اعتزم أهم قضاة لبنان منذ عام 1956 التأجيل والمقاومة والخروج عن مسارهم لمنع سن قانون سرية مصرفية فعال يسّهل التحقيقات الفعالة للجرائم المالية، وأقرّ الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، قبل مغادرته القصر الرئاسي بأيام، قانون سرية مصرفية نوقش طويلًا طاويًا صفحة جديدة. يبقى سن القانون الطلب الوحيد لتقديم صندوق النقد الدولي الدعم المالي حتى الآن، لكن الحماس على تداعياته تخطت الحدود، وحتى صندوق النقد التزم الصمت حيال ما إذا كان القانون “يمتثل إلى المعايير العالمية لمكافحة الفساد… التحقيق بالجرائم المالية واسترداد الموجودات”. للصمت سبب وجيه.
سيسمح التعديل للسلطات الضريبية والقضائية والإدارية بالوصول إلى المعلومات المصرفية التي كانت بحماية السرية المصرفية بهدف التحقيق بالجرائم المالية، لكن النسخة النهائية من القانون مليئة بالثغرات القانونية مما يبيّن نية النخبة السياسية والمصرفية اللبنانية بفعل أقل ما يمكن لسن قانون يرضي صندوق النقد الذي رفض النسخة السابقة.
تضارب مصالح
أصبح بإمكان البنك المركزي اللبناني ولجنة الرقابة المصرفية والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع طلب معلومات مصرفية بطلب من صندوق النقد. سابقًا، طلب المعلومات كان مسموحًا به فقط لفرع من فروع المصرف المركزي. لكن بدلًا من التحقيق بالحسابات الفردية يحد عمل نخبة المؤسسات المصرفية التنظيمية اللبنانية بمراجعة معلومات مثل ميزانيات المصارف ومحاولة تحديد الاتجاهات في الميزانيات العمومية، وفرض هذه المحدوديات على المصرف المركزي ولجنة الرقابة المصرفية والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع لإقامة تحقيق “عام” يضعف القانون بشكل جلي.
بيد أن صندوق النقد قد ذكر الحاجة إلى إعطاء المصرف المركزي ولجنة الرقابة المصرفية والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع استقلالًا تشغيليًا، سيحدد وصولهم إلى المعلومات بمراسيم تنفيذية وزارية يصدرها أولًا وزير المالية، وثانيًا مجلس الوزراء اللبناني. تربط وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال الحالية، يوسف خليل، علاقات وطيدة بالقطاع المصرفي اللبناني، حيث عمل خليل عن كثب مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كمدير للعمليات المالية في مصرف لبنان، وزعم أنه شارك بهيكلة مخطط “الهندسات المالية” الذي هدم اقتصاد لبنان الهش.
كما صرح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وشقيقه طه ميقاتي عن امتلاكهما حصصًا في بنك عودة، وحكم على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بالإثراء غير المشروع بعدما راكم أرباحًا لا شرعية عبر أخذ قروض إسكان مدعومة، ثم أسقط الحكم بناء على “حجة إجرائية مختلفة”، وليس بعد إجراء تحقيق معمق بمزايا القضية، بحسب المفكرة القانونية.
يخالف القانون المدني
كما يمكن الطعن بطلبات المصرف المركزي ولجنة الرقابة المصرفية والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع عبر السلطات القضائية. قد يؤدي ذلك إلى تأجيل التحقيقات بشكل ملحوظ، كما أنه يتعارض بشدّة مع القانون المدني اللبناني. خلال عملية الطعن، تقدم القضية لقاضي الأمور المستعجلة الذي يحكم على الخلافات التي يجب معالجتها على الفور، ويصدر بعدها قرار متعمد بحسب “أوامر على العريضة” المندرجة تحت القانون المدني اللبناني.
يحوم الالتباس حول ما إذا كان الطعن يعلق التحقيق والوصول إلى المعلومات. يحدد القانون المدني أن عملية الطعن لا تعلق التحقيق بحسب الأوامر على العريضة، لكن بحسب قانون السرية المصرفية، يجب أن يوقف التحقيق والوصول إلى المعلومات إلى أن يصدر القاضي القرار. يزيد التناقض الواقع بين القانون المدني وقانون السرية المصرفية عملية التحقيقات تعقيدًا، كما أنه يمكن أن يؤدي إلى تدخلات سياسية في العملية القضائية عبر التفسيرات غير الموضوعية للقوانين، كما يمكن أن يطعن بالتناقض باعتباره غير متناسق مما يعتبر طعنًا بالقانون نفسه.
نظام مزور
بينما تعطي التعديلات المعتمدة القضاء الحق بالوصول إلى معلومات الحسابات المصرفية الشخصية يبقى هناك إغفال صارخ ومتعمد وصامت. يمكن للسلطات القضائية الوصول للمعلومات المصرفية فقط في حال وجود تحقيق جنائي مفتوح، ولفتح تحقيق جنائي، يجب على النيابة العامة رفع دعوة، لكن القانون لا يتيح لها الوصول إلى المعلومات المصرفية. هذه ليست الحال في الأنظمة الشفافة والمتوافقة مثل التي في الدنمارك (بحسب الإنفوغراف التالي).
لذا تبقى أيدي النائب العام مكبّلة بموضوع التحقيق بالجرائم المالية، وسيبقى الدليل المطلوب للتحقيق وفتح قضية مكبوحًا بقوة بلا ضمان حق وصول النيابة العامة إلى المعلومات المصرفية، وربما تلك هي نية المشرعين الأساسية.
خطوة إلى الأمام…
لا يحرز القانون الحالي تقدمًا تجاه محاسبة حقيقية، بيد أنه يشكل مدخلًا لمعالجة النظام المصرفي الذي يحتضر. لا يتعلق إصلاح السرية المصرفية بالجرائم المالية فقط، بل يرتبط تشريع السرية المصرفية بشكل وثيق بإعادة هيكلة المصارف، وفرض قيود على الأصول والإصلاح الضريبي وهجرة الودائع واسترداد الموجودات واسترداد أموال المدراء التنفيذين للمصارف. يبقى السؤال الوحيد عمّا إذا كان سيكتشف المقرض العالمي للحل النهائي أن القانون سيأخذ خطوات بسيطة لفتح الصندوق اللبناني للأسرار المصرفية والبحث به للمرة الأولى والأخيرة.