افتتاحية
أعلنت الحكومة اللبنانية “التطبيق الفعّال” لخطة جديدة لدعم القمح الأسبوع الماضي، وذلك استجابة لتراجع الأمن الغذائي في لبنان، كما روجت للبرنامج الذي موله البنك الدولي بقرض يبلغ قيمته 150 مليون دولار، لكن في الحقيقة أثقل كاهل المواطنين اللبنانيين مرة أخرى بسياسة حكومية تتسم بالتفكير قصير الأجل والتكاليف اللاضرورية واللافعالية واللامساواة، وفرص كثيرة للكسب غير المشروع.
مما لا شك فيه من تفاقم الأزمة الغذائية في لبنان ووجوب معالجتها. فقد توقعت الجمعية العالمية غير الحكومية “إنقاذ الطفل” خلال الشهر الجاري، أن يكون زيادة بنسبة 14 في المائة بعدد الأطفال الذين يعانون من مستويات كارثية من الجوع هذه السنة، وسبقه تقرير الأمم المتحدة الذي صدر في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مقدراً ارتفاع عدد سكان لبنان من الجنسيتين اللبنانية والسورية الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد لدرجة احتياج مساعدة إنسانية عاجلة من 1.98 مليون إلى 2.26 مليون في (أبريل) (نيسان) للعام 2023، أي ما يتراوح من 37 في المائة إلى 42 في المائة من السكان.
لكن برنامج دعم القمح الجديد الذي يسمى “برنامج الاستجابة الطارئة لإمدادات القمح في لبنان” لا يوفر حلاً لهذه الأزمة، لأنه يطبق بعد سنة تقريباً من وجوب معالجة الأزمة التي طوّر من أجلها، وهي تسهيل استيراد لبنان للقمح في ظل ارتفاع الأسعار العالمية بعد الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير (شباط) من العام 2022.
فقد أوقف حصار المرافئ الأوكرانية إبان الحرب تصدير أوكرانيا للقمح الذي اعتمد عليه لبنان لضمان أكثر من 70 في المائة من احتياجه من القمح في العام 2021، ووافق البنك الدولي على إعطاء لبنان قرض بقيمة 150 مليون دولار لدعم استيراد القمح في مايو (أيار) الماضي، لكن البرلمان اللبناني لم يوافق على التشريع الضروري (القانون رقم 304) لتطبيق العقد حتى أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وبدأت أسعار القمح العالمية بالانخفاض في (يونيو) حزيران بعد عودة القمح الأوكراني إلى السوق العالمي في يوليو (تموز) بفضل الصفقة التي تمت بوساطة الأمم المتحدة، ومنذ ذلك الحين تتراوح أسعار القمح العالمية بنفس النطاق الذي بلغته قبل الاجتياح الروسي.
لكن لا ضمانات لتحقيق أهداف سياسة الدعم حتى لو طبقت في الوقت المناسب، خاصة أن لبنان واجه نقصاً حاداً بالخبز العربي في صيف 2022، وأرجع وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، وممثلون عن نقابة الأفران والمخابز العربية هذا النقص إلى عوامل عدة، وألقوا باللوم على بعضهم، إلا أن الغريب أنهم اتفقوا أن الحرب الأوكرانية ليست واحدة من أسباب هذا النقص.
بحديث مع موقع “بديل“، كرر الوزير سلام أن كمية القمح المتوفرة لم تكن مشكلة في الصيف الفائت، بل أن النقص يعود إلى استخدام الأفران للطحين المدعوم لتصنيع منتجات ترجع أرباحاً طائلة كالبيتزا والحلويات بدلاً عن الخبز العربي الذي يخضع لضوابط أسعار التجزئة، كما ألقى باللوم على مؤسسات القطاع الخاص عديمة الضمير “كبعض المطاحن” على تهريب الطحين المدعوم الى سوريا، وبحسب سلام فإنه تم حل مشكلة النقص عندما أسست لجنة أمنية لمراقبة الأفران وتوصيلات القمح.
من جهته أوضح المدير التنفيذي لمطاحن التاج (Crown Flour Mills)، بول منصور لـ”بديل”، أن الحرب الأوكرانية لم تؤثر على حصول لبنان على إمدادات القمح، كما صرحت نقابة الأفران والمخابز العربية أن إجراءات دعم المصرف المركزي للقمح أخذت وقتاً طويلاً مما أخر تسليم القمح، وأدى الى نقص الخبز الذي شهدناه في الصيف.
إجراءات مكلفة ولامجدية ولامتساوية تسهل الكسب غير المشروع على المدى القريب
استورد لبنان لعقود معظم البضائع التي يستهلكها سكانه مما أدى إلى عجز كبير في ميزانه التجاري، ودعم المصرف المركزي البضائع المستوردة كالفيول والأدوية وبعض السلع الأساسية في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعيشه لبنان منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019، والذي فقدت بعده الليرة اللبنانية ما يقارب 97 في المائة من قيمتها خلال ثلاث سنوات.
وكلفت ذروة دعم المصرف المركزي ما يقارب 500 مليون دولار شهرياً، صرف نصفها على دعم الفيول وحده. إن هذه الأرقام لا تمثل إلا التقديرات، بما أن المصرف المركزي اتبع سياسة صفر شفافية بالسبل التي اعتمدها لصرف احتياط العملة الصعبة، حيث بدأت الأسعار بالارتفاع بعدما أوقف المصرف المركزي سياسات الدعم إثر صرف معظم احتياطي لبنان في عام 2021.
وهكذا فإنه تم تطبيق سياسات الدعم لمدة زمنية قصيرة لكن كلفتها كانت مرتفعة. إذ إنها كلفت الدولة مليارات الدولارات ولم تنجح بحل أي من أزمات لبنان متعددة الجوانب، بل أثرت عليه سلباً. كما استفاد الميسورين من فوائد الدعم إذ إنهم الأكثر قدرة على شراء البضائع المدعومة، فقد قدرت اليونيسف أن 80 في المائة من البضائع المدعومة استفاد منها الأعلى دخلاً، وتشير تقارير القوى الأمنية إلى اعتقال مهربي البضائع المدعومة إلى خارج لبنان، مما يبرهن على استفادة أطراف أخرى من البضائع المدعومة.
اعترف سلام بأن التهريب والتربّح يمثلان خطراً لبرنامج دعم القمح، لكن إذا كان الوزير على حق بشأن نقص الخبز بسبب الفساد وليس بسبب انخفاض العرض، لِم لمْ يطلب مساعدة البنك الدولي لتعزيز مراقبة السوق؟
في أفضل الحالات، ستعقّد تقلبات تشريعات دعم وتطبيق (القانون رقم 304) مما يؤدي إلى محدودية فعاليته، وفي أسوأ الحالات، ستضخ أموالاً إلى خزينة الدولة لتهرّب منها لاحقاً. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما زال مبهماً ما إذا كانت وزارة الاقتصاد والتجارة ستمول عملية شراء القمح نيابة عن المستوردين عبر إحدى أقسامها، أم أن المصرف المركزي سيقوم بهذا الدور. كما لم توضح العملة المعتمدة ومجموع التكاليف وآلية الدفع والمستفيدين من مستوردي القمح الذين يفرض عليهم إيفاء جزء من النفقات للوزارة. هذا ويسمح الغموض حول العملة المعتمدة ومعالجة الاعتمادات والتحويلات الأخرى بتهريب المال.
ورفض البنك الدولي إجراء مقابلة مع “بديل“، لكنه ذكر في رسالة إلكترونية أجاب فيها عن أسئلتنا أن “المشروع يتضمن عدة تدابير تخفيفية لمعالجة مخاطر هدر التمويل”، وأوضح البنك الدولي أن هذه التدابير تتضمن مراقبة المشروع من قبل طرف ثالث، وإجراء تدقيقات مالية دورية بإشرافه على تطبيق المشروع ومشترياته، كما يهدف إلى “تحسين قدرات الدولة لضمان رقابة القطاع وتطبيق مبدأ الشفافية”. لكن وزارة الاقتصاد والتجارة تتحمل مسؤولية تطبيق المشروع وتخصيص الموظفين.
قد يكون منطق أخذ قرض جديد لدعم القمح في ظل ازدياد المخاطر ومحدودية الفوائد الممكنة قديماً، كما يتضمن 90 في المائة من قرض البنك الدولي البالغ 150مليون دولار شروطاً غير ميسرة ذات نسبة فائدة متغيرة، ولذلك يواجه اللبنانيون ديوناً وتكاليف باهظة على المدى البعيد في بيئة عالمية ترتفع فيها نسب الفائدة.
قد يتمكن لبنان من أخذ خطوات متينة باتجاه تحقيق أمن غذائي مستدام لو صرف جزء من المليارات التي خصصها المصرف المركزي لدعم البضائع منذ 2019 على إصلاحات واستثمارات يحتاج إليها القطاع الزراعي اللبناني. لكن هذه النظرة البناءة على المدى البعيد لا تلوح بالأفق.
يهدف قرض البنك الدولي إلى “تأمين الخبز حتى نتمكن من إصلاح سعة التخزين ليصبح الوضع الاقتصادي تحت السيطرة”، بحسب تصريح الوزير سلام لـ”بديل“، كما أضاف أن “البرنامج قد يجدد أو يمتد لبرنامج أكبر بحسب أدائنا”. وأخبر الوزير “بديل“ أن المفاوضات مع البنك الدولي أفضت إلى تمديد البرنامج الحالي أو إلى اعتماد نظام البطاقة الذكية لتحويل الأموال بغية شراء الخبز مثل ذلك المعتمد في مصر.
وفي كلا الحالتين، تنوي الدولة الاعتماد على البنك الدولي لتمويل برامج تدريجية وقصيرة الأمد بدلاً من إيجاد حلول مستدامة لضمان الأمن الغذائي والوصول العادل للبضائع الأساسية.
ملاحظة المحرر: يود موقع “بديل“ أن يشكر أماندا حيدر على مساهمتها في التوثيق.