تحت القصف: النزوح العشوائي يعيد فتح جراح الحرب الأهلية اللبنانية

يقود الخوف وتقاعس الحكومة إلى أزمة نزوح عميقة تهدد باندلاع حرب أهلية جديدة في لبنان
سامي الحلبي

22 تشرين الأول، 2024

يواجه لبنان اليوم تهديداً لا يقل خطورة عن العدوان المستمرعلى مدنه وقراه، ألا وهو أزمة النزوح التي تهدد بتمزيق البلاد من الداخل. فالمجتمعات المحلية وصلت إلى أقصى قدرة استيعابها، والانقسام في قلب المجتمع اللبناني يتسع يوماً بعد يوم. إذا استمر هذا الوضع دون حل، فقد يكون الانهيار الداخلي أكثر تدميراً من الحرب نفسها.

خلال الـ 72 ساعة الأولى من القصف الإسرائيلي فرّ ما يزيد عن مليون شخص من منازلهم. كانت حركة النزوح هذه سريعة وفوضوية، وتركت العائلات ضائعة وبدون وجهة واضحة. ثم في غضون أيام قليلة بدأ يتضح نمط النزوح وهو هرب الناس كمجموعات إلى مناطق “أكثر أماناً” – ولكن هنا ينتهي الوضوح في المشهد. فمن بين ما يقدر بنحو 1.2 مليون نازح، لم يجد سوى ما يقرب من 190 ألفاً طريقهم إلى الملاجئ المنظمة. وأصبح غالبية الناس الآن مغيبين، يقيمون اليوم في أماكن إقامة غير رسمية أو مستأجرين في شقق بأسعار متضخمة، أو قابعين في منازل ومباني شاغرة، أو محشورين في منازل أقاربهم وأصدقائهم. وهذا العدد الهائل وغير المرئي من النازحين يعقد الاستجابة المتعثرة.

قامت الحكومة اللبنانية بتقديم بعض البنى الأساسية في ملاجئ الطوارئ، وبدأت بتعيين نقاط لإدارة توزيع المساعدات. وفتح عدد كبير من المواطنين العاديين منازلهم ومكاتبهم، وبدأت المطاعم بتقديم وجبات مجانية. لكن التضامن المجتمعي ليس كافياً لاحتواء أزمة بهذا الحجم.

يهدد هذا التحول في أنماط النزوح بتمزيق التوازن الطائفي الهش في لبنان، والفئات الأكثر ضعفاً - أي النازحون أنفسهم - هم من سيدفع الثمن الأصعب.

الانتهازية تؤجج نيران الانقسام

كان رد الحكومة جزئياً وغير مكتمل، فإن خطة الطوارئ الحكومية هي مجرّد إطار، لكن الواقع على الأرض كان أكثر صعوبة. وقد تم اقتراح حلول مثل الملاجئ الجاهزة وإعادة استخدام المباني المملوكة للحكومة، بما في ذلك تلك الخاضعة لسيطرة البنك المركزي اللبناني، ولكن كل هذا لا يزال مجرد كلام. وتتردد المصالح الخاصة، خاصة في القطاع المصرفي وبين السياسيين، في التفكير بأي مباني أخرى غير المدارس. فهذه المصالح وضعت نصب أعينها ممتلكات البنك المركزي (بدلاً من أصولهم الخاصة) لتعويض المودعين الذين فقدوا مدخراتهم في الأزمة المالية التي تسببوا هم فيها. هذه الانتهازية تنم عن تجاهل صارخ للبنانيين الذين يعانون منذ سنوات من الصعوبات الاقتصادية، والتي تفاقمت الآن بسبب أسوأ صراع مسلّح منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.

وبدلاً من التردد، يجب اتخاذ الإجراءات اللازمة في الأمد القريب لتوسيع قدرة مراكز الإيواء العامة وإغاثة المدارس واستخدام كل الموارد المتاحة ــ بما فيها الملاجئ الجاهزة والمباني الحكومية والمساعدات النقدية، وكل ما يمكن تجهيزه لجهود الاستجابة.

وقد أحرزت وحدة إدارة مخاطر الكوارث التابعة للحكومة تقدماً في تدريب جهات تنسيق في مجال المأوى وإدارة الملاجئ الجماعية، ولكن لا يمكن تجاهل النازحين غير المرئيين ــ وهم الغالبية العظمى – الموجودين اليوم خارج النظام الرسمي وغير قادرين على الاستفادة من هذه الملاجئ. ما لم تأخذ استجابة لبنان هؤلاء الأشخاص بعين الاعتبار، فسوف ينتج عن ذلك انهيار مجتمعي بمجرد نفاد أموال الدولة أو كرم الضيافة والتضامن المجتمعي، وكلاهما يتضاءل بسرعة.

أما على المدى المتوسط، فعلى الدولة تنفيذ مخطط إيجار مدعوم مع ضوابط على الإيجارات لحماية أصحاب العقارات والأسر النازحة. يجب أن يكون الهدف من هذا المخطط الانتقال من حلول تعتمد على الملكية الخاصة إلى حلّ مبنيّ على الإسكان العام، مما يتيح للحكومة بعض الوقت لإعادة توظيف الممتلكات المملوكة للدولة وإيواء النازحين، وفي نهاية المطاف، إعادة الأطفال إلى المدارس.

لا يمكن للبنان أن يسمح للمضاربة أن تجعل الإسكان خارج متناول من هم في أمس الحاجة إليه.

لتجنّب الصراعات الأهلية

أوضحت هذه الأزمة بشكل جليّ أن سياسة الإسكان طويلة المدى في لبنان تحتاج إلى إصلاح شامل. وعلى الحكومة معالجة القضايا الهيكلية في سوق العقارات من خلال تنظيم الأسعار وفرض الضرائب على العقارات الشاغرة وهي تمثل ما يقدر بنحو 20 بالمئة من مجمل الوحدات السكنية. لا يمكن للبنان أن يسمح للمضاربة أن تجعل الإسكان خارج متناول من هم في أمس الحاجة إليه. يجب أن يتمتع النازحون ــ سواء كانوا لبنانيين أو سوريين أو أي مجموعة مهمشة أخرى ــ بالحماية القانونية ضد عمليات الإخلاء القسري، وعلى الحكومة أن تضمن لهم الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي.

ومن خلال دمج هذه المبادئ في استراتيجية إسكان طارئة، يمكن للبنان أن يبدأ في معالجة الشروخ الجديدة في نسيجه الاجتماعي. وإلا سيهيمن على المشهد الخوف والشكّ وقوى السوق، وستتم إعادة خلق الظروف التي غذّت انحدار لبنان إلى الحرب الأهلية قبل عقود من الزمن. تم نشر هذا التعليق في الأصل في Al Jazeera.

 

المواضيع ذات الصلة