السوريون في لبنان محاصرون بين قذائف الحديد وقذائف الكلام

لا يزال السياسيون اللبنانيون يلقون باللوم لفشلهم على مجتمع اللاجئين المهمش.

نانسي إهرنبرغ بيترز

12 تشرين الثاني، 2024

ملخص تنفيذي  

تحولت سوريا فجأة إلى ملاذ آمن، أو هكذا قد يبدو الأمر إذا استمعنا إلى الخطاب السياسي اللبناني مؤخراً. الزعماء اللبنانيون من مختلف الأطراف في المشهد السياسي المنقسم اجتمعوا حول هذا التحوّل في السردية منذ منتصف أيلول، حين دفع التصعيد العسكري الإسرائيلي المستمر إلى ما يقرب من 350.000 من السوريين اللاجئين في لبنان إلى الفرار عائدين عبر الحدود إلى سوريا. لكن الواقع يتناقض تماماً مع هذه السردية. هيومن رايتس ووتش وثقت مؤخراً أن اللاجئين العائدين يواجهون “الخطر المحدق في الاعتقال التعسفي وسوء المعاملة والاضطهاد.” 

لماذا إذاً تتصاعد إشادة السياسيين اللبنانيين بالأمن والأمان على الجانب السوري من الحدود؟ ستظهر هذه الورقة أن هذا أحدث تجلّي لحملة مستمرة منذ سنوات ضد اللاجئين السوريين في لبنان، والتي قد عمدت إلى تشويه سمعة هؤلاء اللاجئين وجرّدتهم من إنسانيتهم، كما اتخذهم كبش فداء ومحطّ التهميش والعنف، من أجل المنفعة السياسية للقادة اللبنانيين. 

فالحرب الأهلية السورية، والتي بدأت في عام  2011 ولم تنته بعد، سببت النزوح القسري لحوالي 1.5 مليون سوري إلى لبنان. ثم بعد أن دخل لبنان في الانهيار الاقتصادي في عام 2019، أصبحت الهجمات اللاذعة التي شنها السياسيون اللبنانيون ضد هؤلاء السكان حادة. تبدو هذه الحملة منسقة ومدبرة، وهادفة لصرف اللوم عن الطبقة السياسية وتركيز الغضب الشعبي في غير مكانه. وفي هذا الحين قامت وسائل إعلام محلية و دولية إلى توصيف هذا الوضع، ولا تزال هذه الادعاءات ضد اللاجئين غير مدعومة بأي أدلة أو معطيات حقيقيّة.  

وعلى مدى العامين ونصف العام الماضيين، تتبعت “البديل” ما يقوله قادة لبنان عبر وسائل الإعلام المطبوعة ووسائل التواصل الاجتماعي. أظهر رصدنا الإعلامي حالات متكررة تزامن فيها عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي داخل البلاد مع ارتفاع طفيف في الخطاب المناهض للسوريين، مما يشير إلى وجود استراتيجية متعمدة لتحويل اللوم ضدّهم. ومنذ التصعيد العسكري الإسرائيلي في منتصف أيلول تحولت هذه الرواية من انتقاد اللاجئين إلى تأطير حقيقة عودة البعض كإشارة إلى أن سوريا أصبحت الآن آمنة لعودة الجميع. 

توجد أمثلة عديدة لهكذا تصريحات من أفراد في الحكومة اللبنانية والنخبة السياسية من بينهم وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني هيكتور حجار، والذي اقترح أن الظروف في سوريا قد تكون الآن أكثر أماناً من لبنان. كما أن النائب عن التيار الوطني الحر جبران باسيل أطّر موجة النزوح كفرصة لعودة السوريين، وزعيم القوات اللبنانية سمير جعجع أكّد أن عودة اللاجئين تثبت أن هناك مناطق آمنة في سوريا. لكن هذه المزاعم مضلّلة وخطيرة في آن: فسوريا ما تزال غارقة في العنف والاضطهاد، وليست واحة للملاذ منه. 

والخطاب السائد اليوم السياسيين اللبنانيين لم ينفصل بالكامل عن ما سبقه من أنماط التشهير – فقد تم الافتراء على اللاجئين السوريين بكونهم عملاء لإسرائيل وناقلين لعدوى الأمراض المنتشرة. كما من المرجح أن تستمر السردية الجديدة في ظل الحرب في توليد العداء الذي نشأ عن الإطار السابق، مما يخلق المزيد من عدم الأمان لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين ما زالوا في لبنان، ويصب المزيد من الوقود على خطر الاشتعال الاجتماعي. 

قاعدة بيانات البديل تتبع اللوم  

قبل التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد لبنان لم تكن النخبة اللبنانية المنقسمة قادرة على الاتفاق على أي شيء يذكر. لكن من بين النقاط القليلة التي وجدوا فيها أرضية مشتركة كان لوم اللاجئين السوريين على كل شيء في البلاد تقريباً – بدءاً من ارتفاع الجرائم واندلاع أعمال العنف و نقص الخبز. فالعديد التقارير و الدراسات أظهرت أن هذه الادعاءات كاذبة بشكل لا يحتمل اللبس. إلا الحرص على الحقيقة نادراً ما كان هاجس النخبة اللبنانية. فما يهمهم هو الحفاظ على الدعم داخل دوائرهم الانتخابية الطائفية، وبالتالي سلطتهم في مراكز القوى داخل أجهزة الدولة والتي من خلالها قاموا بنهب الثروة العامة. 

قبل سنوات من اندلاع الحرب المستمرة في لبنان، قاد جشع النخبة السياسية والمصرفية البلاد إلى واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، مما تسبب في انهيار قيمة العملة بنسبة 98% وحجب البنوك مدخرات ملايين الأشخاص. وكان بقاء النخب يعتمد على تركيز اللوم على أماكن أخرى، ولا يمكن أن يكون هناك كبش فداء أنسب مما يقرب من 1.5 مليون سوري لاجئين في لبنان. وقد وفرت التحيزات الاجتماعية الكامنة ضد السوريين الوقود لإشعال النار، في حين عاش اللاجئون أنفسهم في حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي دون وصول يذكر إلى الحماية القانونية ودون أي قدرة على الدفاع عن أنفسهم في الرأي عام. 

وللأسف لاقى هذا التشهير العلني بالسوريين صدىً واسعاً لدى شرائح من الشعب اللبناني. وتم استخدام التحريض ضد للسوريين على مستوى المجتمع المحلي لتبرير السياسات القمعية ضد مجتمع اللاجئين السوريين، وأعطى تفويضاً مطلقاً للعنف الغوغائي ضدهم. ومن خلال تصنيف جميع السوريين بشكل جماعي إما على أنهم تهديد أمني أو مسببي الكوارث المتعاقبة في البلاد، حشدت الطبقة السياسية المشاعر القومية لتبرير تدابير أمنية صارمة للتعامل معهم، شملت قوانين استبعدت السوريين من العمل في معظم القطاعات والحصول على الرعاية الصحية، فضلاً عن تقييد حقوقهم بحرية الحركة داخل لبنان. 

المصدر: قاعدة بيانات الرصد الإعلامي لبديـل - 1 مارس 2022 إلى 28 أكتوبر 2024

لتحليل هذه السردية بشكل صحيح، أنشأت البديل قاعدة بياناتها الخاصة برصد وسائل الإعلام في آذار 2022، والتي تتتبع التصريحات العامة والشعارات التي يطلقها القادة السياسيون اللبنانيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمطبوعة. تراقب قاعدة البيانات التكرار والمحتوى المواضيعي لما يقوله السياسيون وتصنفها إلى مجموعة واسعة من المواضيع الرئيسة والفرعية – منها مسألة “اللاجئين/المهاجرين” و”النازحين السوريين”. ومع مرور الوقت أعطتنا قاعدة البيانات هذه قدرة للفحص الدقيق في اتجاهات الخطاب العام حول مسائل وأحداث محددة. 

مثلأ رصدت قاعدة بيانات البديل 1,324 بياناً استهدف اللاجئين السوريين أدلى بها سياسيون لبنانيون في الفترة ما بين 1 آذار 2022 و28 تشرين الأول 2024. من بينها، أدلى أعضاء التيار الوطني الحر بـ 412 (31%)، و250 (18%) لحزب القوات اللبنانية. تشير هذه الأرقام إلى أن هذين الحزبين ذوي الأغلبية المسيحية كانا رأس حربة في في شيطنة السوريين في لبنان. وكما هو موضح أدناه، فالأحزاب السياسية من مختلف الأطياف لم تعنى بالدفاع عن اللاجئين من التشهير والافتراء، لأنهم أيضاً استفادوا من إلهاء الرأي العام عما يحصل في البلاد.  

أزمة الخبز 

وفي أول حالة موثقة لتزايد الخطاب السياسي المناهض لسوريا تزامناً من الأزمة الاقتصادية في لبنان، وزيادة التمييز والعنف ضد السوريين، جاءت في تموز وآب 2022. وخلال تلك الفترة، وصلت أزمة نقص الخبز في لبنان إلى ذروتها، وسبب تزايد الطلب إلى ارتفاع سعر الخبز أربع مرات مما هو معتاد. 

كانت هناك أسباب متعددة لهذا النقص الحادّ. فانفجار مرفأ بيروت الكارثي عام 2020 دمر صوامع القمح الكبرى في لبنان، ومعظم مخازنها الاحتياطية من الحبوب. ومنذ ذلك الحين تبادلت الأحزاب السياسية اللبنانية اللوم عن الكارثة، وأوقفت التحقيق فيها بينما لم تحرز تقدماً يذكر في إعادة تأهيل البنية التحتية التي دمرها الانفجار. هذا، وإلى جانب الارتفاع السريع في تكاليف الغذاء والوقود، ترك البلاد في حالة ضعف حين أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تقلبات في إمدادات القمح العالمية في ربيع عام 2022. واللافت أن لبنان كان يستورد أكثر من 60 بالمئة من قمحه من أوكرانيا. 

ورداً على نقص الخبز، ألقى السياسيون اللبنانيون اللوم على السوريين في دفع الاقتصاد اللبناني إلى الانهيار. واتُّهم السوريون بسرقة الخبز أو، بحسب أمين سلام وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني، “استهلاك 400 ألف رغيف خبز يومياً”. وقفز المتوسط لعدد التصريحات المناهضة لسوريا في شهري تموز وآب إلى 31 تصريح ​​شهريأً، مقارنة بمتوسط ​​8.5 شهرياً في الفترة من آذار إلى حزيران 2022. وتلا ذلك موجة متجددة من التمييز والعنف استهدفت السوريين، بما في ذلك الاعتداءات الجسدية، وفرض البلديات حظر التجوّل، ومنع السوريين من شراء الخبز من المتاجر. 

واستمر هذا الارتفاع الملحوظ في الخطاب ضد السوريين خلال شهري أيلول وتشرين الأول 2022، حيث بلغ المتوسط ​​28 بياناً سياسياً يستهدفهم كل شهر. والجدير بالذكر أن هذا جاء في الوقت الذي ازدادت فيه حدّة المأزق السياسي بشأن انتخاب رئيس جديد. إذ انتهت ولاية الرئيس ميشال عون في تشرين الأول 2022 وأدى عدم التوافق على مرشح جديد إلى دفع البلاد منذ ذلك الحين إلى الجمود المؤسساتي. 

انهيار العملة  

في آذار ونيسان 2023 انخفضت قيمة الليرة اللبنانية إلى 140 ألفاً لكل دولار أميركي وهو مستوى جديد وكانت له دلالات رمزية بكونه أدنى مستوى تاريخي لانهيار العملة، في حين ارتفع التضخم إلى أعلى مستوى له على الإطلاق وهو 270%. وكشفت قاعدة بياناتنا عن تصاعد في الخطاب السياسي المناهض للسوريين خلال هذه الفترة. ثم خلال الأشهر الثلاثة بين آذار وأيار 2023 تم رصد 171 بياناً وتصريحاً سياسياً يستهدف اللاجئين السوريين – بزيادة قدرها 434% عن الـ 32 بيان التي تم رصدها في الأشهر الثلاثة السابقة (كانون الأول 2022 إلى شباط 2023).  

والسردية المشتركة بين النخبة السياسية (والمتجسدة في هذه التصريحات) ربطت بين أزمة اللاجئين السوريين والأزمة النقدية والاقتصادية في لبنان. فعلى سبيل المثال هيكتور حجار المحسوب سياسيا على التيار الوطني الحر ووزير الشؤون الاجتماعية ذكر: “رفضنا إعطاء المساعدات للاجئين السوريين بالدولار لأن الشعب اللبناني يرفض هذا النزوح.” 

 في حين قال حسين الحاج حسن، وزير الصناعة ونائب في حزب الله: “يتحمل لبنان اليوم أعباء النزوح السوري، وليس لدينا مشكلة مع النازحين كأشخاص ولكننا نتحمل أعباء هذا النزوح اقتصادياً ومالياً، ودول العالم لم تقدم للبنان أي تعويض عن تحمله هذه الأعباء.” 

الترويج الانتهازي للخوف قد يؤدي إلى العنف 

استخدمت الطبقة السياسية حوادث العنف بين السكان المحليين اللبنانيين واللاجئين السوريين لدعم خطابها. وظهر ذلك بوضوح بعد الاشتباكات التي اندلعت بين سوريين ولبنانيين في منطقة عرمونعاليه في جبل لبنان في 30 أيلول 2023، ومن ثم منطقة الدورة في بيروت بعد خمسة أيام. 

تظهر قاعدة بيانات البديل أنه تم الإدلاء بـ 36 تصريح سياسي استهدف السوريين في الفترة ما بين 30 أيلول و6 تشرين الأول 2023. وتصور هذه التصريحات السوريين كتهديد للاستقرار وكمحرضين على العنف في لبنان، مثل: “أزمة النزوح السوري تتفاقم، وخطر النازحين الذين هم فوق القانون يشكل تحذيراً خطيراً خاصة بعد حادثة عرمون-عاليه أمس”. (فريد الخازن النائب عن كسروان). وبشكل عام كان هناك زيادة بنسبة 112% في عدد التصريحات السياسية المناهضة للسوريين مقارنة بالمعدل الأسبوعي (أي 17) في أيلول 2023. 

المواضيع ذات الصلة