خسائر فادحة
حتى في تاريخ لبنان الحديث والمضطرب لم يكن بوسع هجرة مقدمي الرعاية المختصين أن تأتي في وقت أسوأ،.
فقد أوضح عزيز قائلاً: “بالطبع، يعاني الكثير من الناس معاناة شديدة من الحالة السياسية والاقتصادية”، وأضاف “تشعر أن الناس بالفعل يمسكون أخر قشة”.
ومما يثير القلق أن الأوضاع المتردية أثقلت كاهل الشباب اللبناني حيث تبلغ نسبة المتصلين في سن الـ35 عاماً 60 بالمائة، ووفقًا لما ذكرت “إمبريس” فإن انفجار ميناء بيروت أدى الى تفاقم قضايا الصحة العقلية، مشيرةً إلى أن دراسة استقصائية لسكان بيروت بعد الانفجار بوقت قصير أظهرت نتائجها أن 83 بالمائة من المستجيبين يشعرون بالحزن كل يوم تقريباً، وأن 78 بالمائة يشعرون بالقلق أو الفزع، كما يشعر 84 بالمائة بالحساسية إزاء الضوضاء العالية والمخاطر.
وتحول الضحايا الآن مع تلاشي إمكانية الحصول على خدمات الصحة العقلية إلى استراتيجيات المواجهة السلبية، حيث سجلت “سكون”، وهي منظمة غير حكومية محلية تدير مركزاً مجانياً لإعادة تأهيل الإدمان، زيادة كبيرة في الطلب في السنوات الأخيرة ، واعترف للمنظمة حوالي 450 شخصاً بتهمة الإدمان في عام 2019، كما قفز هذا الرقم بنسبة 33 بالمائة مع نهاية عام 2021، وتتوقع “سكون” أن ترتفع هذه الأرقام في عام 2022حيث مددت قائمة الانتظار الحالية لديها للعلاج.
مشكلة طويلة الأمد
لا تستطيع الحكومة أن تلوم كارثة الصحة العقلية في لبنان على سوء الحظ، بل إن سوء إدارة هذا القطاع استمر لعقود من الزمن، وهو الأمر الذي ترك الخدمات الحيوية معرضة بشكل ميؤوس منه للأزمة الاقتصادية التي لم يسبق لها مثيل في لبنان.
إذ أسندت وزارة الصحة العامة مبالغ طائلة من علاوة ميزانيتها لخدمات الصحة العقلية قبل تشرين الأول (أكتوبر) في عام 2019، واليوم، تشكل مخصصات الصحة العقلية نحو 1 بالمائة من الميزانية الإجمالية لوزارة الصحة، وهي أقل بكثير من نصف الإنفاق العالمي المتوسط، والذي يشكل 2.4 بالمائة من التمويل الصحي الحكومي.
ويتناقض غياب اهتمام الحكومة في مجال الرعاية الصحية النفسية مع تاريخ لبنان المليء بالمعاناة، وما زال اللبنانيون يكافحون الصدمات الناجمة عن الحرب الأهلية (1975-1990)، وتظهر آثار الندوب والصدمات العميقة واضحة على كل من الناجين وذريتهم، ومنذ ذلك الحين، عاشت أجيال ما بعد الحرب سلسلة من الأحداث المؤلمة، منها حرب تموز (يوليو) في عام 2006، والأزمة الاقتصادية المستمرة في البلاد، بالإضافة إلى انفجار ميناء بيروت.
وحتى في هذه الأوقات الحالية المؤلمة فإن الدولة لديها بعض الخيارات لتجنب كارثة صحية، ومن هذه الخيارات مايلي: أولاً، ينبغي لوزارة الصحة العامة أن تكلف بإجراء تقييم للصحة النفسية على الصعيد الوطني، نظراً لأن أخر دراسة شاملة تعود إلى أكثر من عشر سنوات، ومن شأن هذه الخطوة الأساسية أن تساعد الحكومة على تحديد الاحتياجات ووضع السياسات استجابة لتلك الاحتياجات، ومن المؤكد أن تكون إحدى هذه المبادرات حملة للتوعية بالصحة النفسية للتغلب على الأفكار المسبقة للمجتمعات لطلب المساعدة لمواجهة تحديات الصحة النفسية.
وثانياً، يجب على الحكومة أيضاً أن تنظر في السبل الفورية لتوسيع نطاق حصول الجمهور على خدمات الصحة النفسية، ويمكن لوزارة الصحة العامة أن تتعاون مع شركاء دوليين لتوفير التمويل لمهنيي الصحة النفسية من الأطباء النفسيين وأخصائيي الدعم النفسي، مثل تقديم حوافز مالية للبقاء في لبنان، وبالتوازي مع ذلك ينبغي للبرامج أن تستكشف إمكانية تقديم خدمات المشورة عبر الإنترنت، مما يتيح للمغتربين اللبنانيين وغيرهم من مقدمي الخدمات في الخارج المساعدة.
ولن يكفي الإيمان “بالمرونة” اللبنانية كما تردد النخب السياسية في لبنان، مع العلم أنها مصدر للعديد من المصائب التي يواجهها لبنان، لأن هذه النزعة الرديئة في مواجهة المحنة التي يُشخصها عالم النفس عزيز على أنها “عجز متعلم”، لا تقدم حلاً طويل الأمد لانهيار الصحة النفسية في لبنان، وهو ما أوضحه بقوله: “إن القدرة على التحمل هي عموماً سيف ذو حدين”، وتابع مضيفاً “إنه يساعدك على البقاء والتكيّف، ولكن في بعض الأحيان يجعلك تقبل الأشياء من الحكومة التي لن تقبلها في ظروف مختلفة على سبيل المثال”.
[1] الجمعية اللبنانية للطب النفسي، أثر الأزمة على الخطط الوظيفية للأطباء النفسيين في لبنان، 2022.