لا حل دون مسار واضح: نحو مقاربة جديدة لمسألة سلاح حزب الله

إطار عملي لتوحيد الدفاع الوطني وتعزيز الأمن تحت سلطة الدولة اللبنانية

ملخص تنفيذي 

بعد مرور خمسين عاماً على اندلاع الحرب الأهلية، يجد لبنان نفسه مجدداً عند مفترق طرق بين التهديد الوجودي وإمكانية حل مسألة السلاح خارج إطار الدولة. جوهر المسألة اليوم هو استمرار الازدواجية العسكرية، وهي حالة مزعزعة للاستقرار بطبيعتها. إذ يحتفظ حزب الله بتشكيل مسلّح خارج إطار الدولة. وهذا الواقع يتنافى جوهرياً مع مفاهيم السيادة الوطنية والاستقرار المجتمعي طويل الأمد والازدهار الاقتصادي. 

غير أنّه لا بدّ من الإقرار بأن نشوء جيش حزب الله وأجهزته المتفرّعة (وشبه الحكومية) جاء أيضاً كردّ فعل على عجز الدولة اللبنانية عن فرض سيادتها الوطنية. فقد واجه لبنان على مدى عقود تهديدات وجودية في مقدّمها التهديد الإسرائيلي، إلى جانب تدخلات خارجية من إيران وسوريا وغيرها. وفي المقابل فإنّ التشابك المعقّد بين الهويات الطائفية والمصالح الاقتصادية الداخلية قوّض تماسك الدولة الوطنية. وقد بنى حزب الله شرعيته لدى قطاع واسع من اللبنانيين عبر تلبية احتياجات لم تتمكّن الدولة من توفيرها، خصوصاً في الأوساط الشيعية في الجنوب والبقاع. 

لطالما انحصر النقاش السياسي حول سلاح حزب الله في ثنائية إيديولوجية مبسطة وخطاب اختزاليّ وخطر.. حين يصف دبلوماسيون أميركيون وبعض السياسيين اللبنانيين حزب الله بـ”السرطان” فإنهم يُجَرِّدون ضمناً ملايين اللبنانيين الداعمين للحزب أو المتعاطفين معه من إنسانيتهم. وفي هذه الورقة نبدي معارضتنا بشدة لوجود أي قوة عسكرية موازية خارج إطار الدولة، نظراً لما يحمله ذلك من أثر سلبي على الحكم والسيادة في لبنان. غير أننا في الوقت ذاته نرفض الخطاب الذي يسعى إلى شيطنة مواطنين لبنانيين. فإن تصنيف مناصري حزب الله كأعداء أو كورم خبيث يجب استئصاله، خصوصاً حين يأتي ذلك بذريعة “حماية إسرائيل” الدولة التي يشكّل عدوانها مصدراً أساسياً للأزمات الأمنية في المنطقة، ليس موقفاً لا أخلاقياً فقط بل هو أيضاً هزيمة ذاتية على المستوى الاستراتيجي. 

فإن الحلول السريعة والإملاءات الخارجية لنزع سلاح حزب الله فوراً هي طروحات ساذجة تُهدد بإغراق لبنان في صراع أهلي جديد. ومن يدفعون بهذه المقاربات المبسّطة يتجاهلون واقعاً اجتماعياً عميقاً: لا يمكن معالجة مسألة السلاح وتأمين الاستقرار ما لم يشعر المجتمع الشيعي، وسائر الفئات اللبنانية المهمشة تاريخياً، بأنهم محميون وممثَّلون داخل الدولة وبأن حاجاتهم الأمنية والاقتصادية ستُلبى على أرض الواقع. دون هذه الثقة ستبقى الدولة اللبنانية ضعيفة، وسيسود مناخ من عدم الاستقرار قد يمتد بسهولة إلى خارج الحدود في ظل استمرار القوى الخارجية بمحاولة توظيف لبنان لخدمة مصالحها. 

  

ما يقترحه إطار السياسة هذا 

يرتكز إطار العمل هذا على ركيزتين مترابطتين: تتناول الأولى التكامل العسكري، والثانية الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والمؤسسي. 

أولاً نقترح دمج قدرات حزب الله العسكرية (على مراحل) ضمن القوات المسلحة اللبنانية وسائر الأجهزة الأمنية. تتدرّج هذه العملية بشكل متسلسل، وتبدأ بدمج الخبرات الفنية والأسلحة المتخصصة واختيار عناصر محددين من صفوف حزب الله ضمن بنية عسكرية وأمنية وطنية يُعاد تفعيلها. ويُفترض بالقوات المسلحة اللبنانية أن تخضع لإصلاح داخلي جذري يركّز على التحديث العملياتي والاستدامة المالية والتوظيف على أساس الجدارة وإرساء رقابة مدنية فعالة. وكل هذه إجراءات لا بد منها لتحويل الجيش إلى مؤسسة دفاع وطنية موثوقة وقادرة على ردع العدوان الإسرائيلي وإدارة الأمن الداخلي بكفاءة. 

 

يهدف هذا المقترح إلى نقل لبنان من حالة الجمود الإيديولوجي الخطر نحو مسار منظم يستند إلى الواقعية السياسية والبراغماتية المؤسسية والتنسيق الاستراتيجي بين المصالح المحلية والدولية.

ثانياً وبالنظر إلى الدور الاجتماعي والاقتصادي المتجذّر لحزب الله، نقترح إدماج شبكاته المدنية والخدمية الواسعة في مؤسسات الدولة بعد إصلاحها. تهدف هذه الخطوة إلى صون الخدمات الأساسية التي يوفّرها الحزب حالياً لا سيما للفئات المهمشة تاريخياً، مع إعادة هيكلتها تدريجياً تحت مظلّة التنظيم القانوني وآليات المساءلة العامة. وفي المقابل لا بدّ من الدفع وبحسم في جهود تحقيق الاستقرار الاقتصادي، خصوصاً في ما يتعلق بمعالجة الأزمة المالية العميقة في لبنان، لإثبات أن الإصلاح البنيوي يمكن تحقيقه. هذا النهج المزدوج يربط بين التحسينات الاجتماعية والاقتصادية الملموسة وبين مسار التكامل العسكري، بما يعزز الثقة ويكرّس شرعية الدولة، ويزيد من ثقة الجمهور بإمكانية تحقيق إصلاح وطني شامل. 

يهدف هذا المقترح إلى نقل لبنان من حالة الجمود الإيديولوجي الخطر نحو مسار منظم يستند إلى الواقعية السياسية والبراغماتية المؤسسية والتنسيق الاستراتيجي بين المصالح المحلية والدولية. وبدلاً من طرح حلول مثالية أو وعود بإصلاحات سريعة، يضع هذا الإطار خارطة طريق واقعية تهدف إلى بناء الثقة بشكل تدريجي ومستدام ودون تهميش أي شريحة أو شيطنة أي فئة من اللبنانيين. 

  

لا حلول سهلة 

لا يُقدَّم هذا الإطار باعتباره الحل النهائي أو الوحيد لأزمة معقّدة لها أبعاد متعددة، بل هو دليلٌ عمليّ يهدف إلى تجاوز السجالات الإيديولوجية العقيمة التي تعيق التقدم على مستوى السياسة في لبنان. بالتالي غاية هذه الورقة تحديد خطوات ملموسة نحو دمج الجهاز العسكري لحزب الله ضمن القوات المسلحة اللبنانية، وإعادة هيكلة استراتيجية الدفاع الوطنية بما يوفّر للبنان ردعاً موثوقاً بقيادة الدولة ضد أي عدوان إسرائيلي. وهي تُقِرّ كذلك بأن البنية الاجتماعية والاقتصادية التي أنشأها حزب الله هي واقع لا بدّ من التعامل معه ببراغماتية عبر إدماجها في مؤسسات الدولة بعد إصلاحها وتفعيل مساءلتها، لا عبر تفكيكها بشكل عشوائي. 

هذه الورقة لا تمثل نهاية، بل يجب أن تكون منطلقاً لحوار وطني متجدد حول المسار الجماعي لاستعادة سيادة الدولة وتحقيق الاستقرار المستدام.

وفي الوقت نفسه تربط هذه الورقة بين الازدواجية العسكرية والأزمة المالية الخانقة في بالبلاد، وهي كارثة لم تكن حصيلة مشاكل اقتصادية تقنية بل عكست تمسّك النخب السياسية بمنظومة تغذّي الانقسام الطائفي واستغلال الموارد الاقتصادية للدولة. فالمنظومة المصرفية والمالية التي نهبت الاقتصاد اللبناني، والقوى السياسية التي تحمي الازدواجية العسكرية، وجهان لنظام حكم مأزوم يدفع اللبنانيين إلى التصارع من أجل مكاسب سياسية واقتصادية محدودة. 

ينطلق هذا الإطار للسياسات من إدراكنا أن فرص التغيير الجذري في لبنان لا تتكرر إلا على مستوى الأجيال. فإن مقترحنا هنا ليس طوباوياً ولا مثالياً، بل هو واقعي وضرورة اليوم. وهدفنا تحفيز نقاش وطني أكثر نضجاً وصدقاً حول إشكالية الازدواجية العسكرية، بعيداً عن الشعارات الانقسامية ونزعات التخوين والتضليل التي شوّهت هذه المسألة وأفسدت النقاش السياسي حولها. هذه الورقة لا تمثل نهاية، بل يجب أن تكون منطلقاً لحوار وطني متجدد حول المسار الجماعي لاستعادة سيادة الدولة وتحقيق الاستقرار المستدام. 

 

مقدمة 

معالجة الازدواجية العسكرية في لبنان 

إنّ الازدواجية العسكرية في لبنان والتي وفقها يحتفظ حزب الله بجيش دائم وأجهزة أمنية مستقلة عن القوات المسلحة اللبنانية وأجهزة الدولة، تُعدّ من بقايا الحقبة التي تلت الحرب الأهلية. وقد تغيّر مبرّر حزب الله لهذا الوجود العسكري مع مرور الوقت: فقبل عام 2000، كان الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من جنوب لبنان يشكّل المبرر الأساسي، أما في ما بعد، فقد عُزِيَ الأمر إلى عجز الجيش اللبناني عن حماية السيادة ما استدعى وجود ذراع عسكرية للحزب كقوة ردع في وجه التوسّع الإسرائيلي. 

أبدى مسؤولو الحزب أنفسهم استعداداً متزايداً للبحث في مستقبل جناحهم المسلّح ضمن إطار استراتيجية دفاع وطني. هذه المعطيات مجتمعة تفتح نافذة فرصة نادرة لإعادة النظر في الازدواجية العسكرية وإعادة بناء المنظومة الدفاعية والأمنية على أسس وطنية موحّدة

وشكّلت هذه التبريرات، والهياكل العسكرية والأمنية الموازية التي تأسست بموجبها، موضع جدل دائم في الداخل اللبناني. غير أن تحولات جذرية في المشهد السياسي والجيوسياسي أعادت هذه المسألة إلى الواجهة وخلقت زخماً حقيقياً لطرحها من جديد. ففي تشرين الثاني أنهى اتفاق لوقف إطلاق النار جولة القتال الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، والتي أسفرت عن آلاف الشهداء ومئات آلاف النازحين، وأضرار جسيمة في مناطق متعددة من البلاد. وفي أوائل كانون الأول سقط نظام الأسد في سوريا، ما أزاح حليفاً أساسياً لحزب الله طالما امتلك تأثيراً مباشراً على القرار اللبناني. وفي كانون الثاني جرى انتخاب الرئيس جوزف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، منهين أكثر من عامين من الجمود السياسي ورافعين راية برنامج إصلاحي يشمل ضمّ البنية العسكرية لحزب الله إلى قيادة القوات المسلحة اللبنانية. وفي تطور لافت أبدى مسؤولو الحزب أنفسهم استعداداً متزايداً للبحث في مستقبل جناحهم المسلّح ضمن إطار استراتيجية دفاع وطني. هذه المعطيات مجتمعة تفتح نافذة فرصة نادرة لإعادة النظر في الازدواجية العسكرية وإعادة بناء المنظومة الدفاعية والأمنية على أسس وطنية موحّدة. 

لكن العقبات لا تزال عديدة. فجوهر منطق وجود سلاح حزب الله لم يتبدّد بعد: إذ تفتقر الدولة اللبنانية حتى اليوم إلى القدرة الفعليّة على ردع الاعتداءات الإسرائيلية. ومن زاوية داخلية لا تزال المبررات قائمة كذلك: فرغم أن الطائفة الشيعية تُعدّ من أكبر الطوائف اللبنانية، وتحظى بنفوذ وازن عبر موقع رئاسة البرلمان، إلا أن نظام المحاصصة الطائفية لطالما أبقى التوازنات السياسية مائلة لصالح الموارنة والسنة. وفي هذا السياق وفّر سلاح حزب الله، وما يمثله من إمكانية للجوء إلى القوة، مظلّة حماية للطائفة الشيعية وحال دون تهميشها في معادلات الحكم. كما أن البنية المركّبة للحزب، والتي تدمج بين أدواره العسكرية والسياسية والاجتماعية، تعني أن أي مقاربة لموضوع السلاح لا يمكن فصلها عن هذه الأبعاد مجتمعة. 

أما على الصعيد الدولي يتموضع حزب الله عند نقطة تقاطع بين مصالح القوى المتنازعة. فإسرائيل التي تشكّل التهديد الرئيسي لسيادة لبنان، تحظى بدعم عسكري ودبلوماسي غير مشروط من الولايات المتحدة، القوة العالمية العظمى. كما تلعب جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل دوراً في كبح أي انتقاد فعلي للسياسات الإسرائيلية ما يحدّ من فاعلية أي ردع دبلوماسي أو قانوني. وفي المقابل دعمت إيران حزب الله وسلحته ومولته ليكون خط دفاع أمامياً بوجه إسرائيل ووسيلة ردع إقليمية في وجه الهجمات الإسرائيلية والأميركية. وعليه فإن أي مسار لنقل سلاح الحزب إلى الدولة لا بدّ أن يتضمّن ركيزة دولية متزامنة مع الركيزة الداخلية، لتجنّب تحوّل الأطراف الخارجية إلى أدوات تخريبية لهذا المسار. 

المضيّ في مصالحة وطنية أوسع 

إن أهمية حزب الله لدى الطائفة الشيعية، وتموضعه العميق في النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني، يفرض أن تُبنى مقاربة الانتقال العسكري على فهم واقعي لأسباب نشوء هذا السلاح واستمراريته. المطلوب هو مسار واقعي وعلى مراحل، يأخذ بعين الاعتبار ضرورة تثبيت الأمن وإصلاح المؤسسات وتحقيق انتقال اجتماعي واقتصادي فعليّ، بالتوازي مع إنشاء آليات دولية تحصّن السيادة اللبنانية في وجه أي عدوان أو احتلال. لكن هذه الضمانات الخارجية لا تكفي وحدها. فالمشهد الجيوسياسي اليوم مليء بالاتفاقات المنهارة والتعهّدات المهملة. وقد بيّنت تجربة إدارة ترامب كيف يمكن للاتفاقات الدولية أن تُلغى بقرار أحادي، لا سيما حين تكون السياسة الأميركية متماهية مع أولويات إسرائيل. أما إيران فإن ازدواجية خطابها (بين رسائل التعاون وتعزيز شبكات النفوذ) تجعل ضماناتها الغامضة رهاناً هشاً. لذا فإن اللحظة المناسبة لإحداث تحول جذري في لبنان تعتمد أساساً على إرادة داخلية، وتحديداً على إدراك حزب الله لموقعه المتقلّب في ظل تراجع خطوط الإمداد وتآكل الحاضنة السياسية وتضاؤل الدعم الإقليمي. هذه اللحظة قد تكون الفرصة الأفضل وربما الأخيرة لإعادة التموضع على قاعدة تُعيد إلى لبنان تماسكه الوطني. أما الضمانات الدولية فدورها مكمّل، لكنها لا تكتسب معناها إلا حين تتقاطع مع حسابات وطنية واقعية.

وفي هذا السياق يجب أن يُطرح مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة" كجزء من مشروع مصالحة وطنية شاملة بين مكونات المجتمع اللبناني.

لكن هذه الضمانات الخارجية لا تكفي وحدها. فالمشهد الجيوسياسي اليوم مليء بالاتفاقات المنهارة والتعهّدات المهملة. وقد بيّنت تجربة إدارة ترامب كيف يمكن للاتفاقات الدولية أن تُلغى بقرار أحادي، لا سيما حين تكون السياسة الأميركية متماهية مع أولويات إسرائيل. أما إيران فإن ازدواجية خطابها (بين رسائل التعاون وتعزيز شبكات النفوذ) تجعل ضماناتها الغامضة رهاناً هشاً. لذا فإن اللحظة المناسبة لإحداث تحول جذري في لبنان تعتمد أساساً على إرادة داخلية، وتحديداً على إدراك حزب الله لموقعه المتقلّب في ظل تراجع خطوط الإمداد وتآكل الحاضنة السياسية وتضاؤل الدعم الإقليمي. هذه اللحظة قد تكون الفرصة الأفضل وربما الأخيرة لإعادة التموضع على قاعدة تُعيد إلى لبنان تماسكه الوطني. أما الضمانات الدولية فدورها مكمّل، لكنها لا تكتسب معناها إلا حين تتقاطع مع حسابات وطنية واقعية.

وفي هذا السياق يجب أن يُطرح مبدأ “حصر السلاح بيد الدولة” كجزء من مشروع مصالحة وطنية شاملة بين مكونات المجتمع اللبناني. وهذا المشروع يتطلب الاعتراف بالحرمان التاريخي الذي طال الأطراف المهمشة (لا سيما في الجنوب والبقاع) وإعادة تعريف الدولة بوصفها الضامن الحقيقي لحقوق جميع المواطنين. 

وقد تكون هذه المصالحة مساراً طويلاً ومعقداً يتطلّب خطوات لبناء الثقة مثل تشكيل هيئة حقيقة ومصالحة أو عقد مؤتمر حوار وطني برعاية البرلمان أو إطلاق برنامج إنمائي شامل، إلى جانب إصلاحات جذرية في أجهزة الدولة ومساءلة فعالة في القطاع العام. لكن على المدى القريب لا بد من وضع استراتيجية دفاع وطني جديدة ترتكز إلى إعادة تأهيل الجيش اللبناني، مما يشكّل نقطة تحوّل مركزية. تشمل هذه الاستراتيجية دمجاً انتقائياً وعلى مراحل لقدرات حزب الله وأفراده العسكريين ضمن القوات المسلحة، والاستفادة من خبراته التقنية ، من المسيّرات إلى أنظمة الصواريخ وغيرها من الخبرات، لتعزيز قدرات الجيش اللبناني. 

وهذا الانتقال العسكري يجب أن يتم بالتوازي مع إصلاحات سياسية ومؤسساتية لضمان ألّا يُنظر إليه كتهديد وجودي أو خسارة للطائفة الشيعية، بل كجزء من إعادة تموضع وطني شامل على المستويات الاجتماعية والسياسية والأمنية. وعليه لا بدّ من الاعتراف بالدور المركزي الذي يلعبه حزب الله في البنية الاجتماعية والاقتصادية، إذ لا يمكن نجاح أي مسار انتقالي دون موافقته ومشاركته الفعلية. وهذا غير ممكن ما لم يقترن انتقال جناحه العسكري بتمكينه من توجيه طاقاته نحو الدور المدني والخدماتي الذي يقدّمه لحاضنته الشعبية، والذي غالباً يتفوّق من حيث الفاعلية والكفاءة على ما تقدّمه الدولة نفسها. لذلك يجب أن يتم التعامل مع دمج الخدمات الاجتماعية والمدنية للحزب بمنهج عملي مع تقييم كل قطاع على حدة. فبعض هذه الخدمات يمكن دمجه ضمن أجهزة الدولة، بينما يمكن مواءمة البعض الآخر تدريجياً ضمن أطر تنظيمية مناسبة بما قد يسهم تدريجياً في تعزيز شرعية الدولة في مختلف الجماعات الأهلية على تنوعها. 

الركيزة الأولى: الدفاع عن لبنان 

استراتيجية دفاع وطني جديدة 

لطالما شكّلت القيود الهيكلية أحد أبرز العوامل التي قوّضت قدرة لبنان على بناء إطار أمني موحّد. فالجيش اللبناني رغم كونه المؤسسة العسكرية الوطنية الرسمية، لا يزال يعاني من نقص مزمن في التمويل وإرهاق عملياتي متراكم وافتقار إلى قدرات متقدّمة لمواجهة التهديدات المستجدة، إلى جانب ضعف في التفويض. كما أن اعتماد الجيش على التمويل الخارجي خصوصاً من الولايات المتحدة وفرنسا وبعض دول الخليج يُقيّده سياسياً ومالياً. ولا يمتلك الجيش في وضعه الحالي الجهوزية الكافية لاستيعاب عناصر حزب الله ومعدّاته، ولا لتقديم بديل موثوق لدور الحزب في الردع العسكري. 

يشكّل تطوير استراتيجية دفاع وطني متماسكة وقوية حجر الأساس في أي انتقال عسكري لحزب الله. ويقتضي إعادة تموضع استراتيجي للسياسة الدفاعية الوطنية والانتقال من نموذج الردع غير المتكافئ الذي يعتمده الحزب إلى نموذج دفاع تقوده الدولة، بما يتيح جذب اهتمام الفاعلين الدبلوماسيين لضمان دعم عسكري مستدام. وتشمل الخطوات الأساسية ما يلي: 

  • قوننة العقيدة الأمنية في لبنان: على الحكومة أن تضع عقيدة أمنية رسمية تُكرّس الجيش اللبناني كالقوة العسكرية الوحيدة المسؤولة عن الدفاع الوطني، مع دمج مهام دفاعية كانت سابقًا تحت إدارة حزب الله. 
  • ترقية القدرات الدفاعية الجوية والصاروخية: لا بدّ من تزويد الجيش اللبناني بأنظمة متقدّمة للدفاع الجوي، وبنى تحتية للرصد والمراقبة، وقدرات ردع دقيقة لمواجهة التهديدات الإسرائيلية. ويشمل ذلك إقامة شراكات دفاعية مع حلفاء إقليميين وغربيين أو أطراف دولية ناشئة. هذه الخطوة حيوية لتعزيز قدرة الردع في جنوب لبنان. 
  • تعزيز انتشار الجيش اللبناني على الحدود: وهذا يتطلّب انتشاراً موسّعاً للقوات المسلحة جنوب نهر الليطاني، بما يضمن انتقال مسؤوليات الأمن التي كانت بعهدة حزب الله إلى مؤسسات الدولة. ويجب أن تدعم هذه العملية آليات لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع اليونيفيل وسائر الجهات الدولية المعنية (مثل آلية مراقبة وقف إطلاق النار التي ترأسها الولايات المتحدة وفرنسا) كما يجب تعزيز الدوريات على الحدود الشرقية والشمالية مع سوريا. 

الشرط المسبق: إصلاح الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية 

قبل المضي في دمج عناصر حزب الله ضمن مؤسسات الدولة، يجب أن يخضع الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية لإصلاحات هيكلية عميقة، تهدف إلى رفع الكفاءة، وتعزيز هياكل القيادة، وإغلاق الثغرات التي يمكن استغلالها خلال المرحلة الانتقالية. وتُعدّ هذه الإصلاحات ضرورية لتمكين المؤسسات من استيعاب العناصر دون المسّ بشرعية الدولة أو سيادتها. والأهم، يجب أن تضمن الإصلاحات ألا يُفضي التكامل إلى نشوء شبكة نفوذ موازية لحزب الله داخل المؤسسات الأمنية. تشمل هذه الإصلاحات: 

  • الإصلاح والتحديث: على الجيش والأجهزة الأمنية إطلاق عملية إصلاح داخلي طموحة تركّز على الفعالية العملياتية والتطوّر التكنولوجي والاستدامة المالية. يشمل ذلك إعادة هيكلة الإنفاق غير المتوازن والمُثقَل برواتب الموظفين، عبر ترشيد عدد العناصر وإعادة تنظيم أنظمة التقاعد، وتوجيه الموارد نحو تحديث التجهيزات والبنية التحتية. والشروط الأساسية لهذه العملية هي الشفافية المالية والرقابة المدنية والتحوّل الاستراتيجي نحو القدرات التكيّفية مع التهديدات المستجدّة. ويجب أن تتماشى هذه التحوّلات مع أولويات الجهات المانحة لضمان استمرار الدعم، وتأسيس جيش حديث قادر على تولّي المهام الأمنية التي كان يحتكرها حزب الله سابقاً. 
  • تعزيز القيادة والسيطرة: على الجيش وسائر الأجهزة الأمنية تعزيز العقيدة العسكرية المركزية لضمان الانضباط للتسلسل القياديّ ومنع التشرذم. كما يسهم ذلك في ترسيخ المهنية والانضباط على مختلف المستويات. 
  • إصلاح إدارة الموارد الأمنية: على جميع المؤسسات الأمنية اعتماد آليات شفافة وخاضعة للمساءلة لإدارة الموارد البشرية والمالية بما يتماشى مع الأولويات الاستراتيجية. فإن الميزانيات تُستنزف اليوم بفعل المحاصصة الطائفية، ويجعل هذه المؤسسات أدوات للزبائنية في التوظيف في القطاع العام. لا بدّ من كسر هذا النمط والتركيز على الكفاءة التشغيلية. ورغم أن التغييرات السريعة قد تصطدم بضوابط دستورية تقيّد المناصب العليا وبممارسات راسخة تاريخياً، لكن ما يزال هناك مجال واسع للإصلاح يكمن في تحييد العناصر التي عُيّنت ضمن نظام المحاصصة بشكل تدريجي واستبدالها بأخرى شابّة ووفق معايير الكفاءة. بمرور الوقت فإن هذا التحول قد يعزّز كفاءة الأداء ويحدّ من الهدر، ويُعيد توجيه المؤسسات الأمنية نحو وظيفتها الجوهرية: أي حماية السيادة الوطنية والاستقرار الداخلي. 

التكامل العسكري والأمني ​​الموازي 

يجب أن يتمّ الدمج العسكري لحزب الله تحت قيادة الجيش اللبناني بالتوازي مع إصلاح شامل لقطاع الأمن في لبنان، على أن يشمل أيضاً دمج شبكاته الأمنية المحلية ضمن المؤسسات الوطنية. ومع تزايد دور الدولة في إنفاذ القانون والدفاع الوطني، تعزز هذه العملية موقعها كضامن للنظام والاستقرار الاجتماعي، وتدعم مسار المصالحة الوطنية بشكله الأوسع. وترتكز عملية التكامل على المبادئ التالية: 

  • التعاون لمنع الفراغات الأمنية وانتشار الجماعات المسلحة غير النظامية: يتطلب التكامل العسكري والأمني تنسيقاً فعّالاً بين مؤسسات الدولة ونظيراتها في حزب الله لتفادي الفراغ الأمني خلال المرحلة الانتقالية. وأمنياً يمكن للدوريات والعمليات المشتركة أن تلعب دوراً فورياً في الحفاظ على الاستقرار. أما على الصعيد العسكري، فمن الضروري إنشاء آليات لتبادل المعلومات، مثل غرف العمليات المشتركة التي تشرف على كل مرحلة من مراحل التكامل، وتضمن اتساقها مع استراتيجية الدفاع الوطني. ويُفترض أن تظل جميع الأطراف يقظة لمنع نشوء هياكل أمنية بديلة أو جماعات مسلّحة جديدة تسعى إلى ملء الفراغ بعد انسحاب حزب الله. 
  • التكامل الانتقائي للعناصر: يجب أن يتم استيعاب عناصر حزب الله ضمن الأجهزة العسكرية والأمنية للدولة بشكل فردي وانتقائي، لا جماعي، تجنّباً لنشوء تكتلات داخل مؤسسات الدولة. وتتطلّب عملية التدقيق هذه التمييز بين المحاربين القدامى المرتبطين أيديولوجياً بالحزب، والمجندين الأحدث ممن لديهم قابلية أكبر للاندماج المؤسسي ضمن الدولة إذا توافرت الحوافز المناسبة. يعتمَد اختيار العناصر على أساس الجدارة دعماً للفعالية المؤسسية وللحدّ من التضخم الوظيفي. وتشمل إعادة التدريب برامج مخصصة لتعزيز الانتماء الوطني، وتشكيل وعي مؤسسي جديد. كما يُراعى في توزيع هؤلاء الأفراد عبر وحدات الجيش تفادي أي اختلالات طائفية في تشكيل الوحدات. 
  • جمع الأسلحة والإشراف عليها: يجب تنفيذ آلية تدريجية وخاضعة للرقابة لتسليم أسلحة حزب الله، تشمل تسجيل وتخزين الأسلحة غير المصرّح بها، ثم التخلص منها أو إدماجها ضمن ترسانة الجيش اللبناني بحسب ما يتوافق مع إصلاحات القطاع الأمني وأهداف استراتيجية الدفاع الوطنية. 
  • دعم الانتقال المهني لمن لم يُدمَج: أما العناصر التي لن تُدمج في المؤسسات العسكرية، فيجب أن توفَّر لها بدائل مدنية مناسبة سواء من خلال إدماجها في القطاع العام أو تقديم تعويضات مالية، أو المساعدة في إيجاد وظائف ضمن القطاع الخاص (راجع الركيزة الثانية أدناه). وهذه الإجراءات ضرورية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والحد من تداعيات اقتصادية محتملة على أفراد اعتمدوا لسنوات على منظومة حزب الله كمصدر رزق رئيسي. 

الدبلوماسية والضمانات الأمنية الدولية 

تُشكّل الضمانات الأمنية الدولية الجادة ضد الاعتداءات الإسرائيلية عنصراً أساسياً لدعم نجاح استراتيجية الدفاع الوطنية ولقدرة الجيش اللبناني على أن يحلّ محل حزب الله كحامٍ للسيادة اللبنانية في الجنوب. من دون إدراج هذه الضمانات الدولية ذات المصداقية ضمن الإطار الدفاعي الوطني، سيبقى من الصعب، سياسيًا، إقناع قاعدة حزب الله بالتخلّي عن الدور العسكري الذي يضطلع به. وعليه، إلى جانب الإصلاحات الداخلية، لا بدّ للبنان من التفاوض على ضمانات أمنية دولية مُلزِمة تضمن حماية سلامة أراضيه. وهذه الضمانات يمكن أن تُشكّل بديلاً عن المبرّر الذي يستند إليه حزب الله للاحتفاظ بجناحه المسلّح، وتضمن في الوقت ذاته للبنان دعماً عسكرياً واقتصادياً يمكن الاعتماد عليه. وتشمل الخطوات المقترحة ما يلي: 

  • تأمين اتفاقيات دفاع ثنائية ومتعددة الأطراف: على لبنان مع شركاءه الأمنيين والاقتصاديين الأساسيين مثل فرنسا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية أو غيرها، توقيع اتفاقيات تعاون متبادل تشمل آليات عسكرية وغير عسكرية لردع الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية. 
  • إنشاء إطار دبلوماسي: من الضروري تطوير آليات تُسرّع التدخّل الدبلوماسي في حال تجدّد النزاع مع إسرائيل، بما يُشكّل عامل ردع إضافي للجوء إلى القوة العسكرية. 
  • توسيع برامج المساعدات العسكرية: على الأطراف المعنية باستقرار المنطقة توسيع برامج الدعم العسكري واتفاقيات التوريد الدفاعي مع الجيش اللبناني، بما يُتيح له تطوير قدراته العملياتية ومأسستها. 
  • موازنة الضغوط الإقليمية: نظراً لطبيعة العلاقات الاستراتيجية التي تربط إيران بحزب الله، لا بدّ لأي مسار انتقالي أن يتفادى إثارة توتّرات إقليمية إضافية. يتطلّب ذلك مقاربة دبلوماسية حذرة ومساعٍ لحشد دعم الفاعلين الإقليميين في إطار أمني يقوم على مبدأ “دولة واحدة، جيش واحد” في لبنان. وفي حال رفضت بعض هذه الأطراف هذا الإطار يجب الاستمرار في الانخراط الدبلوماسي رفيع المستوى للتقليل من أي دور معرقل لجهود إعادة الاستقرار. 

الركيزة الثانية: التكامل غير العسكري والإصلاح 

تندمج الأجنحة العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لحزب الله ضمن سرديّة المقاومة وهيكلها التنظيمي الشامل، ما يجعل أي تغيير جوهري في تموضعه العسكري (مثل اندماجه في الجيش اللبناني) غير قابل للتحقيق دون معالجة المنظومة الأوسع التي كرّست حضوره داخل قاعدته المجتمعية. لذلك يجب أن تُدار عملية الانتقال باعتبارها هيكلاً مرحلياً يمتد لسنوات ويتضمن مسارين متوازيين: واحد عسكري والآخر غير عسكري. ومن الضروري أن يُفضي المسار غير العسكري إلى جعل الدولة اللبنانية المزوّد الأساسي للخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية للطائفة الشيعية، على أن تصبح المؤسسات التشريعية والقضائية للدولة مسارات فعلية تمكّن المجتمعات الشيعية من الوصول إلى حقوقها السياسية والقانونية. 

ففي ظل غياب دور مؤسسات الدولة وآليات المحاسبة، وفّر حزب الله على مدى عقود بنية اجتماعية واقتصادية واسعة سدّت فجوات خدمية عانت منها المجتمعات المهمشة في لبنان. إذاً لا يجب أن يكون هدف العملية الانتقالية هو تفكيك الدور الاجتماعي للحزب، بل إدماج آلياته الخدمية الفعّالة ضمن دولة لبنانية تخضع للإصلاح على أن تعمل هذه المؤسسات تحت إشراف الدولة لا بمعزل عنها. ويجب أن تحقق هذه العملية التوازن الدقيق بين التنظيم المؤسسي والاستقرار الاقتصادي والدعم الدولي، بما يتيح لحزب الله أن يساهم عبر أدواره الاجتماعية في بناء الدولة بدلاً من العمل خارجها. 

الاستفادة من فعاليّة الخدمات الاجتماعية لحزب الله 

نجح حزب الله في بناء شبكة خدمات اجتماعية فعّالة واسعة الامتداد في مجالات عجزت الدولة عن تلبيتها. فشبكاته في الرعاية الصحية والتعليم والإعمار والمساعدات المالية سدّت فجوات كبرى لدى شرائح لطالما عانت من التهميش. وعوضاً عن التفريط بهذه الخبرات، على الدولة العمل على إدماج المؤسسات المرتبطة بالحزب ضمن المنظومة الوطنية مع إخضاعها للرقابة التنظيمية، ودون الإضرار بفاعليتها التشغيلية. ويشمل ذلك الخطوات الأساسية التالية: 

  • إضفاء الطابع الرسمي على المؤسسات الاجتماعية التابعة لحزب الله: يجب تسجيل المنظمات التي تقدم خدمات صحية وتعليمية واجتماعية كمؤسسات غير حكومية أو مزوّدي خدمات عامّة، بما يضمن امتثالها للقوانين الوطنية وآليات الرقابة. 
  • دمج المؤسسات الماليّة ضمن الأطر النظامية: يجب أن تخضع مؤسسات مثل “القرض الحسن” والتي تعمل بحكم الواقع كمصارف، لإشراف مصرف لبنان، وأن تلتزم بالأنظمة المالية المعمول بها بما يعزز الشفافية والاستقرار المالي العام. 
  • إعادة توجيه برامج المساعدة نحو مظلّة الدولة: يجب أن تتحول شبكات المساعدات الاجتماعية التابعة لحزب الله إلى برامج حماية اجتماعية ترعاها الدولة، بما يضمن وصول الدعم إلى جميع المواطنين على قاعدة الإنصاف لا الانتماء السياسي أو الطائفي. 

التكامل بين الخدمات العامة والحماية الاجتماعية 

لا بدّ من إدماج مؤسسات حزب الله المدنية والخدمية في إطار الدولة، عبر مسار تدريجي ومنظّم. تبدأ الخطوة الأولى بعمل مؤسسات الدولة على تحسين جودة الخدمات الأساسية وتعزيز المساءلة والرقابة، بما يجعل أداءها أقرب إلى ما قدّمه حزب الله على مدى عقود. وفي المرحلة الأولى من هذا التكامل تبقى مؤسسات الحزب المدنية قائمة بمهامها تفادياً لأي اضطراب اقتصادي أو اجتماعي. ومع تطوّر قدرات مؤسسات الدولة، ينبغي إخضاع هذه البُنى لآليات التنظيم الوطني، بما يضمن توحيد المعايير على مستوى البلاد ويُعزّز التماسك الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع. ولإنجاح هذا المسار، يجب التركيز على الجوانب التالية: 

  • منع البيروقراطيات الموازية: يجب أن تتم عملية نقل مؤسسات حزب الله إلى الإطار القانوني للدولة اللبنانية لمنع تشكّل شبكات خدماتية شبه مستقلة تتجاوز سلطة الدولة. 
  • تفادي التمييز الطائفي في تقديم الخدمات العامة: لا بد من الحرص أن تظلّ موارد الدولة وخدماتها متاحة لجميع المواطنين من دون تكريس جيوب طائفية أو اقتصادية مغلقة تُهدّد مبدأ العدالة والتكافؤ بين المواطنين. 

التنوّع الاقتصادي وتنمية القطاع الخاص 

يجب توفير بدائل اقتصادية ومعيشية فعّالة ومستدامة لأفراد حزب الله الذين لن يُدمجوا في القوات المسلحة اللبنانية أو الأجهزة الأمنية. ومن الأساسي في هذا الصدد تنمية المجتمع المحلي وتحفيز الاستثمار في مشاريع اقتصادية قادرة على استيعاب هذه الفئة من القوى العاملة، لضمان إعادة إدماج سلسة وتعزيز الاستقرار على المدى الطويل. وتشمل الأولويات الأساسية ما يلي: 

  • تشجيع الاستثمار الخليجي والغربي في مشاريع البنية التحتية: يمكن للاستثمار الأجنبي في القطاعات كثيفة العمالة (مثل إعادة الإعمار وتوسيع مشاريع البنى التحتية وتطوير قطاع الطاقة) أن يوفّر فرص عمل واسعة النطاق للمنفصلين عن الهياكل الأمنية السابقة. 
  • تحفيز بيئة الاستثمار المحلية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة: يجب أن تتبنى السياسات الحكومية حوافز فعّالة تشجع اللبنانيين على إعادة توجيه رؤوس أموالهم نحو دعم هذا القطاع، بما يشمل إعفاءات ضريبية ودعماً مباشراً لروّاد الأعمال، مع إعطاء اهتمام خاص للمناطق المهمشة تاريخياً. 
  • تطوير برامج تدريب مهني موجّهة: يجب إنشاء برامج تدريبية متخصصة لإعادة تأهيل الأفراد المنتقلين من الأدوار العسكرية والأمنية إلى سوق العمل المدني، بما يتماشى مع متطلبات الموارد البشرية الفعلية في القطاعات الإنتاجية والخدمية. 

إعادة التموضع السياسي في ظل المصالحة الوطنية 

تتطلّب إعادة تموضع حزب الله من دوره العسكري توفير مسار واقعي يُمكّنه من التحوّل إلى كيان سياسي أولاً وأساساً. ومن هنا ينبغي أن تجري العملية الانتقالية ضمن إطار المصالحة الوطنية، بما يضمن لحزب الله وللطائفة الشيعية عموماً الاحتفاظ بتمثيل سياسي ملائم داخل النظام الديمقراطي اللبناني توازياً مع تخلي الحزب عن دوره العسكري. ولتحقيق ذلك لا بدّ من اتخاذ بعض الخطوات الأساسية، منها ما يلي: 

  • مواءمة التحول السياسي والأمني لحزب الله: نظراً للحضور السياسي الراسخ لحزب الله، يجب أن تضمن العملية الانتقالية دمج العناصر العسكرية ذات الصلة ضمن مؤسسات الدولة في إطار الركيزة الأولى، مع بقاء الجهاز السياسي للحزب فاعلاً ضمن النظام الديمقراطي اللبناني. ويُفترض أن تُبنى هذه العملية بشكل يعيد تأكيد دور الحزب كفاعل سياسي، ويحول دون نشوء أي بُنى أمنية موازية خارج سلطة الدولة. 
  • منع التهميش السياسي: من الضروري تجنّب تقديم الانتقال العسكري أو تأطيره كمحاولة لإضعاف التمثيل السياسي الشيعي. يجب أن تُطرح هذه العملية ضمن خطاب يؤكّد الانتماء للدولة والمصالحة الوطنية باعتبارها إعادة صياغة للبنية الأمنية الوطنية بما يخدم جميع اللبنانيين. وفي حال ترسخت لدى الرأي العام قناعة بأن هذا المسار هو مناورة سياسية صفريّة من قبل خصوم الحزب، فإن ذلك سيؤدي على الأرجح إلى جمود سياسي وعرقلة مسار التحول بشكل كامل. 
  • تعويض النفوذ السياسي للسلاح عبر التنمية الاقتصادية: شكّل سلاح حزب الله لعقود وسيلة الطائفة الشيعية (وخاصة في المناطق المهمشة كجنوب لبنان والبقاع) لفرض حضورها في السياسات العامة. ورغم ضرورة إنهاء الفيتو السياسي الضمني الذي كرّسه هذا السلاح، إلا أن تعويضه يتطلّب إطلاق مشاريع تنموية واستثمارات فاعلة في تلك المناطق بما قد يُقلّص شعور المجتمعات بالتهميش جرّاء تسليم السلاح إلى الدولة. ودون هذا التعويض قد يواجه التحول العسكري مقاومة واسعة النطاق. 
  • إصلاح نظام التمثيل السياسي الطائفي: لا بدّ من الشروع في إصلاحات انتخابية ومؤسسية تضمن عدم شعور أي من المكونات الطائفية بالاستبعاد أو التمثيل غير العادل في نظام تقاسم السلطة. هذه العملية ستكون طويلة وصعبة، وتندرج ضمن مظلة المصالحة الوطنية، ولا ينبغي أن يُعلَّق عليها شرط مسبق لنجاح التحول العسكري. مع ذلك فإن إحراز تقدم فعلي في هذا المجال سيعزز مصداقية مسار الانتقال، ما يستوجب متابعته بجدية من قبل القادة المحليين ودعماً دولياً فعّالاً. 
  • ضمانات دولية لدعم المصداقية المحلية: من الضروري تلقّي ضمانات دولية ملموسة وقابلة للتنفيذ تدعم قدرة الجيش اللبناني على ردع الاعتداءات الإسرائيلية، بما يعزز مصداقية العملية السياسية المرتبطة بالتحول العسكري. ويجب أن تكون هذه الضمانات ملزمة وطويلة الأمد، بما يضمن استمراريتها خارج التقلبات السياسية المرحليّة.

حلّ الأزمة المالية في لبنان: ضرورة موازية 

لا يمكن لأي استراتيجية ذات مصداقية لدمج مؤسسات حزب الله العسكرية والاجتماعية ضمن سلطة الدولة أن تتجاهل أزمة أخرى عميقة تعصف بلبنان وهي انهيار القطاع المالي والمصرفي الناتج عن التداخل البنيوي بين الطائفية السياسية والمصالح المالية الضيقة. فأسلحة حزب الله تمثل وجهاً واحداً من أزمتين متداخلتين تعاني منهما البلاد: الازدواجية العسكرية من جهة، والازدواجية الاقتصادية من جهة أخرى، حيث طغت مصالح النخب المصرفية والسياسية المحدودة على الصالح العام ما أفقد الدولة شرعيتها واستمراريتها مالياً. 

ومعالجة هذه الكارثة المالية ليست إجراءً ثانوياً أو مساعد، بل هي ركيزة استراتيجية لا مهرب منها. وكما يتطلّب التقدّم الفعلي في ملف دمج حزب الله إعادة تموضع للمصالح والتحالفات السياسية، فإن معالجة الانهيار المالي المدفوع بمنظومة مصرفية مأزومة تستدعي مواجهة مباشرة مع قوى مالية وسياسية مستفيدة من الوضع القائم. ومن هنا، فإن تنفيذ برنامج استقرار مالي مدعوم من صندوق النقد الدولي، وفرض رقابة تنظيمية فعالة، واعتماد إصلاحات بنيوية—منها إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحقيق الشفافية في إدارة المالية العامة، وإصلاح المؤسسات العامة—هي خطوات لا تقتصر على البعد الاقتصادي، بل تُعدّ تحوّلات سياسية عميقة. 

إن استعادة التماسك المؤسسي، والتعافي الاقتصادي، واسترجاع السيادة الوطنية في لبنان، تقتضي التقدّم في مسار مزدوج يجمع بين دمج حزب الله من جهة، ومواجهة منظومة النهب المصرفي العلني من جهة أخرى.

إن العلاقة بين دمج حزب الله العسكري والاستقرار المالي ليست علاقة تقنية فحسب، بل استراتيجية ورمزية في آن واحد: إذ يعزّز كل مسارٍ مصداقية الآخر، ويمهّد لنجاحه. وإذا تمكّن لبنان من تحقيق تقدّم ملموس في معالجة واحدة من الأزمتين، فستتعزّز تلقائيًا الثقة الشعبية والزخم السياسي لمعالجة الأخرى. بالتالي فإن كلا المسارين يشكّلان وجهين لفشل سياسي واحد: العجز عن إخضاع المصالح الطائفية أو النخبوية المحدودة لأولويات وطنية أشمل. إن استعادة التماسك المؤسسي، والتعافي الاقتصادي، واسترجاع السيادة الوطنية في لبنان، تقتضي التقدّم في مسار مزدوج يجمع بين دمج حزب الله من جهة، ومواجهة منظومة النهب المصرفي العلني من جهة أخرى. 

 

آفاق المرحلة المقبلة 

حزب الله لم ينشأ من فراغ، بل تأسّس كردّ فعل على العدوان الإسرائيلي والاحتلال العسكري لجنوب لبنان، وتطوّر تدريجياً إلى قوة سياسية وعسكرية واجتماعية مؤثّرة. وعلى مدى سنين سمح له تحالفه مع إيران ونفوذه السياسي المتصاعد بكثير من احتكار السلطة داخل الدولة. وهذا واقع بطبيعته غير قابل للاستدامة وكاد يهدّد بإعادة إشعال النزاع الأهلي. إلا أن الصراع الأخير مع إسرائيل وسقوط نظام الأسد، إلى جانب تحوّلات أخرى، أعادت رسم المشهد المرتبط بسلاح حزب الله وفتحت نافذة أمام لبنان لمعالجة واحدة من أكثر القضايا استعصاءً منذ نهاية الحرب الأهلية.

فمن خلال إدماج القدرات العسكرية لحزب الله ضمن الجيش اللبناني… يمكن للدولة أن تبدأ برأب الانقسامات المتجذّرة.

ما يواجهه لبنان اليوم ليس مجرّد تحدٍّ، بل هو فرصة لاتخاذ القرار. فمن خلال إدماج القدرات العسكرية لحزب الله ضمن الجيش اللبناني وربط شبكاته الاجتماعية بمؤسساتالدولة المنظمة، واحتواء نفوذه السياسي ضمن نظام حوكمة مُعاد إصلاحه، يمكن للدولة أن تبدأ برأب الانقسامات المتجذّرة وتقديم الخدمات الضرورية لجميع المواطنين، بما يشمل الحاضنة الاجتماعية للحزب. 

من المُسلَّم به اليوم أن لا الدولة اللبنانية ولا حزب الله مستعدان بالكامل لإعادة هيكلة مسائل بهذا العمق، ولا يمكن محو إرث البنى الموازية للدولة بين ليلة وضحاها. ومع ذلك يقدّم الزخم الحالي الفرصة الأرجح منذ عقود لكسر حلقة الجمود الإيديولوجي حول نزع السلاح. أما البديل لذلك، أي العودة إلى المواقف المتصلّبة والنقاشات العقيمة، فلن يؤدي سوى إلى المزيد من الصراع والركود السياسي على المستوى الوطني. ومع تغيّر الديناميكيات الإقليمية اليوم بات الإبقاء على الوضع الراهن أمراً غير وارد. بالتالي فإن المضي في خطة انتقالية عسكرية متكاملة ترتكز على براغماتية سياسية ودقّة تنفيذية، قد يكون مساراً صعباً وطويلاً لكنه المسار الأجدى لتحقيق السلام المستدام واستعادة السيادة الوطنية. 

ملاحظة المحرّر: نتوجّه بالشكر إلى قسم نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) في إدارة عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة (DPO) على دعمهم التقني، كما تعبّر عن امتنانها لجميع المحلّلين والخبراء المتخصصين الذين ساهموا في إعداد هذا التقرير 

المواضيع ذات الصلة