أدرك لبنان في ظرف أقل من شهر تأثير الحرب في أوكرانيا على شعبه واقتصاده، ومع وصول أسعار النفط المتداولة إلى مبلغ يتراوح ما بين 100 إلى 120 دولارًا أمريكيًا، وانقطاعه عن مصادر القمح الرئيسية (روسيا وأوكرانيا) بشكل تام، فإن الطبقة الحاكمة ستواجه تبعات ارتفاع أسعار المواد الغذائية للمرة الأولى منذ عام 2008.
علماً أنها لم تكن قلقة خلال تلك الفترة، فقد كان لبنان ملاذاً أمناً للعملات الأجنبية لجميع الهاربين من الأزمة المالية العالمية، وتدفقالمليارات والمليارات من العملات الأجنبية إلى خزائن البنوك التجارية في لبنان.
أصبح الطعام والسكن والسلع الأساسية غير ميسورة التكلفة للكثيرين في السنوات التي تلت ذلك، لكن أولئك الذين لديهم حسابات بنكية (حوالي نصف السكان) ما زالوا يتمتعون بمعدلات فائدتهم؛ على العموم، اعتقد اللبنانيون أن القطاع المالي كان ركيزة “المعجزة اللبنانية” التي وصفتها النخبة المصرفية “كاليبتو” على أنها كتاب الله المقدس، وقالوا إنه مهما حدث فإن المعجزة ستستمر، لكن للأسف هناك شح في أعمال الله الخيرية هذه الأيام.
هذه المرة لا يوجد مكان للاختباء، فقد غطى لأسابيع عدة الصخب المتعلق بتدمير صومعة الحبوب في مرفأ بيروت، ومن أين يتم استيراد القمح ومكان تخزينه حقيقة أكثر وضوحاً: كل شخص في لبنان، بمن فيهم السكان واللاجئين والمهاجرين والعمال الأجانب، سيشهدون تأرجح القدرة الشرائية بسبب آثار ارتفاع أسعار النفط وصدمات الإمداد بالسلع والخدمات الأساسية.
إن هذه التدابير المؤقتة ستكسب الطبقة الحاكمة بعض الوقت بالتزامن مع برنامج البطاقة التموينية الذي طال انتظاره، والذي سيتم اعتماده بالدولار الأمريكي، والذي سيوفر بدوره بعض الراحة للفئات الأكثر ضعفاً، علماً أنه حتى لو تم تمويل البرنامج بقرض إلا أن ذلك سيؤدي إلى تفاقم الدين العام.
يمكن أن يتم استبدال القمح بمواد أساسية أخرى كبديل، ولكن حتى الواردات الغذائية،كالأرز على سبيل المثل الحصر، قد شهدت زيادة في الأسعار بنحو 20٪ لأسباب عدة في العام الماضي ، أقلها مشاكل التوريد المتزامنة مع جائحة كوفيد-19، وسيبدأ اللبنانيون الذين يعتمدون على الاستيراد مع استمرار أزمة الغذاء والطاقة العالمية بتخطي وجبات الطعام وتناول كميات أقل، بالإضافة إلى فقدان العناصر الغذائية والمرض، مع ملاحظة أن جائحة كوفيد-19 لا تزال قائمة.
فقد ذكرت المستشفيات بالفعل أنه بحلول شهر مايو (أيار)، يجب أن تكون جميع المدفوعات بالعملة الأجنبية، مما يعني أن المرضى الذين يغطيهم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التابع للقضاء (25٪ من السكان) سيفتقدون إمكانية الحصول على تأمين (انظر “لا مكان للشفاء”)، وعلاوةً على ذلك تخطط المتاجر الكبرى في الأسابيع المقبلة لقبول المدفوعات النقدية فقط، مما يعني أنه لن يتمكن الأشخاص من الوصول إلى مدخراتهم للحصول على المواد الغذائية الأساسية.
مرة أخرى تواجه الطبقة الحاكمة سيناريو سودواي وهي على أعتاب الانتخابات، وبدورهم سيلجؤون إلى احتياطيات العملات الأجنبية المتضائلة في البلاد، والتي تتكوّن إلى حد كبير من أموال المودع العادي (الاحتياطيات اللازمة) والذهب، ومع بقاء أسابيع قليلة قبل الانتخابات فمن المؤكد أن تلجأ الطبقة السائدة إلى هذا الخيار الخطير، مما يدفع لبنان بشكل أقرب إلى الهاوية؛ ولكن هناك طريقة أخرى.
ومهما كان الأمر مؤلماً، فإن حقن صندوق النقد الدولي لرأس المال مصحوباً بالإصلاح هو الخيار الواضح، لكن جمعية مصارف لبنان تتجنّب هذه الصفقة، ليس فقط لأنها سوف تلزمها بتحمّل حصة أكثر إنصافاً من الخسائر، ولكن لأنه سيعيد أيضاً تشكيل القطاع المصرفي في المستقبل.
وعلى الرغم من ادعاءات النخبة المصرفية “كاليبتو”، فإن جميع البنوك تقريبًا ستحتاج إلى الإنقاذ من خلال مجموعة من الديون (انظر “الاقتطاع الكبير”)، مما يثير القلق بشكل خاص بالنسبة للبنوك، فهو يعني أنه يتعين فتح الدفاتر، وإجبار البنوك الميسورة الحال على تقاسم الملكية مع البنوك الأسوأ حالًا، وهذا يعني أن البنوك التي تشكلت على أساس الطائفية وأنظمة المحسوبية – مثل بنك بيروت والبلاد العربية للدروز ومجموعة البحر المتوسط للسنّة – يتوّجب عليها أن تقبل المساهمين والمدراء من الطوائف الأخرى، ومن شأن مثل هذا في نهاية المطاف أن يضعف إن لم يكن يحطم الركائز المالية للرعاية الطائفية في البلاد، لذا لن نتفاجأ إذا استمرت مفاوضات صندوق النقد الدولي لأشهر، إن لم يكن لسنوات.
أما بالنسبة للمعارضة التي تتنافس على قطعة من الكعكة في الانتخابات المقبلة، فقد حان الوقت الآن للإضراب، واستخدام أزمة الغذاء القادمة كذخيرة لتخفيف الدعم حتى بين أكثر المؤيدين المتحمسين للطبقة الحاكمة، ولكن على عكس الطبقة الحاكمة، ينبغي اقتراح بديل حقيقي، أي بديل يصر على حل عادل وشفاف وخاضع للمساءلة للأزمة المالية.
وعند القيام بذلك، يجب أن تكون مجموعات المعارضة جادة بشأن خطط الإصلاح المالي الخاصة بها، والتعامل أولاً وقبل كل شيء مع الاحتياجات الفورية للناس حيث يقتضي على المعارضة أن توضّح أن الخطاب الطائفي الذي يتدفق خلال موسم الانتخابات ليس أكثر من محاولة متعمدة لإطالة أمد الأزمة، وإبقاء الطريق مفتوحاً للطبقات الحاكمة للسيطرة على ما تبقى من النظام المالي اللبناني.