القدر الكارثي: كيف اجتاحت الغطرسة جنوب لبنان

حماقة الهدف الأمريكي - الإسرائيلي في فصل حزب الله عن لبنان

17 تشرين الأول، 2024

في الأسابيع الأخيرة ، سيطر على البيت الأبيض والكنيست طموح متهوّر يتمثل بما سمّي “تفكيك” حزب الله. وبدلاً من الحسابات المنطقية المستندة إلى النتائج المحتملة، يبدو أن هذا الهدف قد سيطر على صناع القرار السياسي وهم في سكرة قتل إسرائيل لأكثر من 25 من قادة حزب الله الشهر الماضي، والذي جاء بعد عمليات عدوانية أدت إلى إصابة الآلاف من أعضاء الحزب.

وكان من الممكن أن تدرك أن هذا الطموح الجديد سيقود نحو الهاوية، وأن المطالبين به أساؤوا فهم حزب الله والمجتمع اللبناني والنسيج السياسي في البلاد بشكل جذري. ففي أفضل الأحوال فإن هذه الجهود سوف تفشل. أما في أسوأ الأحوال، فإنها سوف تودي لبنان إلى حرب أهلية جديدة، مما يزيد من تدويل الصراع الذي صار إقليمياً. هناك طريق بديل لتأمين السلام على الحدود الجنوبية للبنان، ولكن هذا يتطلب إعادة تقييم رصينة تحول التركيز من محاولة تدمير حزب الله إلى معالجة الأسباب التي تجعل العديد من اللبنانيين ينظرون إلى الجماعة باعتبارها ضرورة وجودية.

شدد مسؤولون في إدارة بايدن، في تصريحات صحفية كما في مشاورات خاصة مع الأطراف المعنية الإقليمية، على “الفرصة” التي توفرها ضربات إسرائيل ضد حزب الله لكسر “قبضة” الحزب على لبنان. بالنسبة لواشنطن، يشمل ذلك إجبار حزب الله على نزع سلاحه وكسر عامين من الجمود السياسي الأمر الذي حال دون قيام البرلمان اللبناني بانتخاب رئيس جديد.

أما ما سميت “رسالة إلى شعب لبنان” من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تخللها المزيد من التهديد. وقال إن “حزب الله أضعف مما كان عليه منذ سنوات عديدة”، داعياً اللبنانيين إلى “النهوض واستعادة بلدكم” خشية أن تلحق إسرائيل بلبنان “الدمار والمعاناة كما نرى في غزة”. ويبدو أن تأكيده الملحوظ على أن حزب الله “سيقاتل إسرائيل من المناطق المكتظة بالسكان” يحاول استباقياً تبرير توسيع إسرائيل قصفها منذ ذلك الحين للأحياء المدنية في المناطق غير المرتبطة بحزب الله

بعض الانتهازيين من السياسيين اللبنانيين تبنوا رواية مفادها أن الوقت قد حان لإخضاع حزب الله وقطع علاقاته مع إيران. غير أن هذا التفكير قصير النظر وخاطئ.

قراءة خاطئة للمشهد

أولاً، يرتكز الموقف الأمريكي والإسرائيلي على افتراض أن حزب الله قد وصل إلى مرحلة الانهيار العسكري أو يقترب منها، وأن الغزو البري الإسرائيلي المستمر لن يؤدي إلا إلى دفعه بهذا الاتجاه. وفي حين أن الحزب فقد مؤخراً مجموعة كبيرة من كبار قادته، فإن التخطيط الشامل للخلافة والقيادة اللامركزية في حزب الله يعني أنه تم استبدالهم منذ ذلك الحين. ولا يزال هيكله التنظيمي قائماً. 

كما أن مخزون حزب الله من الصواريخ والمسيرات المسلحة لم يمسّ أيضاً، والذي، حتى بحسب التقديرات الإسرائيلية الأكثر تفاؤلاً، لا يزال يصل إلى عشرات الآلاف. وقد تجلت قدرة حزب الله على استخدام ترسانته في تصعيد ضربة على قاعدة عسكرية إسرائيلية جنوب حيفا أسفرت عن مقتل أربعة جنود وإصابة حوالي 70 آخرين.

إن قراءة واشنطن الخاطئة لـ"الفرصة" الحالية تنبع أيضاً من عدم قدرتها على إدراك حقيقة مفادها أن العديد من اللبنانيين وخاصة، ولكن ليس حصراً، في الطائفة الشيعية، لا يرون بديلاً لحزب الله المسلح.

ولتتمكن إسرائيل من مواصلة ضغوطها التصعيدية، فإن ما تسمى “التوغلات المحدودة” في جنوب لبنان لابد أن تكون أكثر فعالية من غزوها لغزة الذي دام عاماً كاملاً الآن ضد حماس. بل إن إسرائيل زادت وجود قواتها البرية بمقدار الثلث، بعد تقارير عديدة عن كمائن حزب الله و قتلى وجرحى من جنود الاحتلال تم إعادتهم من الخطوط الأمامية. ورغم أن حزب الله يتكبد خسائر بكل تأكيد، فإن احتياطي الحزب ضخم، كما أن الغزو البري الإسرائيلي بدأ يأخذ شكل المستنقع.

إن قراءة واشنطن الخاطئة لـ”الفرصة” الحالية تنبع أيضاً من عدم قدرتها على إدراك حقيقة مفادها أن العديد من اللبنانيين وخاصة، ولكن ليس حصراً، في الطائفة الشيعية، لا يرون بديلاً لحزب الله المسلح. فقد اتخذت قوات الجيش اللبناني خياراً منطقياً بالانسحاب من مواقعها في مواجهة الغزو البري الإسرائيلي: فلماذا تكبد خسائر لا داعي لها في مواجهة عدو أقوى منها بشكل ساحق؟ وتراجع الجيش اللبناني يُفهم لدى الذين يعيشون في الجنوب وفي جميع أنحاء البلاد كتذكير بأنه لا توجد قوة أخرى في لبنان يمكنها حماية منازلهم ومجتمعاتهم من إسرائيل غير حزب الله.

واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يرى الناس ما يحدث في الضفة الغربية المحتلة، حيث يواصل مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين البناء على الأراضي المنهوبة، وتشريد العائلات الفلسطينية التي عاشت هناك لكل تاريخها. ولم يكن جنوب لبنان ليختلف عن الضفة لولا مقاومة حزب الله المسلحة للاحتلال الإسرائيلي على مدى 18 عاماً. وبينما انسحبت إسرائيل في عام 2000، ظلت المخاوف من أجندتها التوسعية قائمة، ولسبب وجيه. فوزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش ذكر صراحة أن إسرائيل تعتزم الاستمرار “شيئاً فشيئاً” في توسيع حدودها لتشمل أراضي من جميع الدول المجاورة. في هذه الأثناء، قام جنود إسرائيليون بزرع علمهم في قرية مارون الراس اللبنانية، في حين نشرت مجموعة من المستوطنين خريطة لإعادة صياغة جنوب لبنان بأسماء عبرية للقرى.

وفي كلام نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم الثلاثاء ما فهمه جيداً الكثيرون: “لبنان جزء من مشروع إسرائيل التوسعي”. وفي ظل حرمان لبنان من أي حماية أخرى، يُنظر إلى حزب الله – الذي ينحدر العديد من أعضائه من الجنوب أنفسهم – على أنه القوة الوحيدة القادرة على الدفاع عن الموطن اللبناني من التوسّع الصهيوني.

خلال تطور حزب الله منذ الثمانينيات، نمت أذرعه أيضاً لتصبح مصدر قوة وحماية للطائفة الشيعية في لبنان داخلياً، وهي كانت تاريخياً الأكثر تهميشاً اقتصادياً وسياسياً بين الطوائف الكبرى في البلد. انقلبت هذه التبعية المنهجية رأساً على عقب في العقود الأخيرة من خلال اللجوء الضمني إلى استخدام ترسانة حزب الله بالقوة. وهذا ما حصل حين استعرض حزب الله قوته العسكرية في أيار 2008، عندما اجتاحت القوات المتحالفة معه بيروت لإجبار الحكومة على إلغاء قرارات سياسية رئيسية. وفي حين كان من الممكن أن يتم تهميش ممثلي الطائفة الشيعية في ديناميكيات السلطة الطائفية في لبنان، إلا أن لجوئهم الضمني إلى القوة جعلهم بدلاً من ذلك لاعبين مهيمنين في عملية صنع القرار السياسي اللبناني.

ومن الحكمة أن تضع واشنطن في اعتبارها أن أي رئيس لبناني يُنظر إليه على أنه وصل إلى السلطة على ظهر دبابة أمريكية أو إسرائيلية من غير المرجح أن يحظى بفترة ولاية ممتدة. ففي المرة الأخيرة التي قامت فيها إسرائيل بتسليح مرشحها اللبناني المفضل إلى كرسي الرئاسة، أي بشير الجميل في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، تم اغتياله في غضون أسابيع.

إما وقف إطلاق النار أو الحرب الأهلية

دون معالجة الدوافع الخارجية والداخلية لسلاح حزب الله، فلن يكون هناك دعم كبير لنزع سلاحه بين جماعته الأساسية. ومهما كان الأمر، فمن غير المرجح أن تتمكن إسرائيل أو الولايات المتحدة من إجبار الحزب على ذلك. فإن محاولة أطراف أخرى داخل لبنان إرغام حزب الله على تسليم سلاحه من شأنها أن تؤدي مباشرة إلى حرب أهلية ـ وفي هكذا حرب سيكون حزب الله الطرف الأكثر تسليحاً والأكثر تمرّساً في القتال.

اجتذبت الحرب الأهلية السابقة أكثر من اثنتي عشرة دولة مؤيدة لمختلف الفصائل المتحاربة، وتسببت بسقوط مئات الآلاف من الضحايا وعدد هائل من اللاجئين، ودمرت البلاد، وأفرزت شبكات إجرامية عالمية، وتسببت في زعزعة الاستقرار الإقليمي، وشهدت تأسيس حزب الله وزرع إيران بذور لما يسمى محور المقاومة. ويجب ألا يتكرر هذا الإرث البائس، ومع إظهار حزب الله الانفتاح على وقف لإطلاق النار، فلا داعي لذلك أصلاً.

ومن ضرورات دعم الدولة أن يتضمن أي اتفاق لوقف إطلاق النار مساراً لوضع القدرات العسكرية لحزب الله تحت سيطرة الجيش اللبناني.

إن وقف إطلاق النار في لبنان ضروري على المدى القصير أيضاً للحفاظ على الدولة اللبنانية، والتي كانت بالأصل تعاني من أزمة وجودية بعد خمس سنوات من الانهيار المالي والجمود السياسي وانفجار مرفأ بيروت وأزمة اللاجئين السوريين. إضافة إلى ذلك، أدت الحرب المستمرة إلى مقتل أكثر من 2000 شخص، وإصابة أكثر من 10000 شخص وتشريد مليون، وتركت أجزاء كبيرة من بيروت والجنوب وأماكن أخرى تحت الأنقاض.

ومن ضرورات دعم الدولة أن يتضمن أي اتفاق لوقف إطلاق النار مساراً لوضع القدرات العسكرية لحزب الله تحت سيطرة الجيش اللبناني. ولكن، كي تتولى الدولة هذا الدور، لابد من الاستعانة بهياكل أخرى تقدم الحماية التي مثلها حزب الله للطائفة الشيعية ضد إسرائيل وداخل لبنان. 

أولاً، لابد من ربط مفاوضات وقف إطلاق النار الجارية بين لبنان وإسرائيل باتفاقية أمنية إقليمية جديدة يدعمها المجتمع الدولي. ويجب أن يتضمن هذا الاتفاق ضمانات دولية تدعم توازن قوى جديد ومستدام مع إسرائيل، لتقييد الميول التوسعية لإسرائيل مقابل حدود آمنة.

ثانياً، مقابل تسليم حزب الله أسلحته إلى الدولة اللبنانية والتخلي عن حق النقض السياسي الذي يتمتع به، على وسطاء السلطة اللبنانيين الآخرين أن يتفقوا على التفاوض بشأن إعادة توزيع عادلة للسلطة السياسية داخل البلاد. وفي حين أن الصيغة الدقيقة لمثل هذا الترتيب ينبغي أن تكون نتاج تلك المفاوضات، فإن النتيجة يجب أن تكون آلية تضمن للطائفة الشيعية دوراً بارزاً إلى جانب الطوائف الأخرى في صنع القرار السياسي. 

أخيراً، على الأطراف اللبنانية التفاوض بشأن استراتيجية دفاعية وطنية جديدة لإصلاح وتحديث عمليات وأولويات الجيش اللبناني. ويجب أن تحظى هذه الاستراتيجية بدعم دولي وأن يتم دمجها مع الترتيبات الأمنية الإقليمية الجديدة.

هذا هو الطريق الأسلم لتأمين حدود لبنان الجنوبية. أما المسار الحالي الذي اتخذته الولايات المتحدة وإسرائيل فلا يضمن سوى توسيع نطاق الحرب وتداعياتها المأساوية على جميع المشاركين فيها، دون أن يلوح أي حلّ واضح في الأفق.

تم نشر هذا التعليق في الأصل في “العربي الجديد“.

 

المواضيع ذات الصلة