مؤسسة الجيش اللبناني.. شرف، تضحية وفاء ينقصها الاصلاح

تتزايد الدعوات لوقف التمويل للجيش، وهو أكبر مشغّل لليد العاملة في لبنان، ما لم يتم إصلاح التضخم المؤسساتي والاتهامات بالكسب غير المشروع والاقتتال السياسي الداخلي.

3 أيار، 2024

لطالما كانت أحد محاور الجهود الغربية لدرء حرب شاملة بين إسرائيل ولبنان بالضغط أن تستبدل القوات المسلحة اللبنانية عناصر حزب الله على طول الحدود الجنوبية للبلاد. ثم بعد أن نفذت إيران، راعية حزب الله، هجمات مباشرة بطائرات بدون طيار وصواريخ ضد إسرائيل الشهر الماضي، أصبح عبء تهدئة الحدود الجنوبية للبنان ومنع الصراع الإقليمي أكثر إلحاحاً اليوم. 

ومع ذلك، فما يزال النهج الغربي، بقيادة واشنطن، تجاه السلام غير جدّي. فإن واشنطن والغرب يدركان جيداً أنه دون حل سياسي إقليمي فإن آخر ما سيفعله حزب الله هو التنازل ولو عن شبر واحد من معقله الجنوبي. لكن ما لا يقدّره الفاعلون الدوليون أن تمويل الجيش اللبناني دون إصلاح حقيقي له يخاطر بإدامة الثنائية العسكرية في لبنان، وأن يستمرّ الجناح العسكري لحزب الله بالعمل بشكل مستقل عن الجيش الوطني. 

فقد أدى التضخم المؤسساتي والاتهامات بالكسب غير المشروع والاقتتال السياسي إلى جعل الجيش اللبناني عاجزاً وظيفياً إلى حد كبير، وليس لدى الجيش اليوم القدرة على حماية لبنان، ناهيك عن تأمين واحدة من أكثر الحدود اضطراباً في العالم، في جنوب البلاد. 

على الدول الغربية أن تضغط من أجل الإصلاحات اللازمة لجعل الجيش اللبناني مؤسسة أمنية وطنية قابلة للاستمرارية بدلاً من دفع الجيش إلى تولي مهام ليس لديه القدرة على إنجازها. ولهؤلاء القدرة النفوذ لتحقيق هذا الهدف. فباعتبارها أكبر جهة مانحة دولية للجيش اللبناني، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 3 مليارات دولار من المساعدات المالية منذ عام 2006، وكذلك معظم طائرات الجيش ومركباته ومعداته العسكرية. 

هذه المساعدات هي جزء من تاريخ طويل لواشنطن، من بين حلفاء غربيين آخرين، بإلقاء الأموال والمساعدات الأخرى على الجيش اللبناني مع اعطاء القليل من الاهتمام أو المساءلة بشأن إنفاقها.

وفي العام الماضي، أدى مشروع دعم رواتب الجيش اللبناني بتمويل من الولايات المتحدة وإدارة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى منع الجيش من الانهيار التام. وفي آذار وافق الكونغرس الأميركي على حزمة مساعدات جديدة بقيمة 150 مليون دولار للجيش اللبناني، والتي ستشكل ما يقرب من ربع ميزانية الدفاع اللبنانية لعام 2024. 

هذه المساعدات هي جزء من تاريخ طويل لواشنطن، من بين حلفاء غربيين آخرين، بإلقاء الأموال والمساعدات الأخرى على الجيش اللبناني مع اعطاء القليل من الاهتمام أو المساءلة بشأن إنفاقها. فإن الاستمرار في تقديم هذا الدعم، من دون اشتراطه ببرنامج إصلاحي، يعني السماح لمؤسسة عسكرية عاجزة بالاستمرار في التعثّر، مما يعرض لبنان والاستقرار الإقليمي للخطر. والأسوأ من ذلك أن السماح للجيش اللبناني بالتحرّك دون إصلاح مؤسسي عميق يوفر ذخيرة سياسية للراغبين في وقف هذا التمويل له، خاصة من بعض الجمهوريين في الولايات المتحدة. 

لطالما أثنى كثير من الأطراف على الجيش اللبناني بكونه المؤسسة الوحيدة العابرة للطوائف والتي تحظى باحترام جميع الأطراف في المشهد السياسي اللبناني، وهو مشهد شديد الانقسام ويهدد بتصاعد العنف من وقت لآخر. وكثيراً ما يُنظر إلى الجيش على أنه الدعامة الأخيرة والحدّ الفاصل بين الاستقرار المجتمعي وتجدد الحرب الأهلية. وفي الواقع، فإن الجيش اللبناني يقوم يشكل منتظم بأعمال قوة الشرطة، بمكافحة تهريب المخدرات والاتجار بالبشر والمشاركة في تأمين الحدود. ويُعد الجيش أيضاً أكبر جهة توظيف وشبكة أمان اجتماعي في البلاد، إذ يضمّ 80 ألف عضو نشط في الخدمة و400 ألف مستفيد. 

ومع ذلك، وبناءً على طلب من الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان، يتم استخدام الجيش اللبناني أيضاً كأداة – غالباً عنيفة – لكسر الحركات الاحتجاجية التي لا ترعاها المؤسسة السياسية أو التي تعتبرها تهديداً لهيمنتها. ففي العام الماضي، بدأ الجيش اللبناني في الإخلاء القسري للاجئين السوريين، وهو الأمر الذي توقف حين تدخلت واشنطن. كما واستناداً إلى بعض قوانين التشهير والقدح الصارمة في لبنان، يمكن للمحاكم العسكرية ترهيب ومحاكمة الصحفيين والكوميديين بتهمة إهانة مؤسسة الجيش أو أي مؤسسة أمنية.  

ومن أهم التحديات التي يواجهها الجيش اليوم هو انعدام الشفافية وآليات الرقابة على موارده المالية.

أما المفارقة الكامنة في كل هذا أنه بينما تتغنّى الطبقة السياسية في لبنان (بما في ذلك حزب الله) بتقدير الجيش وتمكينه، فإنها تكشف عن الحاجة إلى أن يلعب الجيش دوراً مركزياً في الدفاع عن لبنان ضد التهديدات الخارجية (أبرزها بالطبع إسرائيل). لكن ما يتجاهله كل هذا المديح والثناء أنه لم يُسمح للجيش أبداً بالإصلاح، خشية أن يتطور فعلياً إلى مؤسسة لا يمكن للغرب والطبقة السياسية في لبنان تسخيرها لتحقيق أغراضهم الخاصة. 

ومن أهم التحديات التي يواجهها الجيش اليوم هو انعدام الشفافية وآليات الرقابة على موارده المالية. ففي الأعوام الأخيرة، برزت عدد من فضائح الفساد تورطت فيها مناصب رفيعة المستوى في الجيش، واعتبرت منظمة الشفافية الدولية أن خطر الفساد في مؤسسات الدفاع في لبنان عالٍ جداً”. بينما تعاني الهيئات العسكرية التي تنظر في قضايا الفساد – مثل لجنة وزارة الدفاع لمكافحة الفساد ومكتب تنمية القدرات العسكرية – من نفس الغموض وعدم الشفافية الذين عليهم النظر بها. 

ولا تقدم المراجعة المالية السنوية العامة لعام 2017 ــ وهي آخر نسخة منشورة ــ أي تفصيل لميزانية الدفاع، في حين يتفشى الإنفاق العسكري خارج الميزانية. وفي الوقت نفسه، لا توجد رقابة برلمانية على إنفاق الجيش اللبناني أو سياساته أو قراراته. ففي المجموع، فما يقرب من 70 في المئة من الإنفاق العسكري يذهب إلى الرواتب والتقديمات. ويميل هذا الإنفاق لصالح القادة والرتب العليا. وفي عام 2021، كان هناك حوالي 400 ضابط من رتبة عميد أو أعلى، بينما تتطلب هياكل القيادة الرسمية 160 ضابطاً فقط. 

تشمل هذه الوظائف رواتب كبيرة والعديد من الامتيازات، بما في ذلك المركبات الخاصة والمرافقين. وللسياسيين في لبنان مصلحة في إبقاء الأمور على هذا النحو، إذ تساهم شبكات المحسوبية الطائفية في تسهيل هذا الانتفاخ في صفوف ضباط الجيش اللبناني وكوادره العامة. فالتعيينات والترقيات مسيّسة إلى حد كبير، حيث تأتي الانتماءات الطائفية في كثير من الأحيان قبل الجدارة، مما يرسخ الولاءات السياسية الخارجية في هيكل القيادة المثقل، وبالتالي تتأثر استجابة اتخاذ القرار وفعاليته. 

وتم الكشف عن هذه الحيثيات منذ الانهيار الاقتصادي عام 2019 حيث انخفض متوسط الدخل الذي في كوادر الجيش من 800 دولار قبل الأزمة إلى حوالي 50 دولار بحلول 2023، مما أجبر الكثيرين على البحث عن عمل ثانوي وحتى التفكير في التهرّب من الخدمة. وفي شباط 2024، ألقى وزير الدفاع اللبناني، موريس سليم، اللوم في عدم جاهزية القوات المسلحة اللبنانية على التأثير المحبط للرواتب المنخفضة. 

وإلى جانب المساعدات المقدمة من مانحين غربيين آخرين، فقد أدت المساعدات المالية الغربية، والتي تم توفيرها بشروط أو رقابة قليلة، إلى استمرار الجيش اللبناني من المعاناة من العجز أو الخلل الوظيفي.

هذا هو السياق الذي يجب أن يُفهم فيه التمويل الغربي والنفوذ الكامن الذي لم يتم استثماره، خاصة في ضوء الخطط الرامية إلى رؤية الجيش اللبناني يتولى مسؤولية أكبر في حماية جنوب لبنان. بدأت المساعدات الغربية تتدفق إلى الجيش اللبناني بشكل جدي بعد حرب عام 2006. وكانت المساعدات اللاحقة للجيش اللبناني جزءاً من استراتيجية أمريكية لموازنة القوة العسكرية لحزب الله بشكل تدريجي، والتخفيف من نفوذ إيران الإقليمي بالوكالة. 

وإلى جانب المساعدات المقدمة من مانحين غربيين آخرين، فقد أدت المساعدات المالية الغربية، والتي تم توفيرها بشروط أو رقابة قليلة، إلى استمرار الجيش اللبناني من المعاناة من العجز أو الخلل الوظيفي، في حين تتحول أجزاء من ميزانيته إلى تعيينات المحسوبية وامتيازات الضباط، مما يؤدي إلى إدامة عجزه. 

وكي يتمكن الجيش حقاً من الوفاء بمسؤولياته تجاه الأمن القومي، فهناك حاجة إلى اتخاذ تدابير متعددة الأوجه لتحقيق المساءلة المالية. تتضمن إجراء عمليات تدقيق شاملة وزيادة الرقابة والإصلاحات القانونية والمؤسسية. فإن مراجعة وإصلاح عملية التجنيد والترقية على أساس طائفي، بدءاً من الجنود المبتدئين ووصولاً إلى سلك الضباط، ضروريان اليوم للتخفيف تدريجياً من إساءة استخدام موارد الجيش المالية. 

يجب أيضاً تنظيم المسائلة البرلمانية لإدارة الجيش اللبناني، وعلى المحاكم العسكرية محاكمة أفراد الجيش، وليس المدنيين. كما يجب تنفيذ برامج تجميد التوظيف والتقاعد المبكر للحد تدريجياً من تضخم الرواتب. 

فقد حان الوقت لواشنطن، وأولئك الذين يريدون جيشاً لبنانياً فعالاً، أن "يقرنوا أموالهم بالإصلاح".

دون هذه الإصلاحات، سيأتي يوم تصبح فيه الأصوات التي تطالب بوقف تمويل الجيش اللبناني أعلى وأكثر تأثيراً. ودون الجيش اللبناني، سيخسر لبنان فعلاً آخر مؤسساته التي تحظى بالاحترام على المستوى الوطني، ناهيك عن أجهزته الأمنية التي توفر الأمن في داخل لبنان.

وبدلاً من السماح بذلك، على واشنطن وحلفائها الغربيين أولاً أن يدعوا إلى الإصلاحات اللازمة لجعل الجيش مؤسسة أمنية وطنية مرنة وقادرة. فقد حان الوقت لواشنطن، وأولئك الذين يريدون جيشاً لبنانياً فعالاً، أن “يقرنوا أموالهم بالإصلاح“. 

سامي حلبي مدير السياسات في تريانغل ورئيس تحرير البديل، وهو مركز أبحاث مستقل في لبنان
 
نشر هذا المقال في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية

المواضيع ذات الصلة