين

غياب الجهات الفاعلة الدولية عن جهود إعادة البناء يترك النازحين من دون خيار سوى اللجوء إلى حزب الله

11 شباط، 2025

عبرت الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء غربيون آخرون بوضوح عن رغبتهم في إضعاف حزب الله أكثر، بعد الخسائر الكبيرة التي مُني بها في الحرب الأخيرة. ومن الواضح أيضاً أن زعماء الخليج يتشاركون هذه النظرة، وإن كانوا أقل صراحةً. 

ومن بين أكثر الجهود خطورةً ولا أخلاقيةً لتحقيق هذا الهدف، والتي من المرجح أن تأتي بنتائج عكسية، تأخير تزويد لبنان—وهو يعاني من ضائقة مالية—بالتمويل الذي يحتاجه لبدء إعادة بناء نحو 100 ألف منزل دمرها الجيش الإسرائيلي أو تضررت بفعل الحرب. 

سوف يؤدي هذا التأخير إلى إطالة أمد نزوح اللبنانيين من جنوب البلاد وسهل البقاع وجنوب بيروت، وسيعمق في الوقت نفسه مظلومية مئات الآلاف من الذين عادوا إلى مناطقهم المدمرة منذ وقف إطلاق النار. بالمقابل، من المستبعد أن يؤدي تأخير إعادة الإعمار إلى إضعاف نفوذ حزب الله بين مؤيديه. بل يبدو أن العكس هو الاحتمال الأكثر رجحاناً، حيث سيُنظر إلى ما يحدث اليوم على أنه حصار مالي وإنساني على الطائفة الشيعية في لبنان، مما سيعزز رواية حزب الله لمؤيديه منذ تأسيسه: العالم يقف ضدنا، والحزب هو الحماية الوحيدة. 

الوضع  اليوم في تناقض تام مع الاستجابة السابقة للصراع المسلح بين إسرائيل ولبنان. ففي العام 2006، تسببت حرب تموز في دمار هائل، خصوصاً في الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان، حيث دُمّرت نحو 90,000 وحدة سكنية وألحقت خسائر بحوالي 2.8 مليار دولار أميركي. استجابت الدول العربية آنذاك لإنقاذ لبنان، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي. قادت المملكة العربية السعودية الطريق، حيث أودعت مليار دولار في البنك المركزي اللبناني لتحقيق الاستقرار في الليرة وتمويل جهود إعادة الإعمار الضخمة، بما في ذلك إعادة بناء 200 بلدة في جنوب لبنان والبقاع، و900 عقار في الضواحي الجنوبية لبيروت، بالإضافة إلى البنى التحتية الأساسية. كما التزم المانحون الغربيون بمنح 940 مليون دولار أميركي للبنان في آب 2006، وبحلول كانون الثاني من العام التالي، كان لبنان قد تلقى 7.6 مليار دولار أميركي من المساعدات الدولية. 

كان لإيران أيضاً دور مهم في إعادة إعمار لبنان، حيث قامت بتمويل مؤسسة “وعد”، وهي ذراع إعادة الإعمار التابعة لجهاد البناء، مؤسسة حزب الله التنموية. وفي تلك الفترة، كان غياب الاستجابة الفعالة من جانب الحكومة اللبنانية سبباً في تمكين حزب الله، الذي ظهر ـ سواء في التصور أو الواقع ـ باعتباره الفاعل الرئيس في قيادة جهود إعادة الإعمار. 

وأُنهت إعادة الإعمار تقريباً بشكل كامل في غضون خمس سنوات، وتمكّن حزب الله، بدعم من إيران، من الاستفادة من هذا الجهد لتعزيز مكانته كحامي للطائفة الشيعية في لبنان، ليخرج من حرب 2006 أقوى من ذي قبل. ولم يثبت الحزب نفسه عسكرياً فحسب، بل كان أيضاً الوصي السياسي والاجتماعي بلا منازع على قاعدته الشعبية، وأصبح القوة المهيمنة في السياسة اللبنانية وصناعة القرار الحكومي في السنوات التالية. 

تزامنت فترة إعادة الإعمار مع طفرة اقتصادية في البلاد، بالرغم من أن الوضع في لبنان بدأ بالتدهور منذ العام 2011. فقد أدت الثورة السورية في ذلك العام إلى اندلاع أزمة اللاجئين التي انتشرت في أنحاء المنطقة، وبصورة أكثر حدة في لبنان. ومع مرور الوقت، تدهورت العلاقات بين لبنان وجيرانه الخليجيين، حيث دخلت الرياض وبيروت في سلسلة من المشاحنات الدبلوماسية المتواصلة، خصوصاً بعد انتخاب الرئيس اللبناني ميشال عون في العام 2016، الذي يعد أحد أبرز حلفاء حزب الله. 

وفي هذه الأثناء، كان برنامج الهندسة المالية للبنك المركزي اللبناني (الذي وصف لاحقاً بأنه يشبه “مخطط بونزي”) في تسارع مستمر، مما أتاح للأثرياء اللبنانيين سحب مليارات الدولارات من الاقتصاد. ثم بلغت الأزمة ذروتها مع الانهيار المالي للبلاد في العام 2019، تلاه انفجار مرفأ بيروت في العام 2020، بالإضافة إلى سنوات من الجمود السياسي مع حكومات تصريف الأعمال. 

إن فشل لبنان في تنفيذ الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي لمعالجة الإخفاقات النظامية التي أدت إلى الانهيار المالي دفع المجتمع الدولي إلى حجب المساعدات لإنقاذ الاقتصاد اللبناني. وبالتالي، حتى ما قبل 8 تشرين الأول 2023، عندما بدأ حزب الله وإسرائيل في تبادل إطلاق النار عقب هجمات حماس على إسرائيل في اليوم السابق، لم تلبّى نداءات لبنان للحصول على المساعدة المالية الدولية. 

شهدت الحرب التي تلت ذلك قيام إسرائيل بقتل الآلاف من المدنيين اللبنانيين، وتسوية أحياء وقرى بأكملها بالأرض. وتقدَّر الأضرار الحالية بأكثر من 3.4 مليار دولار أميركي. كما تكبد حزب الله خسائر فادحة، حيث قُتل وجُرح الآلاف من أعضائه، وتعرضت المستويات العليا من قيادته العسكرية والسياسية للتدمير الكامل تقريباً. 

استغل أصحاب المصلحة الدوليون والمحليون وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان في تشرين الثاني 2024، وكذلك موقف الحزب الشيعي الضعيف، كفرصة لكسر الجمود السياسي في لبنان. شاركت كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا في إقناع السياسيين اللبنانيين المتنافسين بالموافقة على انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية في أوائل كانون الثاني من العام الجاري. وبعد ذلك، عَيّن نواف سلام، الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية، رئيساً للوزراء وكلفه بتشكيل حكومة جديدة. 

رُوّج لانتخاب عون وتعيين سلام على أنهما “عهد جديد” في السياسة اللبنانية، وأعادا الأمل في عملية إعادة الإعمار، لا سيما في ظل الدعم الواسع الذي يحظى به عون من اللاعبين الدوليين الرئيسيين. ومع ذلك، وعلى عكس ما حدث بعد حرب 2006 حين ضُخّت أموال إعادة الإعمار بسخاء، لا تزال استجابة الجهات المانحة اليوم فاترة. وتعهدت القوى الإقليمية، بقيادة الرياض، مرة أخرى بمساعدة مشروطة، ولكن لم تُترجم هذه الوعود بعد إلى جهود ملموسة لإعادة الإعمار. 

يحتاج 63% من بين 76% من النازحين داخلياً الذين عادوا إلى ديارهم إلى مساعدات مالية لإصلاح ما تضرر، بينما يحتاج 28% إلى تحسين وصولهم إلى الخدمات الأساسية.

نتيجة لذلك، وبعد مرور شهرين على وقف إطلاق النار، لا تزال عملية إعادة الإعمار متوقفة. يحتاج 63% من بين 76% من النازحين داخلياً الذين عادوا إلى ديارهم إلى مساعدات مالية لإصلاح ما تضرر، بينما يحتاج 28% إلى تحسين وصولهم إلى الخدمات الأساسية. وفي المناطق المتضررة من الحرب، يحتاج 80% إلى دعم السكن. في حين أن النازحين الذين لم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم باتوا يشكلون ضعطاً على البنى التحتية والخدمات والإسكان وسوق العمل في المجتمعات المضيفة. وإذا لم تحصل إعادة الإعمار بشكل عاجل، فقد تؤدي المظالم إلى تصعيد التوترات الاجتماعية والطائفية في البلاد. 

ما زال لدى المانحين المحتملين أسباب كافية للتردد في تقديم الدعم والمساعدة. لبنان بلد معروف بالفساد وسوء الإدارة المالية، كما أن الاحتلال الإسرائيلي المستمر لجنوب لبنان قد قلّص أيضاً من تسريع تقديم مساعدات إعادة الإعمار. ومع ذلك، فإن هذه العوامل لا تكفي لتفسير النقص الكبير في استجابة أصحاب المصلحة الغربيين والخليجيين تجاه الحاجة الملحة لإعادة الإعمار. 

طهران ليست في وضع يسمح لها بتوزيع مساعدات مماثلة لدعم إعادة الإعمار. وبالتالي فإن الجهات المناهضة لإيران في المجتمع الدولي يمكنهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي من دون أن يشعروا بالقلق من أن إيران ستنافسها على دور بطل إعادة إعمار لبنان.

وقد يفسر هذا جزئياً بأن المانحين قد لا يشعرون بالحاجة إلى التسرّع. فأحد أبرز الاختلافات بين اليوم العام 2006 أن الاقتصاد الإيراني في حالة يرثى لها، طهران ليست في وضع يسمح لها بتوزيع مساعدات مماثلة لدعم إعادة الإعمار. وبالتالي فإن الجهات المناهضة لإيران في المجتمع الدولي يمكنهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي دون أن يشعروا بالقلق من أن إيران ستنافسها على دور بطل إعادة إعمار لبنان. كما يبدو أن هذه الجهات، في حساباتها الصفريّة ترى أن الأنسب لها البقاء على الهامش. فإن تعويض حزب الله للعائلات اللبنانية المتضررة لا يزال محدوداً حتى اليوم، كما وثّقت تقارير إعلامية الشكاوى داخل المجتمع الشيعي حول بطء توزيع المساعدات وتقييمات الأضرار. 

 

قد ترى الدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليجي ذات الغالبية السنية في تأخير عملية إعادة الإعمار ــ التي تحتاجها بشدة المناطق التي يحظى فيها حزب الله بأكبر دعم ــ  فرصة لزيادة عزلة الحزب من خلال إثارة المظالم داخل بيئته الحاضنة. يتسم مثل هذا التفكير بالسذاجة. فقد استمرت رواية حزب الله لفترة طويلة في التأكيد على أن العالم المتحالف مع إسرائيل يعادي المجتمع الشيعي في لبنان، ومن السهل أن يُنظر إلى تأخير المساعدات الدولية لإعادة الإعمار على أنه حصار اقتصادي وامتداد للحرب التي تخوضها إسرائيل. وإذا كان العالم بأسره ضدهم، فمن غير المحتمل أن يجدوا من يلجؤون إليه سوى حزب الله. 

لبنان اليوم أمام فرصة أكبر لإعادة بناء الدولة واستعادة الثقة في مؤسساته الوطنية، وهو ما لم يحدث منذ عقود.

في مثل هذه الأوقات، يصبح المواطنون أكثر وعياً بوجود دولتهم، أو بالأحرى بغيابها. لبنان اليوم أمام فرصة أكبر لإعادة بناء الدولة واستعادة الثقة في مؤسساته الوطنية، وهو ما لم يحدث منذ عقود. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب من المجتمع الدولي اغتنام هذه الفرصة للمساعدة في إعادة تشكيل مسار البلاد. إن تمكين أجندة عون وسلام الإصلاحية من خلال توجيه عملية إعادة الإعمار عبر الحكومة اللبنانية قد يتيح للدولة أن تكون موجودة وفاعلة لخدمة قطاعات من السكان الذين يشعرون بتجاهل الدولة لهم على مدار سنوات. هذا من شأنه أن يحفز سلسلة من التطورات الإيجابية ويعزز جهود الإصلاح. لكن نافذة الفرصة ضيقة وسرعان ما ستُغلق، وبالتالي يجب على المجتمع الدولي التحرك فوراً لتجنب تعزيز الهياكل الحالية للسلطة وللتخفيف من معاناة الشعب اللبناني. 

المواضيع ذات الصلة