الوصول أو الإقصاء: فخّ التعلّم الرقمي في لبنان

الحلول التقنية في التعليم تهدد بتفاقم عدم المساواة في المدارس العامة

31 كانون الأول، 2024

ملخص تنفيذي  

نظام التعليم في لبنان اليوم في حالة تفكّك. فإن سنوات من الانهيار الاقتصادي والجمود السياسي والأحداث المدمرة مثل انفجار مرفأ بيروت، أدت إلى تدمير المدارس العامة وتفاقم نقص التمويل. والآن وفي أعقاب الحرب يواجه آلاف الطلاب أزمة أخرى: إغلاق الفصول الدراسية وتحويل المدارس إلى ملاجئ وتوقف التعليم إلى أجل غير مسمّى. إن جيل كامل على حافة الضياع، حيث أصبح التعليم اليوم أحد ضحايا حالة الطوارئ المستمرة في لبنان. 

واستجابة لذلك دفع صناع السياسات باتجاه تبنّي التعلم الرقمي كحل سريع – أي ضمادة فوق جرح متقيح. لكن الاعتماد على التكنولوجيا في هذا السياق هو هروب من المسؤولية والعمل الشاق لإصلاح نظام التعليم العام الذي يوشك اليوم على الانهيار. للأدوات الرقمية دور يمكن أن تلعبه لكنها ليست بديلاً عن الأساسيات: الفصول الدراسية الآمنة والمعلمون المدربون والمناهج التي تعد الطلاب لمستقبلهم. وبدون معالجة هذه القضايا الجوهرية، فإن التعلم الرقمي قد يكون مجرد سراب في صحراء أزمة التعليم في لبنان. 

تكشف هذه الدراسة عن أوجه عدم المساواة التي قد تخفيها المبادرات الرقمية، بل تعمقها في كثير من الحالات. وبينما تكيفت المدارس الخاصة بسرعة مع التعلم عن بعد أثناء الجائحة، تعثرت المدارس العامة في هذا المجال. فإن أكثر من نصف الأسر الضعيفة لا تمتلك الوصول الكافي إلى الإنترنت، وهناك أسر كثير ليس لديها وصول إلى كهرباء أو أجهزة ملائمة للتعليم. كما أن الطواقم التدريسية والتي لم تتلقى تدريباً كافياً وتعاني من انخفاض الأجور، تنازع  اليوم لتقديم الدروس عبر تطبيق “واتساب”. كما أن الأطفال اللاجئين – والذين تتجاوز معدلات تسربهم من المدارس 70% – يتم دفعهم إلى الهامش أكثر فأكثر. 

يعكس توجه لبنان نحو التعلم الرقمي اتجاهاً أوسع يتمثل في الاستعانة بمصادر خارجية لتقديم الخدمات العامة للجهات المانحة الدولية والمنظمات غير الحكومية. وبينما قد تقدم هذه الجهات الفاعلة إغاثة مؤقتة، فإنها لا تستطيع أن تحل محل دور الدولة في ضمان الوصول إلى التعليم الجيد. إن الاعتماد على المنصات الرقمية يغطي على تفاوتات هيكلية أعمق، ويعطي الأولوية للنتائج السريعة على العمل الشاق والضروري لإجراء إصلاح شامل. 

أزمة التعليم في لبنان تتطلب أكثر من حلول مؤقتة. على صناع السياسات أن يواجهوا بعض الحقائق الصعبة: إن إعادة بناء النظام التعليمي العام غير قابل للتفاوض، ويتطلب الاستثمار في المدارس وتمكين الطواقم التدريسية ومعالجة الحواجز الاجتماعية والاقتصادية التي تمنع الطلاب من التعلم. يمكن للأدوات الرقمية أن يكون لها دور تكميلي في هذه العملية لكنها لا تستطيع أن تقودها. إن المخاطر واضحة: دون الإصلاحات العاجلة فإن لبنان لا يخاطر بخسارة مدارسه فحسب، بل بجيلٍ كامل. 

مقدمة   

أدى العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان إلى تفاقم الأزمات الحادة في البلاد وزاد من تعقيد سنوات من التحديات الأساسية التي أدت إلى تدهور قطاع التعليم العام بشكل كبير. في حين نزحت آلاف العائلات وتم تحويل العديد من المدارس العامة إلى ملاجئ جماعية، تم تأجيل العام الدراسي الرسمي إلى 4 تشرين الثاني. وقبل هذه الأزمة الأخيرة كانت المدارس العامة في لبنان تواجه صعوبات جمّة نتيجة جملة التحديات المتداخلة في القطاع. على المستوى الهيكلي تشمل هذه التحديات نقص التمويل المزمن مما أدى إلى تراجع جودة التعليم، بالإضافة إلى أزمة اللاجئين السوريين والانهيار الاقتصادي في عام 2019 وانفجار مرفأ بيروت في عام 2020 وجائحة كوفيد-19، فضلاً عن الاستقرار السياسي الهش. تحملت المدارس العامة، والتي تقدم التعليم المجاني لخدمة غالبية الأطفال المحرومين في لبنان، وطأة هذه الصدمات مما سبب افتقار العديد من الطلاب إلى وصول متّسق إلى التعليم الجيد وأدى إلى خسائر كبيرة في التعليم. خسر الأطفال اللبنانيون أكثر من 60% من تعليمهم في السنوات الست الماضية، بينما يعاني الأطفال السوريون اللاجئون، والذين يعتمدون بشكل كبير على التعليم العام، من معدلات التحاق لا تتجاوز 30% وبعض أعلى معدلات التسرب من التعليم مع تقدم أقل من 4% إلى المرحلة الثانوية. 

وفي هذا السياق تم الترويج للتعلم الرقمي كحلّ محتمل لضمان استمرارية التعليم وسط الاضطرابات المتكررة. يشمل التعلم الرقمي على نطاق واسع الممارسات التعليمية التي تستخدم التكنولوجيا لدعم التدريس والتعلّم. خلال جائحة كوفيد-19 اعتمد المركز اللبناني للبحث والتطوير التربوي (CERD) مزيجاً من التعلّم عبر الإنترنت والدروس المسجلة بالفيديو والمواد التعليمية المطبوعة لدعم التعلم عن بعد. ومؤخراً تم اعتماد “خطة الاستجابة لتكاليف التعليم في حالات الطوارئ” (EECRP) التي قدمها وزير التربية والتعليم العالي خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، والتي اقترحت نموذجاً مرناً يجمع بين التعلّم التقليدي والهجين والتعلم عبر الإنترنت، ووفقاً لظروف المدارس (مثل ما إذا تم تحويلها إلى ملاجئ أو تعرضت المباني للتدمير) وذلك “لضمان استمرارية التعلم لجميع الطلاب”. 

ورغم أن مبادرات التعلم الرقمي تهدف إلى التخفيف من الاضطرابات في التعليم إلا أنها تكشف عن مسائل في العدالة الرقمية. ترتبط العدالة الرقمية في التعليم بالقضية الأوسع المتعلقة بـ “الفجوة الرقمية” والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مستويات: الوصول (التفاوت في الوصول إلى التقنيات الرقمية والإنترنت)، والمهارات (التفاوت في المعرفة الرقمية الأساسية)، والنتائج (التفاوت في القدرة على استخدام الأدوات الرقمية بشكل فعال لتحقيق نتائج تعليمية ذات مغزى). وفي لبنان حيث ما زالت هناك تفاوتات صارخة في التعليم لا سيما بين المدارس العامة والخاصة، يثير إدخال التكنولوجيا الرقمية لضمان استمرارية التعلم تساؤلات هامة: هل يمكن للمدارس العامة الاستفادة من التعلم الرقمي لسد هذه الفجوات؟ من الذي يستفيد فعلياً من هذه المبادرات الرقمية، ومن يتخلف عن الركب؟ 

تتشابك أوجه عدم المساواة الرقمية مع قضايا اجتماعية أوسع مثل الطبقة الاجتماعية والجنس والعرق وغيرها من أشكال التمييز القمع، مما يبرز الحاجة إلى منظور أكثر دقة.

تركز العديد من الدراسات حول (عدم) المساواة الرقمية في التعليم على فجوات قابلة للقياس (في الوصول والمهارات والاستخدام)، ولكنها غالباً تتجاهل أوجه عدم المساواة الأكثر عمقاً التي تشكّل تجارب الطلاب والمعلمين مع التكنولوجيا. وتتشابك أوجه عدم المساواة الرقمية مع قضايا اجتماعية أوسع مثل الطبقة الاجتماعية والجنس والعرق وغيرها من أشكال التمييز القمع، مما يبرز الحاجة إلى منظور أكثر دقة. ومن ثم فإن فهم أوجه عدم المساواة الرقمية في سياق التعليم اللبناني يتطلب وضعها في إطار التحديات الهيكلية المستمرة في البلاد ودراسة تقاطعها مع الواقع التعليمي والاجتماعي للمعلمين والطلاب. هذا النهج، الذي يدرس تأثير عدم المساواة الأوسع على الوصول إلى التعلم الرقمي ونتائجه، يتحدى الافتراض القائل بأن مبادرات التعلم الرقمي يمكن أن تخفف بشكل فعال الأزمات التعليمية في لبنان –ناهيك عن حلّها. ففي البداية يحول هذا النهج التركيز نحو التغييرات النظامية اللازمة لخلق بيئة تعليمية أكثر إنصافاً لجميع الطلاب، ويضمن أن الحلول الرقمية لن تعزّز أوجه عدم المساواة القائمة أو تخلق أوجه جديدة لها. 

رقمنة التعليم في لبنان   

الحلول التكنولوجية في سياسة التعليم  
 

يعكس الدافع نحو دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتعلم الرقمي في لبنان الاتجاهات العالمية التي تروج للتكنولوجيا كعنصر رئيسي في تحديث التعليم، ولكنه أيضاً ردّ فعل على الاضطرابات الكبيرة التي يشهدها قطاع التعليم العام في لبنان. وهذه الرؤية للحلول التكنولوجية تعتبر التقنيات الرقمية علامات على التقدم الاجتماعي وأنها تتيح حلولاً عملية لتحديات مثل إغلاق المدارس.  

تنعكس هذه الحلول التكنولوجية في الاستراتيجيات الوطنية مثل الخطة الاستراتيجية الوطنية لتكنولوجيا التعليم لعام 2012 التي أصدرتها وزارة التربية والتعليم العالي تحت عنوان “التعليم والتعلم في العصر الرقمي”، و”خطة لبنان الرقمي” التي أصدرتها وزارة الدولة لشؤون الإصلاح الإداري ضمن استراتيجية التحول (2020-2030). بناءً على خطط إصلاح التعليم السابقة في عامي 1994 و2010-2015 والتي أدخلت دراسات الكمبيوتر إلى المناهج الدراسية وسعت لتعزيز استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المدارس، تهدف هذه الخطط إلى الاستفادة من القوة التحويلية للتكنولوجيا الرقمية في التعليم. وتهدف خطة وزارة التربية والتعليم العالي لعام 2012 إلى تطوير البنية التحتية للمدارس ودمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المناهج الدراسية، وكذلك في ممارسات التدريس والتقييم. 

وفي حين أن تكامل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كان جارياً في العديد من المدارس الخاصة لدعم العملية التعليمية، فقد فشلت هذه الطموحات إلى حد كبير في المدارس العامة بسبب التحديات المستمرة مثل المنهج الدراسي القديم غير المتوافق مع تكامل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ونقص التدريب الكافي للمعلمين وعدم كفاية التمويل، والفوارق الإقليمية في المعدات والبنية التحتية وقدرات المعلمين. 

غالباً يلجأ معلمو المدارس العامة الذين يفتقرون إلى الدعم إلى استخدام تطبيق "واتساب" لتقديم الدروس، بينما يصارع العديد من الأهالي – خاصة ذوي الكفاءة المحدودة في لغات التدريس مثل الفرنسية أو الإنجليزية – لمساعدة أطفالهم.

وقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن هذه الثغرات بشكل أكبر. فقد أدى إغلاق المدارس في عام 2020 إلى التحول إلى التعلّم عن بعد. وبينما ابتكرت المدارس الخاصة استراتيجياتها الخاصة للتعلم عن بعد اعتمدت المدارس العامة على مبادرات المركز التربوي للبحوث والإنماء والمنصات عبر الإنترنت مثل “مواردي” والدروس بالفيديو. ومع ذلك واجه الطلاب من الأسر المحرومة اجتماعياً واقتصادياً –وهم المستفيدون الرئيسيون من التعليم العام المجاني– الاستبعاد بسبب عدم استقرار الكهرباء ومحدودية الوصول إلى الإنترنت ونقص الأجهزة. وكشفت دراسة أجرتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في عام 2020 أن 54% فقط من الأسر الضعيفة كان لديها إمكانية الوصول إلى الإنترنت، مع وجود فوارق هائلة بين المناطق: 65.5% في بيروت مقارنة بـ 25.5% في عكار مثلاً. وغالباً يلجأ معلمو المدارس العامة الذين يفتقرون إلى الدعم إلى استخدام تطبيق “واتساب” لتقديم الدروس، بينما يصارع العديد من الأهالي – خاصة ذوي الكفاءة المحدودة في لغات التدريس مثل الفرنسية أو الإنجليزية – لمساعدة أطفالهم. أدت هذه الظروف إلى تفاقم أوجه عدم المساواة القائمة وترددت أصداء هذه القضية عالمياً. كما أشارت دراسة حديثة: “لقد أدت الحلول الرقمية إلى ترسيخ أوجه عدم المساواة القديمة، وكشفت عن فجوة رقمية تعليمية خلقت أشكالاً جديدة من الإقصاء و’نقاط ضعف (رقمية) جديدة’.” 

أجندة ليبرالية جديدة للتعليم  

يعكس التوجه نحو رقمنة التعليم في لبنان الاقتصاد السياسي الأوسع للبلاد. فقد أدى النقص المزمن في الاستثمار في المدارس العامة، بالإضافة إلى تقليص التمويل الموجه للخدمات العامة الأخرى إلى زيادة الاعتماد على الجهات المانحة الدولية والمنظمات غير الحكومية لسد الفجوات. وقد لعب المانحون دوراً بارزاً في تشكيل سياسات التعليم، في حين أصبحت المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية شركاء أساسيين في تنفيذ هذه السياسات. وتفاقم هذا الاتجاه في ظل اهتمام المنظمات غير الحكومية بمعالجة أوجه القصور في الخدمات الاجتماعية بسبب سلسلة الأزمات التي مر بها لبنان. يجب أن يُفهم هذا السياق ضمن الأيديولوجية النيوليبرالية الأوسع التي تروج لها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي منذ الثمانينيات، والتي ترى أن المنظمات غير الحكومية أكثر كفاءة من الدولة في تقديم الخدمات. وقد أدت هذه الديناميكية إلى التآكل التدريجي لسيادة الدولة وخصخصة الخدمات العامة في لبنان ضمن نظام المساعدات النيوليبرالية. 

يُظهر التركيز المتزايد على التعلم الرقمي في مقترحات الجهات المانحة لقطاع التعليم كيف أصبحت الحلول التكنولوجية هي الإصلاح المهيمن في التعليم اللبناني.

فقد لعبت الجهات المانحة الدولية مثل البنك الدولي واليونيسيف والاتحاد الأوروبي دوراً محورياً في تشكيل سياسات التعليم في لبنان منذ التسعينيات، وزادت تأثيراتها في السنوات الأخيرة. يظهر ذلك بوضوح في “الخطة الخمسية العامة للتعليم 2021-2025” التي وضعتها وزارة التربية والتعليم العالي بمساهمات مباشرة من البنك الدولي واليونيسيف. تتصور هذه الخطة التقنيات الرقمية كحل لخسائر التعلم الناجمة عن إغلاق المدارس، مع تعزيز “مهارات القرن الواحد والعشرين” للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويُظهر التركيز المتزايد على التعلم الرقمي في مقترحات الجهات المانحة لقطاع التعليم كيف أصبحت الحلول التكنولوجية هي الإصلاح المهيمن في التعليم اللبناني. 

من خلال وضع التقنيات الرقمية كعلاج فعال لمعالجة بعض التحديات داخل نظام التعليم اللبناني، تعكس هذه الحلول عقلية نيوليبرالية تعطي الأولوية للنتائج السريعة والقابلة للقياس على حساب معالجة القضايا النظامية الأعمق. ورغم أن الأدوات الرقمية قد تقدم حلولًا فورية في حالات الطوارئ، إلا أن هذه الإجراءات غير كافية لمعالجة أوجه عدم المساواة البنيوية. تظهر الأدلة من البلدان ذات الدخل المرتفع أن عدم المساواة في التعليم يستمر لفترة طويلة بعد تكامل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ومن خلال التأكيد على القوة التحويلية للتكنولوجيا الرقمية لتحقيق الأداء والكفاءة والمساءلة يخاطر هذا النهج بترسيخ عدم المساواة البنيوية بدلاً من معالجة القضايا الأعمق التي تسهم في الفوارق التعليمية بين الطلاب. 

عدم المساواة الرقمية في التعليم  

الشمول الرقمي: ما وراء حواجز الوصول والمهارات 
 

في حين تركز مناقشات السياسات على التكنولوجيات الرقمية باعتبارها حلولاً للتحديات التعليمية، إلا أن قضية (عدم) المساواة الرقمية لا تزال غير مفهومة بما يكفي. وهذا يبرز أهمية إجراء تقييم نقدي ليس فقط للعوامل البنيوية لعدم المساواة التعليمية والاجتماعية بل أيضاً كيف يمكن لمبادرات التعلم الرقمي في لبنان أن تؤدي إلى استمرار أو حتى تعميق هذه الفجوات. وقد وثقت الأبحاث المتعلقة بالتعليم الرقمي في لبنان التفاوت في الوصول إلى التكنولوجيا وعدم كفاية تدريب المعلمين، لكن الكثير من هذا العمل يرتكز على تقييم فعالية التكنولوجيا الرقمية في التعليم. وبالتالي يتم التعامل مع الأدوات الرقمية كأدوات محايدة للتعلم دون نظرة نقدية، ويتجاهل آثارها الاجتماعية والتعليمية الأوسع. يعكس مشروع “EECRP” هذا الفهم الضيق للمساواة الرقمية من حيث الوصول والمهارات من خلال تدابير مثل توزيع حزم الإنترنت المجانية على المعلمين والطلاب وتقديم التدريب عبر الإنترنت للمعلمين على Microsoft Teams. 

وبينما يُعتبر الوصول إلى الأجهزة والإنترنت أساسياً لدمج التكنولوجيا الرقمية بشكل عادل في التعليم، فقد سلطت الأبحاث التي تعتمد على نهج اجتماعي ونقدي الضوء على أن أوجه عدم المساواة تتعدى مجرد الوصول إلى الإنترنت والمهارات الرقمية الأساسية. وحين يتمكن الطلاب من الوصول إلى الأجهزة فإن قدرتهم على استخدامها بفعالية للأغراض التعليمية تعتمد على عوامل اجتماعية وثقافية وسياقية مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والخلفية الثقافية والجنس والموقع الجغرافي ودور الوالدين. فقد أظهرت الدراسات أن دعم الوالدين له تأثير كبير على ممارسات أبنائهم الرقمية وقدرتهم على الاستفادة من التكنولوجيا بشكل إيجابي في تعليمهم، مما يتحدى أسطورة “المواطن الرقمي”. 

وتواجه المدارس العامة، التي تستوعب عدداً متزايداً من الطلاب الذين لم يعودوا قادرين على تحمل تكاليف التعليم الخاص، نقصاً مزمناً في التمويل، وإضرابات متكررة للمعلمين بسبب الأجور المنخفضة، وإغلاقاً لفترات طويلة.
من المعرّضين لخطر التخلف عن الركب التعليم الرقمي؟

في لبنان تندر الأبحاث التجريبية التي تبحث في تأثير السياقات الاجتماعية والثقافية على علاقة الطلاب بالتكنولوجيا الرقمية، وكيف تؤثر ممارساتهم الرقمية على نتائجهم التعليمية والاجتماعية. ومع ذلك تشير الفجوات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة في لبنان إلى أن طلاب المدارس العامة يعانون من عيوب كبيرة. فقد أدى عدم المساواة في الوصول إلى فرص تعلم جيدة، بالإضافة إلى الممارسات الزبائنية في توظيف وتدريب معلمي المدارس العامة، إلى تفاقم التحديات التي تواجهها هذه المدارس. كما أن التعاقد المتزايد مع المعلمين وما ينتج عن ذلك من تراجع في احترافية هذه الفئة من المعلمين، بالإضافة إلى تراجع استثمارات الدولة في القطاع العام، يترك طلاب المدارس العامة في خطر أكبر من التسرب. أفادت اليونيسف في عام 2022 بأن 30% من الأطفال في سن الدراسة قد تسربوا من المدارس، وأن 40% من الأسر خفضت نفقاتها التعليمية، وأن 13% من الأطفال يعملون لإعالة أسرهم. وقد تفاقم الوضع في أواخر عام 2023، حيث أظهرت التقارير أن 26% من الأسر لديها أطفال خارج المدرسة، وترتفع النسبة إلى 52% بين اللاجئين السوريين. 

وتنعكس هذه الفجوات أيضاً في عدم المساواة في البنية التحتية والموارد وتدريب المعلمين بين المدارس العامة والخاصة، وكذلك داخل القطاع العام نفسه، حيث يكون المعلمون المتعاقدون أقل تأهيلاً من المعلمين الدائمين. وغالباً ما يفتقر معلمو المدارس العامة إلى التدريب المناسب على ممارسات التدريس الرقمية، مما يحد من قدرتهم على تعزيز التعلم المستقل والمنظم ذاتياً للطلاب باستخدام التكنولوجيا. مثلاً يُظهر الاستخدام الواسع لتطبيق “واتساب” من قبل معلمي المدارس العامة خلال جائحة كوفيد-19 والاضطرابات الأخيرة إمكانية الوصول إلى هذا التطبيق بسبب انخفاض استهلاك البيانات وسهولة دمجه في ممارسات التدريس نظراً لاستخدامه اليومي في لبنان.  

من المرجح أن تساهم الظروف التعليمية غير المتكافئة بين المدارس، واستراتيجيات التدريس والاجتماعيات المختلفة التي يمكن للطلاب الاعتماد عليها، في (إعادة) إنتاج عدم المساواة الرقمية بين المتعلمين. وقد أدت الأزمات الأخيرة التي مر بها لبنان إلى تفاقم هذه الديناميكيات غير المتكافئة وإضعاف النظام التعليمي الهش بالفعل. تواجه المدارس العامة، والتي تستقبل عدداً متزايداً من الطلاب الذين لم يعودوا قادرين على تحمل تكاليف التعليم الخاص، نقصًا مزمنًا في التمويل، وإضرابات متكررة من المعلمين بسبب تدني الأجور وإغلاق المدارس لفترات طويلة. بالإضافة إلى ذلك تم تحويل نصف المدارس تقريباً إلى ملاجئ جماعية أو تضررت بسبب الحرب الأخيرة، مما أثر بشكل خاص على الطلاب من جنوب لبنان. 

في هذا السياق تثير مبادرات التعلم الرقمي المقترحة ضمن مشروع “EECRP” – مثل منصات التعلم الإلكتروني “مواردي” و”مدرستي”، و”Microsoft Teams” للدروس عبر الإنترنت – أسئلة هامة. وبعيداً عن مسألة الوصول والمهارات، تتطلب هذه المبادرات درجة عالية من التنظيم الذاتي والاستقلالية من الطلاب وهي قدرات يصعب تحقيقها في ظل التحديات الهيكلية الموضحة أعلاه، والتي تفاقمت بسبب النزوح والخسائر العاطفية الناجمة عن الحرب الأخيرة. ودون معالجة هذه العوائق الهيكلية فإن مثل هذه المبادرات قد تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة الرقمية في التعليم، حيث يُتوقع من الطلاب الأكثر عرضة للتسرب أن يتحملوا عبء التعلم المستقل في نظام غير متكافئ وهش. 

الرقمنة ومستقبل التعليم في لبنان  

إن إدخال التعلم الرقمي في لبنان، على الرغم من كونه حلاً للتخفيف من الاضطرابات التعليمية، يكشف عن عدم مساواة نظامية عميقة. فإن الحلول القائمة على التكنولوجيا وحدها لا تستطيع سد الفجوات الناتجة عن نقص التمويل المزمن وعدم الاستقرار السياسي والفوارق الاجتماعية والاقتصادية الهائلة، ما لم يتم معالجة القضايا البنيوية الأساسية. يواجه طلاب المدارس العامة والذين تم تهميشهم بالفعل بسبب المدارس التي تعاني من نقص الموارد، مخاطر أكبر تتمثل في الاستبعاد من التعلم الرقمي بسبب عدم المساواة في الوصول إلى الموارد وعدم كفاية البنية التحتية ومحدودية تدريب المعلمين وتأهيل الكفاءات التدريسية. 

وفي غياب جهود منسقة لمعالجة هذه القضايا الأساسية فإن مبادرات التعلم الرقمي تخاطر بترسيخ الفوارق القائمة بدلاً من المساهمة في استدامة التعليم بشكل العادل. وبالتالي فمن الضروري أن يحوّل صناع السياسات تركيزهم من الحلول التكنولوجية القصيرة الأجل إلى الإصلاحات المنهجية الطويلة الأجل. إن معالجة الحواجز البنيوية مثل النقص المزمن في تمويل المدارس العامة، ونزع الطابع المهني عن معلمي المدارس العامة والتأثيرات المعقدة الناجمة عن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، كلها أساسية لبناء نظام تعليمي أكثر إنصافاً. ودون هذه الإصلاحات فإن المبادرات الرقمية قد لا تخفف من عدم المساواة في التعليم بل قد ترسخه وتفاقمه.  

المواضيع ذات الصلة