رفعت مؤسسة كهرباء لبنان للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود تعرفتها في فبراير (شباط) الجاري لجباية الزيادة التي أقرتها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فيما ادعى أنصار الزيادة، ومن ضمنهم وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض، أنها ستعيد تأهيل المؤسسة لخفض ساعات تقنين الكهرباء اليومي.
ورجح النقاد بعد الاجتماع الحكومي الإنقاذي الذي عقد الشهر الماضي تمهيداً لمواصلة مؤسسة الكهرباء عملها، أن التحسينات المستدامة لقطاع الكهرباء لن تتحقق قبل سنوات من العتمة معتمدة على نجاح الإصلاحات الهادفة إلى إيقاف الهدر المالي الوفير في الشركة.
مرافق طاقة من العصور القديمة
رفعت مؤسسة الكهرباء تعرفتها لتتراوح من 30 ليرة لبنانية حتى 196 ليرة للكيلو واط الواحد في عام 1994، وذلك بعد ارتفاع سعر الصرف، أي ما بين 0.02 دولار – 0.13 دولار للكيلو واط الواحد بحسب سعر الصرف في تلك الفترة، وأثارت زيادة التعرفة نقاشاً لعقود باعتبارها حلاً لنقص التمويل وانقطاع الكهرباء نتيجة سوء الإدارة.
وتتراوح اليوم تعرفة مؤسسة الكهرباء من 0.0006 دولار حتى 0.0039 دولار للكيلو واط الواحد بعد بدء انهيار الليرة اللبنانية في عام 2020، وخسارتها ما يقارب 97 في المائة من قيمتها، وكانت تداعيات الأزمة على ميزان مدفوعات المؤسسة هائلة، خاصة أن الشركة تستورد الفيول من الخارج بالدولار لتشغيل معاملها.
يظهر تقرير أصدرته وزارة الطاقة والمياه لعام 2019 – 2020 أن من 40 حتى 45 في المائة من الطاقة التي تنتجها مؤسسة الكهرباء حتى ما قبل انهيار الليرة، لا يتم دفعها بسبب سرقة الخدمة واعتماد آليات جباية تقليدية، بالإضافة إلى ضعف كفاءة شبكات الكهرباء، وعدم دفع الإدارات العامة والبلديات ومخيمات اللجوء الفلسطيني مقابل الكهرباء المستهلكة.
يتراوح المعيار العالمي للخسائر في قطاع الكهرباء من 5 حتى 10 في المائة، بحسب مارك أيوب، وهو متخصص بسياسات الطاقة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، فقد وافقت مؤسسة الكهرباء في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي على زيادة التعرفة إلى 0.10 دولار لكل واط مستهلك لأول 100 واط، وترتفع إلى 0.27 دولار لكل واط بعد استهلاك أول 100 واط، وأعلنت أنها ستبدأ الجباية في فبراير (شباط).
وصرح الوزير فياض في حديثه لموقع “بديل” بأن نظام التعرفة الجديد سيسمح “باستعادة التكاليف من اليوم الأول، حيث تعوض التعرفة الجديدة عما يقارب 40 في المائة من خسائر القطاع التقنية أو السوقية”، وقال فياض إن ذلك متعمداً، وأضاف “من المستحيل الاعتماد على الحكومة لإنتاج الكهرباء في هذه المرحلة، مما يعني أن الطريقة الوحيدة لتوليد الكهرباء هي بالاعتماد على المستهلك بسبب غياب مصادر التمويل”.
لكن يزعم المتخصصون أن زيادة التعرفة ستثقل كاهل المستهلكين بتكاليف غير ضرورية إذا لم تحل أزمة هدر الإيرادات، ويقول أيوب: “من المتوقع إن تخفّض زيادة التعرفة التحويلات المالية الحكومية إلى مؤسسة الكهرباء، لكن تعافي مؤسسة الكهرباء سيحدث على مراحل”، وأضاف أيوب بأن معالجة نقص الكفاءة وتسرّب الإيرادات في الشركة لتحقيق الأرباح سيتطلبان من ثلاث إلى أربع سنوات.
مغارة كهرباء لبنان
تعد فاتورة الكهرباء في لبنان واحدة من أعلى فواتير الكهرباء في المنطقة، حيث يدفع اللبنانيون منذ سنوات أكثر بكثير لقاء الخدمة من المجموع المكتوب على فواتيرهم، نظراً لأن الحكومة تغطي خسائر مؤسسة الكهرباء سنوياً، ويشكل تراكم هذه التحويلات عبئاً ضخماً بالنسبة لاقتصاد لبنان.
وبينما بلغ عجز مؤسسة الكهرباء ما بين مليار إلى مليار ونصف دولار سنوياً، فإن سلف الخزينة المتراكمة تصل إلى 43 مليار دولار سنة 2020، وهو ضعف إجمالي الإنتاج المحلي للبنان لعام 2021، ويشكل 46 في المائة من إجمالي الدين العام.
وكان مجلس الوزراء قد وافق على زيادة سلفتين لمؤسسة الكهرباء بقيمة 116 مليار دولار يناير (كانون الثاني) الماضي، وتبقى سلفتان بقيمة 184 مليار دولار قيد الدرس، وتعتبر هذه السلف تنازلاً من الستة ملايين دولار التي طالب بها فياض. حيث ستصرف السلفة الأولى وفقاً للتالي: 62 مليون دولار على شحنتي فيول و42 مليون دولار لصيانة معملي توليد الكهرباء في الزهراني ودير عمار، بالإضافة إلى 12 مليون دولار على الموزعين المحليين.
وأضاف فياض أن الشركة ستتمكن من ضمان أربع ساعات تغذية من الكهرباء يومياً إذا أقرت السلف التي قيد الدرس، وهي أقل بكثير من ساعات الكهرباء العشر التي وعد بها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قبل شهرين.
لكن أيوب رجح احتياج الشركة للمزيد من السلف مع الوقت بينما تزعم وزارة الطاقة والمياه أن الشركة ستحتاج إلى السلف لمرحلة انتقالية فقط قبل أن تبدأ بجباية الفواتير بحسب التسعيرة الجديدة، وهي عملية يتطلب تنفيذها خمسة أشهر.
يقول أيوب إن: “معدل التسعيرة الجديدة سيتراوح من 0.15 حتى 0.18 دولار للواط الواحد. لكن أرى أنها يجب أن تكون بين 0.20 – 0.30 دولار للواط بسبب ارتفاع سعر الفيول وقِدم محطات التوليد”، كما رجحت وزارة الطاقة والمياه العام الماضي أن العتبة الربحية للشركة تبدأ عند أكثر من 0.30 دولار للواط الواحد، بينما بلغ معدل سعر الواط في المنطقة 0.08 دولار في عام 2017، ويقول أيوب إنه: “عندما ينتهي تمويل البواخر الحالي سنواجه نفس المشكلة في الأشهر القادمة”.
أين تختفي الفواتير؟
بدأت مؤسسة الكهرباء إصدار الفواتير بحسب التسعيرة الجديدة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلا أن شركات الجباية بدأت بجبايتها الأسبوع الماضي، وهي شركات خاصة تعاقدت معها مؤسسة الكهرباء في عام 2012 لمراقبة صيانة شبكات التوزيع وتزويد المستهلكين بخدمة الإعدادات وجباية الفواتير.
وتعمل اليوم أربع شركات جباية في ثلاث مناطق رئيسية في لبنان: بوتك للصيانة والتشغيل في الشمال، وشركة KVA في بيروت وسهل البقاع، والشركة الوطنية للخدمات الكهربائية وشركة مراد في الجنوب.
وفقاً لأيوب فإن مؤسسة الكهرباء تحتاج إلى موارد بشرية للقيام بالمهام المتعاقد عليها مع شركات الجباية، لكن على هذه الشركات تحقيق تفويضاتها التعاقدية بشكل كامل، والمشاركة بمجمل الخسائر بسبب فشلها في جباية الفواتير، ويضيف أيوب بأن “فواتير بعض المناطق لم تتم جبايتها خلال العامين السابقين”، مشيراً إلى أن “السعر المعتمد لجباية هذه الفواتير والوقت الذي يتطلبه جبايتها لا يزالان مجهولين”.
ونفى المدير العام لشركة بوتك للصيانة والتشغيل، فادي أبو جودة، في حديثه لموقع “بديل” هذا الاتهام على اعتبار أن جباية الفواتير تعتمد على إصدار مؤسسة الكهرباء لها. لكن الشركات تحصل على مبالغ كبيرة، من بينها مبلغ 800 مليون دولار حصلت عليه ما بين عامي 2012 – 2016.
ويوضح أيوب أن هذه الشركات “تحافظ على شبكة الجباية عبر دفع الحد الأدنى من الاستثمار الممكن”، حيث تضمنت أهداف الشركات تركيب 1.1 مليون عداد ذكي في لبنان، وبحسب ما يذكر أيوب فإن جهوداً قليلة بذلت لتحقيق هذا الهدف. ومن المقرر أن تنتهي عقود شركات جباية الفواتير في مايو (أيار) لعام 2023.
الحاجة لنهج شامل
يعتمد معظم سكان لبنان خلال ساعات التقنين الطويلة على المولدات الخاصة التي تسعر 0.30 دولار للكيلو واط منذ الواحد ديسمبر (كانون الثاني) 2022، وهي ضعف تسعيرة مؤسسة كهرباء لبنان، ليبقى السؤال حول إمكانية إيقاف مؤسسة الكهرباء لبنان للمولدات الخاصة عن العمل.
ويتطلب التعويض عن خسائر المؤسسة تظافر الجهود من أطراف عدة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن مسؤولية جباية الفواتير غير المدفوعة وتحسين الكفاءة تقع على عاتق شركات الجباية، بينما يتطلب إنهاء سرقة الكهرباء تنسيقاً وتعاوناً بين جهات عدة من الدولة، وهو إنجاز لا يمت بصلة لدولة لبنان المقسمة.
يقول الوزير فياض إن: “التزام المؤسسات العامة كوزارة الداخلية والقوى الأمنية والجيش وحتى القضاة بتقديم المساعدة” ضروري لإزالة العلاقات اللاقانونية، معتبراً هذه الإزالة شرطاً أساسياً لزيادة إنتاج الكهرباء في المؤسسة.
سيتطلب إجبار المؤسسات العامة على دفع فواتير الكهرباء إجراءات عابرة للأقسام، يقول فياض إنه: “وضعت خطة لتأمين المؤسسات العامة التمويل لميزانيتها السنوية، لكن ذلك سيعتمد على وزارة المالية والمؤسسات العامة”، ويتابع مضيفاً “إنها محض أمنية لكن أعتقد أنها قد تحقق”.