في بيروت، كان من شبه المستحيل أن لا تلتقي بعصام عبد الله. لم يكن عصام مجرد صحفي؛ بل كان صديقاً للكثيرين، وكان دائما على استعداد لتقديم يد العون لمن يحتاجه. في آخر لقاء بيننا كان الحديث حول المتاعب اليومية لمولدات الديزل في الحمرا في بيروت. يبدو هذا وكأنه عالم مختلف عما نحن عليه اليوم.
منذ أكثر من عام بقليل، في 13 تشرين الأول 2023، أطلقت دبابة إسرائيلية النار على عصام ومجموعة من زملائهم بينما كانوا يغطون الصراع من الجانب اللبناني من الحدود، ثم أطلقوا النار للمرة الثانية. وقتل عصام (37 عاماً) الذي كان يصور لوكالة رويترز، بينما أصيبت مصورة وكالة فرانس برس كريستينا عاصي بجروح خطيرة. كان قد تم تحديدهم على أنهم صحفيون بوضوح، ولم يكن هناك قتال نشط أو أهداف محددة في منطقتهم. أطلقت رويترز ووكالات أخرى تحقيقات شاملة اعتبرت الهجوم متعمداً من قبل الجيش الإسرائيلي لإسكات الحقيقة. ودعت منظمة العفو الدولية إلى التحقيق في مقتل عصام باعتباره جريمة حرب. ومع ذلك لم تكن هناك مساءلة.
وبعد مرور عام، تظهر لامبالاة المجتمع الدولي جليّة تجاه هذا الهجوم، وكذلك مقتل العديد من المراسلين الآخرين في لبنان وغزة على يد الجيش الإسرائيلي. لم يؤد ذلك إلا إلى تشجيع الحملة الإسرائيلية ضد الصحافة. ولا بد على أي دولة أو زعيم يدعي الإيمان بسيادة القانون والنظام الدولي أن يدين استهداف إسرائيل للصحفيين. وإن انتهاكات إسرائيل الصارخة للحماية الدولية للعاملين في مجال الإعلام يجب أن تُقابل بكل قوة القانون الدولي.
إسرائيل لا تشن حرباً على حماس وحزب الله والناس في غزة ولبنان فحسب. بل إنها تشن حرباً على المعلومات نفسها. فمنذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول 2023، استهدفت إسرائيل الصحفيين بشكل ممنهج، وقتلت أكثر من 128 إعلامياً وجرحت المئات، في ظل تدمير البنية التحتية الإعلامية لتعتيم الحقيقة. هذه الأعمال ليست أضراراً جانبية بل هي محاولات متعمدة لإسكات الأصوات التي توثق جرائم إسرائيل.
قتل كل الرّوايات إلا الرواية الإسرائيلية
أما في غزة فكانت الحصيلة مروعة. إذ تعرض الصحفيون العاملون هناك للقتل بشكل منهجي، وقصفت منازلهم، وتم تدمير مكاتبهم. ويُترك الصحفيون الذين نجوا من هذه الهجمات ليقوموا بتغطية أخبارهم في ظل ظروف تعتيم شبه كامل، حيث أن انقطاع التيار الكهربائي ونقص الوقود وانقطاع الاتصالات تعيق قدرة الصحفيين على القيام بعملهم. هذه الظروف ليست حوادث منفصلة في الحرب، بل هي جزء من استراتيجية متعمدة من قبل إسرائيل لقمع المعلومات والسيطرة على السردية. فإن نية إسرائيل لإسكات الصحافة الحرة لا يمكن أن تكون أكثر وضوحاً من قيام قواتها الأمنية بمداهمة مكاتب قناة الجزيرة في رام الله ومنع الشبكة من العمل.
فرضت الحكومة الإسرائيلية قيوداً صارمة على وصول وسائل الإعلام إلى غزة، مما منع الصحفيين المستقلين فعلياً من دخول المنطقة ما لم تكن متواجدة مع القوات الإسرائيلية. ضمن هذا التكتيك أن السردية الإسرائيلية للصراع هي فقط التي تصل إلى العالم الخارجي، في حين يتم إسكات الأصوات الفلسطينية بشكل ممنهج. وهذا ليس مجرد انتهاك لحرية الصحافة، ولكنه اعتداء فاضح على الحق العالمي في المعرفة.
انتهاكات القانون الدولي: واضحة ولا تغتفر
أدانت هيومن رايتس ووتش و منظمة العفو الدولية تصرفات إسرائيل، مشيرة إلى أن الاستهداف المتعمد للصحفيين والتدمير المنهجي للبنية التحتية الإعلامية يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2222 (2015)، الذي يحمي الصحفيين على وجه التحديد في مناطق النزاع. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الإدانات، تواصل إسرائيل التصرف مع الإفلات من العقاب، واثقة من أن المجتمع الدولي لن يفعل أكثر من التعبير عن قلقه.
الإطار القانوني الدولي واضح ولا لبس فيه: الصحفيون، باعتبارهم مدنيين، محميون بموجب القانون الدولي في اتفاقية جنيف الرابعة ويصنف الاستهداف المتعمد للصحفيين على أنه جريمة حرب بموجب قانون نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. فإن انتهاكات إسرائيل المتكررة لهذه القوانين صارخة ولا تغتفر.
طالبت الأمم المتحدة ومنظمات حرية الصحافة في جميع أنحاء العالم بإجراء تحقيقات مستقلة في قتل الصحفيين. ومع ذلك، واصلت إسرائيل حماية نفسها من المساءلة، مستخدمة غطاء “الدفاع عن النفس” لتبرير جرائمها. إلى متى سيسمح العالم لإسرائيل بانتهاك القانون الدولي ودهس حقوق الصحفيين دون عقاب؟
الطريق إلى الأمام: مساءلة إسرائيل
لقد ولى زمن الخطابات الفارغة. ويجب على المجتمع الدولي أن يتخذ إجراءات حاسمة لمحاسبة إسرائيل على حربها على الصحفيين. دعت منظمات حقوق الإنسان مراراً وتكراراً المحكمة الجنائية الدولية إلى فتح تحقيقات في جرائم إسرائيل ضد الصحفيين، ويجب الآن الاستجابة لهذه الدعوات. إن قتل الصحفيين وقصف المكاتب الإعلامية ليست مجرد اعتداءات على الأفراد المعنيين – بل هو هجوم على الحق العالمي في معرفة الحقيقة.
على الحكومات في مختلف أنحاء العالم، وخاصة تلك التي تدعي الدفاع عن حرية الصحافة، أن تضغط على إسرائيل لحملها على رفع القيود التي تفرضها على وصول وسائل الإعلام إلى غزّة، ووقف هجماتها على الصحفيين، والسماح بإجراء تحقيقات مستقلة. كما يجب تطبيق أطر قانونية قوية لحماية الصحفيين، ويجب أن يواجه المسؤولون عن هذه الجرائم المحاكمة.
حان الوقت لإنهاء الصمت
كان يجب أن يشكل مقتل عصام عبد الله نقطة تحوّل – أي صرخة للمجتمع العالمي للدفاع عن حقوق الصحفيين. ولكن وبعد مرور عام، ما زلنا ننتظر العدالة. لقد تصاعدت حرب إسرائيل على الصحافة، وصمت المجتمع الدولي يصم الآذان. إذا فشل العالم في التحرك، فإنه يرسل برسالة واضحة مفادها أن حياة الصحفيين، والحقيقة التي يكشفونها، والقوانين التي تهدف إلى حمايتهم لا تعني شيئاً.
الصحفيون ليسوا مقاتلين. إنهم حاملو الحقيقة في أكثر الأوقات ظلمة وتعتيماً. إن عملهم يحاسب الأقوياء ويسلط الضوء على الفظائع التي لولا جهودهم لكانت غير مرئية. فإن الاستهداف المتعمد لناقلي الحقيقة هو إهانة من قبل إسرائيل لكل قيمة يدعي المجتمع الدولي أنه يدافع عنها. وقد حان وقت العمل.