ملخص تنفيذي
نظام التعليم في لبنان اليوم في حالة تفكّك. فإن سنوات من الانهيار الاقتصادي والجمود السياسي والأحداث المدمرة مثل انفجار مرفأ بيروت، أدت إلى تدمير المدارس العامة وتفاقم نقص التمويل. والآن وفي أعقاب الحرب يواجه آلاف الطلاب أزمة أخرى: إغلاق الفصول الدراسية وتحويل المدارس إلى ملاجئ وتوقف التعليم إلى أجل غير مسمّى. إن جيل كامل على حافة الضياع، حيث أصبح التعليم اليوم أحد ضحايا حالة الطوارئ المستمرة في لبنان.
واستجابة لذلك دفع صناع السياسات باتجاه تبنّي التعلم الرقمي كحل سريع – أي ضمادة فوق جرح متقيح. لكن الاعتماد على التكنولوجيا في هذا السياق هو هروب من المسؤولية والعمل الشاق لإصلاح نظام التعليم العام الذي يوشك اليوم على الانهيار. للأدوات الرقمية دور يمكن أن تلعبه لكنها ليست بديلاً عن الأساسيات: الفصول الدراسية الآمنة والمعلمون المدربون والمناهج التي تعد الطلاب لمستقبلهم. وبدون معالجة هذه القضايا الجوهرية، فإن التعلم الرقمي قد يكون مجرد سراب في صحراء أزمة التعليم في لبنان.
تكشف هذه الدراسة عن أوجه عدم المساواة التي قد تخفيها المبادرات الرقمية، بل تعمقها في كثير من الحالات. وبينما تكيفت المدارس الخاصة بسرعة مع التعلم عن بعد أثناء الجائحة، تعثرت المدارس العامة في هذا المجال. فإن أكثر من نصف الأسر الضعيفة لا تمتلك الوصول الكافي إلى الإنترنت، وهناك أسر كثير ليس لديها وصول إلى كهرباء أو أجهزة ملائمة للتعليم. كما أن الطواقم التدريسية والتي لم تتلقى تدريباً كافياً وتعاني من انخفاض الأجور، تنازع اليوم لتقديم الدروس عبر تطبيق “واتساب”. كما أن الأطفال اللاجئين – والذين تتجاوز معدلات تسربهم من المدارس 70% – يتم دفعهم إلى الهامش أكثر فأكثر.
يعكس توجه لبنان نحو التعلم الرقمي اتجاهاً أوسع يتمثل في الاستعانة بمصادر خارجية لتقديم الخدمات العامة للجهات المانحة الدولية والمنظمات غير الحكومية. وبينما قد تقدم هذه الجهات الفاعلة إغاثة مؤقتة، فإنها لا تستطيع أن تحل محل دور الدولة في ضمان الوصول إلى التعليم الجيد. إن الاعتماد على المنصات الرقمية يغطي على تفاوتات هيكلية أعمق، ويعطي الأولوية للنتائج السريعة على العمل الشاق والضروري لإجراء إصلاح شامل.
أزمة التعليم في لبنان تتطلب أكثر من حلول مؤقتة. على صناع السياسات أن يواجهوا بعض الحقائق الصعبة: إن إعادة بناء النظام التعليمي العام غير قابل للتفاوض، ويتطلب الاستثمار في المدارس وتمكين الطواقم التدريسية ومعالجة الحواجز الاجتماعية والاقتصادية التي تمنع الطلاب من التعلم. يمكن للأدوات الرقمية أن يكون لها دور تكميلي في هذه العملية لكنها لا تستطيع أن تقودها. إن المخاطر واضحة: دون الإصلاحات العاجلة فإن لبنان لا يخاطر بخسارة مدارسه فحسب، بل بجيلٍ كامل.
مقدمة
أدى العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان إلى تفاقم الأزمات الحادة في البلاد وزاد من تعقيد سنوات من التحديات الأساسية التي أدت إلى تدهور قطاع التعليم العام بشكل كبير. في حين نزحت آلاف العائلات وتم تحويل العديد من المدارس العامة إلى ملاجئ جماعية، تم تأجيل العام الدراسي الرسمي إلى 4 تشرين الثاني. وقبل هذه الأزمة الأخيرة كانت المدارس العامة في لبنان تواجه صعوبات جمّة نتيجة جملة التحديات المتداخلة في القطاع. على المستوى الهيكلي تشمل هذه التحديات نقص التمويل المزمن مما أدى إلى تراجع جودة التعليم، بالإضافة إلى أزمة اللاجئين السوريين والانهيار الاقتصادي في عام 2019 وانفجار مرفأ بيروت في عام 2020 وجائحة كوفيد-19، فضلاً عن الاستقرار السياسي الهش. تحملت المدارس العامة، والتي تقدم التعليم المجاني لخدمة غالبية الأطفال المحرومين في لبنان، وطأة هذه الصدمات مما سبب افتقار العديد من الطلاب إلى وصول متّسق إلى التعليم الجيد وأدى إلى خسائر كبيرة في التعليم. خسر الأطفال اللبنانيون أكثر من 60% من تعليمهم في السنوات الست الماضية، بينما يعاني الأطفال السوريون اللاجئون، والذين يعتمدون بشكل كبير على التعليم العام، من معدلات التحاق لا تتجاوز 30% وبعض أعلى معدلات التسرب من التعليم مع تقدم أقل من 4% إلى المرحلة الثانوية.
وفي هذا السياق تم الترويج للتعلم الرقمي كحلّ محتمل لضمان استمرارية التعليم وسط الاضطرابات المتكررة. يشمل التعلم الرقمي على نطاق واسع الممارسات التعليمية التي تستخدم التكنولوجيا لدعم التدريس والتعلّم. خلال جائحة كوفيد-19 اعتمد المركز اللبناني للبحث والتطوير التربوي (CERD) مزيجاً من التعلّم عبر الإنترنت والدروس المسجلة بالفيديو والمواد التعليمية المطبوعة لدعم التعلم عن بعد. ومؤخراً تم اعتماد “خطة الاستجابة لتكاليف التعليم في حالات الطوارئ” (EECRP) التي قدمها وزير التربية والتعليم العالي خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، والتي اقترحت نموذجاً مرناً يجمع بين التعلّم التقليدي والهجين والتعلم عبر الإنترنت، ووفقاً لظروف المدارس (مثل ما إذا تم تحويلها إلى ملاجئ أو تعرضت المباني للتدمير) وذلك “لضمان استمرارية التعلم لجميع الطلاب”.
ورغم أن مبادرات التعلم الرقمي تهدف إلى التخفيف من الاضطرابات في التعليم إلا أنها تكشف عن مسائل في العدالة الرقمية. ترتبط العدالة الرقمية في التعليم بالقضية الأوسع المتعلقة بـ “الفجوة الرقمية” والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مستويات: الوصول (التفاوت في الوصول إلى التقنيات الرقمية والإنترنت)، والمهارات (التفاوت في المعرفة الرقمية الأساسية)، والنتائج (التفاوت في القدرة على استخدام الأدوات الرقمية بشكل فعال لتحقيق نتائج تعليمية ذات مغزى). وفي لبنان حيث ما زالت هناك تفاوتات صارخة في التعليم لا سيما بين المدارس العامة والخاصة، يثير إدخال التكنولوجيا الرقمية لضمان استمرارية التعلم تساؤلات هامة: هل يمكن للمدارس العامة الاستفادة من التعلم الرقمي لسد هذه الفجوات؟ من الذي يستفيد فعلياً من هذه المبادرات الرقمية، ومن يتخلف عن الركب؟