ملخص تنفيذي
تحولت سوريا فجأة إلى ملاذ آمن، أو هكذا قد يبدو الأمر إذا استمعنا إلى الخطاب السياسي اللبناني مؤخراً. الزعماء اللبنانيون من مختلف الأطراف في المشهد السياسي المنقسم اجتمعوا حول هذا التحوّل في السردية منذ منتصف أيلول، حين دفع التصعيد العسكري الإسرائيلي المستمر إلى ما يقرب من 350.000 من السوريين اللاجئين في لبنان إلى الفرار عائدين عبر الحدود إلى سوريا. لكن الواقع يتناقض تماماً مع هذه السردية. هيومن رايتس ووتش وثقت مؤخراً أن اللاجئين العائدين يواجهون “الخطر المحدق في الاعتقال التعسفي وسوء المعاملة والاضطهاد.”
لماذا إذاً تتصاعد إشادة السياسيين اللبنانيين بالأمن والأمان على الجانب السوري من الحدود؟ ستظهر هذه الورقة أن هذا أحدث تجلّي لحملة مستمرة منذ سنوات ضد اللاجئين السوريين في لبنان، والتي قد عمدت إلى تشويه سمعة هؤلاء اللاجئين وجرّدتهم من إنسانيتهم، كما اتخذهم كبش فداء ومحطّ التهميش والعنف، من أجل المنفعة السياسية للقادة اللبنانيين.
فالحرب الأهلية السورية، والتي بدأت في عام 2011 ولم تنته بعد، سببت النزوح القسري لحوالي 1.5 مليون سوري إلى لبنان. ثم بعد أن دخل لبنان في الانهيار الاقتصادي في عام 2019، أصبحت الهجمات اللاذعة التي شنها السياسيون اللبنانيون ضد هؤلاء السكان حادة. تبدو هذه الحملة منسقة ومدبرة، وهادفة لصرف اللوم عن الطبقة السياسية وتركيز الغضب الشعبي في غير مكانه. وفي هذا الحين قامت وسائل إعلام محلية و دولية إلى توصيف هذا الوضع، ولا تزال هذه الادعاءات ضد اللاجئين غير مدعومة بأي أدلة أو معطيات حقيقيّة.
وعلى مدى العامين ونصف العام الماضيين، تتبعت “البديل” ما يقوله قادة لبنان عبر وسائل الإعلام المطبوعة ووسائل التواصل الاجتماعي. أظهر رصدنا الإعلامي حالات متكررة تزامن فيها عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي داخل البلاد مع ارتفاع طفيف في الخطاب المناهض للسوريين، مما يشير إلى وجود استراتيجية متعمدة لتحويل اللوم ضدّهم. ومنذ التصعيد العسكري الإسرائيلي في منتصف أيلول تحولت هذه الرواية من انتقاد اللاجئين إلى تأطير حقيقة عودة البعض كإشارة إلى أن سوريا أصبحت الآن آمنة لعودة الجميع.
توجد أمثلة عديدة لهكذا تصريحات من أفراد في الحكومة اللبنانية والنخبة السياسية من بينهم وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني هيكتور حجار، والذي اقترح أن الظروف في سوريا قد تكون الآن أكثر أماناً من لبنان. كما أن النائب عن التيار الوطني الحر جبران باسيل أطّر موجة النزوح كفرصة لعودة السوريين، وزعيم القوات اللبنانية سمير جعجع أكّد أن عودة اللاجئين تثبت أن هناك مناطق آمنة في سوريا. لكن هذه المزاعم مضلّلة وخطيرة في آن: فسوريا ما تزال غارقة في العنف والاضطهاد، وليست واحة للملاذ منه.
والخطاب السائد اليوم السياسيين اللبنانيين لم ينفصل بالكامل عن ما سبقه من أنماط التشهير – فقد تم الافتراء على اللاجئين السوريين بكونهم عملاء لإسرائيل وناقلين لعدوى الأمراض المنتشرة. كما من المرجح أن تستمر السردية الجديدة في ظل الحرب في توليد العداء الذي نشأ عن الإطار السابق، مما يخلق المزيد من عدم الأمان لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين ما زالوا في لبنان، ويصب المزيد من الوقود على خطر الاشتعال الاجتماعي.
قاعدة بيانات البديل تتبع اللوم
قبل التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد لبنان لم تكن النخبة اللبنانية المنقسمة قادرة على الاتفاق على أي شيء يذكر. لكن من بين النقاط القليلة التي وجدوا فيها أرضية مشتركة كان لوم اللاجئين السوريين على كل شيء في البلاد تقريباً – بدءاً من ارتفاع الجرائم واندلاع أعمال العنف و نقص الخبز. فالعديد التقارير و الدراسات أظهرت أن هذه الادعاءات كاذبة بشكل لا يحتمل اللبس. إلا الحرص على الحقيقة نادراً ما كان هاجس النخبة اللبنانية. فما يهمهم هو الحفاظ على الدعم داخل دوائرهم الانتخابية الطائفية، وبالتالي سلطتهم في مراكز القوى داخل أجهزة الدولة والتي من خلالها قاموا بنهب الثروة العامة.
قبل سنوات من اندلاع الحرب المستمرة في لبنان، قاد جشع النخبة السياسية والمصرفية البلاد إلى واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، مما تسبب في انهيار قيمة العملة بنسبة 98% وحجب البنوك مدخرات ملايين الأشخاص. وكان بقاء النخب يعتمد على تركيز اللوم على أماكن أخرى، ولا يمكن أن يكون هناك كبش فداء أنسب مما يقرب من 1.5 مليون سوري لاجئين في لبنان. وقد وفرت التحيزات الاجتماعية الكامنة ضد السوريين الوقود لإشعال النار، في حين عاش اللاجئون أنفسهم في حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي دون وصول يذكر إلى الحماية القانونية ودون أي قدرة على الدفاع عن أنفسهم في الرأي عام.
وللأسف لاقى هذا التشهير العلني بالسوريين صدىً واسعاً لدى شرائح من الشعب اللبناني. وتم استخدام التحريض ضد للسوريين على مستوى المجتمع المحلي لتبرير السياسات القمعية ضد مجتمع اللاجئين السوريين، وأعطى تفويضاً مطلقاً للعنف الغوغائي ضدهم. ومن خلال تصنيف جميع السوريين بشكل جماعي إما على أنهم تهديد أمني أو مسببي الكوارث المتعاقبة في البلاد، حشدت الطبقة السياسية المشاعر القومية لتبرير تدابير أمنية صارمة للتعامل معهم، شملت قوانين استبعدت السوريين من العمل في معظم القطاعات والحصول على الرعاية الصحية، فضلاً عن تقييد حقوقهم بحرية الحركة داخل لبنان.