الركيزة الأولى: الدفاع عن لبنان
استراتيجية دفاع وطني جديدة
لطالما شكّلت القيود الهيكلية أحد أبرز العوامل التي قوّضت قدرة لبنان على بناء إطار أمني موحّد. فالجيش اللبناني رغم كونه المؤسسة العسكرية الوطنية الرسمية، لا يزال يعاني من نقص مزمن في التمويل وإرهاق عملياتي متراكم وافتقار إلى قدرات متقدّمة لمواجهة التهديدات المستجدة، إلى جانب ضعف في التفويض. كما أن اعتماد الجيش على التمويل الخارجي خصوصاً من الولايات المتحدة وفرنسا وبعض دول الخليج يُقيّده سياسياً ومالياً. ولا يمتلك الجيش في وضعه الحالي الجهوزية الكافية لاستيعاب عناصر حزب الله ومعدّاته، ولا لتقديم بديل موثوق لدور الحزب في الردع العسكري.
يشكّل تطوير استراتيجية دفاع وطني متماسكة وقوية حجر الأساس في أي انتقال عسكري لحزب الله. ويقتضي إعادة تموضع استراتيجي للسياسة الدفاعية الوطنية والانتقال من نموذج الردع غير المتكافئ الذي يعتمده الحزب إلى نموذج دفاع تقوده الدولة، بما يتيح جذب اهتمام الفاعلين الدبلوماسيين لضمان دعم عسكري مستدام. وتشمل الخطوات الأساسية ما يلي:
- قوننة العقيدة الأمنية في لبنان: على الحكومة أن تضع عقيدة أمنية رسمية تُكرّس الجيش اللبناني كالقوة العسكرية الوحيدة المسؤولة عن الدفاع الوطني، مع دمج مهام دفاعية كانت سابقًا تحت إدارة حزب الله.
- ترقية القدرات الدفاعية الجوية والصاروخية: لا بدّ من تزويد الجيش اللبناني بأنظمة متقدّمة للدفاع الجوي، وبنى تحتية للرصد والمراقبة، وقدرات ردع دقيقة لمواجهة التهديدات الإسرائيلية. ويشمل ذلك إقامة شراكات دفاعية مع حلفاء إقليميين وغربيين أو أطراف دولية ناشئة. هذه الخطوة حيوية لتعزيز قدرة الردع في جنوب لبنان.
- تعزيز انتشار الجيش اللبناني على الحدود: وهذا يتطلّب انتشاراً موسّعاً للقوات المسلحة جنوب نهر الليطاني، بما يضمن انتقال مسؤوليات الأمن التي كانت بعهدة حزب الله إلى مؤسسات الدولة. ويجب أن تدعم هذه العملية آليات لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع اليونيفيل وسائر الجهات الدولية المعنية (مثل آلية مراقبة وقف إطلاق النار التي ترأسها الولايات المتحدة وفرنسا) كما يجب تعزيز الدوريات على الحدود الشرقية والشمالية مع سوريا.
الشرط المسبق: إصلاح الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية
قبل المضي في دمج عناصر حزب الله ضمن مؤسسات الدولة، يجب أن يخضع الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية لإصلاحات هيكلية عميقة، تهدف إلى رفع الكفاءة، وتعزيز هياكل القيادة، وإغلاق الثغرات التي يمكن استغلالها خلال المرحلة الانتقالية. وتُعدّ هذه الإصلاحات ضرورية لتمكين المؤسسات من استيعاب العناصر دون المسّ بشرعية الدولة أو سيادتها. والأهم، يجب أن تضمن الإصلاحات ألا يُفضي التكامل إلى نشوء شبكة نفوذ موازية لحزب الله داخل المؤسسات الأمنية. تشمل هذه الإصلاحات:
- الإصلاح والتحديث: على الجيش والأجهزة الأمنية إطلاق عملية إصلاح داخلي طموحة تركّز على الفعالية العملياتية والتطوّر التكنولوجي والاستدامة المالية. يشمل ذلك إعادة هيكلة الإنفاق غير المتوازن والمُثقَل برواتب الموظفين، عبر ترشيد عدد العناصر وإعادة تنظيم أنظمة التقاعد، وتوجيه الموارد نحو تحديث التجهيزات والبنية التحتية. والشروط الأساسية لهذه العملية هي الشفافية المالية والرقابة المدنية والتحوّل الاستراتيجي نحو القدرات التكيّفية مع التهديدات المستجدّة. ويجب أن تتماشى هذه التحوّلات مع أولويات الجهات المانحة لضمان استمرار الدعم، وتأسيس جيش حديث قادر على تولّي المهام الأمنية التي كان يحتكرها حزب الله سابقاً.
- تعزيز القيادة والسيطرة: على الجيش وسائر الأجهزة الأمنية تعزيز العقيدة العسكرية المركزية لضمان الانضباط للتسلسل القياديّ ومنع التشرذم. كما يسهم ذلك في ترسيخ المهنية والانضباط على مختلف المستويات.
- إصلاح إدارة الموارد الأمنية: على جميع المؤسسات الأمنية اعتماد آليات شفافة وخاضعة للمساءلة لإدارة الموارد البشرية والمالية بما يتماشى مع الأولويات الاستراتيجية. فإن الميزانيات تُستنزف اليوم بفعل المحاصصة الطائفية، ويجعل هذه المؤسسات أدوات للزبائنية في التوظيف في القطاع العام. لا بدّ من كسر هذا النمط والتركيز على الكفاءة التشغيلية. ورغم أن التغييرات السريعة قد تصطدم بضوابط دستورية تقيّد المناصب العليا وبممارسات راسخة تاريخياً، لكن ما يزال هناك مجال واسع للإصلاح يكمن في تحييد العناصر التي عُيّنت ضمن نظام المحاصصة بشكل تدريجي واستبدالها بأخرى شابّة ووفق معايير الكفاءة. بمرور الوقت فإن هذا التحول قد يعزّز كفاءة الأداء ويحدّ من الهدر، ويُعيد توجيه المؤسسات الأمنية نحو وظيفتها الجوهرية: أي حماية السيادة الوطنية والاستقرار الداخلي.
التكامل العسكري والأمني الموازي
يجب أن يتمّ الدمج العسكري لحزب الله تحت قيادة الجيش اللبناني بالتوازي مع إصلاح شامل لقطاع الأمن في لبنان، على أن يشمل أيضاً دمج شبكاته الأمنية المحلية ضمن المؤسسات الوطنية. ومع تزايد دور الدولة في إنفاذ القانون والدفاع الوطني، تعزز هذه العملية موقعها كضامن للنظام والاستقرار الاجتماعي، وتدعم مسار المصالحة الوطنية بشكله الأوسع. وترتكز عملية التكامل على المبادئ التالية:
- التعاون لمنع الفراغات الأمنية وانتشار الجماعات المسلحة غير النظامية: يتطلب التكامل العسكري والأمني تنسيقاً فعّالاً بين مؤسسات الدولة ونظيراتها في حزب الله لتفادي الفراغ الأمني خلال المرحلة الانتقالية. وأمنياً يمكن للدوريات والعمليات المشتركة أن تلعب دوراً فورياً في الحفاظ على الاستقرار. أما على الصعيد العسكري، فمن الضروري إنشاء آليات لتبادل المعلومات، مثل غرف العمليات المشتركة التي تشرف على كل مرحلة من مراحل التكامل، وتضمن اتساقها مع استراتيجية الدفاع الوطني. ويُفترض أن تظل جميع الأطراف يقظة لمنع نشوء هياكل أمنية بديلة أو جماعات مسلّحة جديدة تسعى إلى ملء الفراغ بعد انسحاب حزب الله.
- التكامل الانتقائي للعناصر: يجب أن يتم استيعاب عناصر حزب الله ضمن الأجهزة العسكرية والأمنية للدولة بشكل فردي وانتقائي، لا جماعي، تجنّباً لنشوء تكتلات داخل مؤسسات الدولة. وتتطلّب عملية التدقيق هذه التمييز بين المحاربين القدامى المرتبطين أيديولوجياً بالحزب، والمجندين الأحدث ممن لديهم قابلية أكبر للاندماج المؤسسي ضمن الدولة إذا توافرت الحوافز المناسبة. يعتمَد اختيار العناصر على أساس الجدارة دعماً للفعالية المؤسسية وللحدّ من التضخم الوظيفي. وتشمل إعادة التدريب برامج مخصصة لتعزيز الانتماء الوطني، وتشكيل وعي مؤسسي جديد. كما يُراعى في توزيع هؤلاء الأفراد عبر وحدات الجيش تفادي أي اختلالات طائفية في تشكيل الوحدات.
- جمع الأسلحة والإشراف عليها: يجب تنفيذ آلية تدريجية وخاضعة للرقابة لتسليم أسلحة حزب الله، تشمل تسجيل وتخزين الأسلحة غير المصرّح بها، ثم التخلص منها أو إدماجها ضمن ترسانة الجيش اللبناني بحسب ما يتوافق مع إصلاحات القطاع الأمني وأهداف استراتيجية الدفاع الوطنية.
- دعم الانتقال المهني لمن لم يُدمَج: أما العناصر التي لن تُدمج في المؤسسات العسكرية، فيجب أن توفَّر لها بدائل مدنية مناسبة سواء من خلال إدماجها في القطاع العام أو تقديم تعويضات مالية، أو المساعدة في إيجاد وظائف ضمن القطاع الخاص (راجع الركيزة الثانية أدناه). وهذه الإجراءات ضرورية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والحد من تداعيات اقتصادية محتملة على أفراد اعتمدوا لسنوات على منظومة حزب الله كمصدر رزق رئيسي.
الدبلوماسية والضمانات الأمنية الدولية
تُشكّل الضمانات الأمنية الدولية الجادة ضد الاعتداءات الإسرائيلية عنصراً أساسياً لدعم نجاح استراتيجية الدفاع الوطنية ولقدرة الجيش اللبناني على أن يحلّ محل حزب الله كحامٍ للسيادة اللبنانية في الجنوب. من دون إدراج هذه الضمانات الدولية ذات المصداقية ضمن الإطار الدفاعي الوطني، سيبقى من الصعب، سياسيًا، إقناع قاعدة حزب الله بالتخلّي عن الدور العسكري الذي يضطلع به. وعليه، إلى جانب الإصلاحات الداخلية، لا بدّ للبنان من التفاوض على ضمانات أمنية دولية مُلزِمة تضمن حماية سلامة أراضيه. وهذه الضمانات يمكن أن تُشكّل بديلاً عن المبرّر الذي يستند إليه حزب الله للاحتفاظ بجناحه المسلّح، وتضمن في الوقت ذاته للبنان دعماً عسكرياً واقتصادياً يمكن الاعتماد عليه. وتشمل الخطوات المقترحة ما يلي:
- تأمين اتفاقيات دفاع ثنائية ومتعددة الأطراف: على لبنان مع شركاءه الأمنيين والاقتصاديين الأساسيين مثل فرنسا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية أو غيرها، توقيع اتفاقيات تعاون متبادل تشمل آليات عسكرية وغير عسكرية لردع الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية.
- إنشاء إطار دبلوماسي: من الضروري تطوير آليات تُسرّع التدخّل الدبلوماسي في حال تجدّد النزاع مع إسرائيل، بما يُشكّل عامل ردع إضافي للجوء إلى القوة العسكرية.
- توسيع برامج المساعدات العسكرية: على الأطراف المعنية باستقرار المنطقة توسيع برامج الدعم العسكري واتفاقيات التوريد الدفاعي مع الجيش اللبناني، بما يُتيح له تطوير قدراته العملياتية ومأسستها.
- موازنة الضغوط الإقليمية: نظراً لطبيعة العلاقات الاستراتيجية التي تربط إيران بحزب الله، لا بدّ لأي مسار انتقالي أن يتفادى إثارة توتّرات إقليمية إضافية. يتطلّب ذلك مقاربة دبلوماسية حذرة ومساعٍ لحشد دعم الفاعلين الإقليميين في إطار أمني يقوم على مبدأ “دولة واحدة، جيش واحد” في لبنان. وفي حال رفضت بعض هذه الأطراف هذا الإطار يجب الاستمرار في الانخراط الدبلوماسي رفيع المستوى للتقليل من أي دور معرقل لجهود إعادة الاستقرار.
الركيزة الثانية: التكامل غير العسكري والإصلاح
تندمج الأجنحة العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لحزب الله ضمن سرديّة المقاومة وهيكلها التنظيمي الشامل، ما يجعل أي تغيير جوهري في تموضعه العسكري (مثل اندماجه في الجيش اللبناني) غير قابل للتحقيق دون معالجة المنظومة الأوسع التي كرّست حضوره داخل قاعدته المجتمعية. لذلك يجب أن تُدار عملية الانتقال باعتبارها هيكلاً مرحلياً يمتد لسنوات ويتضمن مسارين متوازيين: واحد عسكري والآخر غير عسكري. ومن الضروري أن يُفضي المسار غير العسكري إلى جعل الدولة اللبنانية المزوّد الأساسي للخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية للطائفة الشيعية، على أن تصبح المؤسسات التشريعية والقضائية للدولة مسارات فعلية تمكّن المجتمعات الشيعية من الوصول إلى حقوقها السياسية والقانونية.
ففي ظل غياب دور مؤسسات الدولة وآليات المحاسبة، وفّر حزب الله على مدى عقود بنية اجتماعية واقتصادية واسعة سدّت فجوات خدمية عانت منها المجتمعات المهمشة في لبنان. إذاً لا يجب أن يكون هدف العملية الانتقالية هو تفكيك الدور الاجتماعي للحزب، بل إدماج آلياته الخدمية الفعّالة ضمن دولة لبنانية تخضع للإصلاح على أن تعمل هذه المؤسسات تحت إشراف الدولة لا بمعزل عنها. ويجب أن تحقق هذه العملية التوازن الدقيق بين التنظيم المؤسسي والاستقرار الاقتصادي والدعم الدولي، بما يتيح لحزب الله أن يساهم عبر أدواره الاجتماعية في بناء الدولة بدلاً من العمل خارجها.
الاستفادة من فعاليّة الخدمات الاجتماعية لحزب الله
نجح حزب الله في بناء شبكة خدمات اجتماعية فعّالة واسعة الامتداد في مجالات عجزت الدولة عن تلبيتها. فشبكاته في الرعاية الصحية والتعليم والإعمار والمساعدات المالية سدّت فجوات كبرى لدى شرائح لطالما عانت من التهميش. وعوضاً عن التفريط بهذه الخبرات، على الدولة العمل على إدماج المؤسسات المرتبطة بالحزب ضمن المنظومة الوطنية مع إخضاعها للرقابة التنظيمية، ودون الإضرار بفاعليتها التشغيلية. ويشمل ذلك الخطوات الأساسية التالية:
- إضفاء الطابع الرسمي على المؤسسات الاجتماعية التابعة لحزب الله: يجب تسجيل المنظمات التي تقدم خدمات صحية وتعليمية واجتماعية كمؤسسات غير حكومية أو مزوّدي خدمات عامّة، بما يضمن امتثالها للقوانين الوطنية وآليات الرقابة.
- دمج المؤسسات الماليّة ضمن الأطر النظامية: يجب أن تخضع مؤسسات مثل “القرض الحسن” والتي تعمل بحكم الواقع كمصارف، لإشراف مصرف لبنان، وأن تلتزم بالأنظمة المالية المعمول بها بما يعزز الشفافية والاستقرار المالي العام.
- إعادة توجيه برامج المساعدة نحو مظلّة الدولة: يجب أن تتحول شبكات المساعدات الاجتماعية التابعة لحزب الله إلى برامج حماية اجتماعية ترعاها الدولة، بما يضمن وصول الدعم إلى جميع المواطنين على قاعدة الإنصاف لا الانتماء السياسي أو الطائفي.
التكامل بين الخدمات العامة والحماية الاجتماعية
لا بدّ من إدماج مؤسسات حزب الله المدنية والخدمية في إطار الدولة، عبر مسار تدريجي ومنظّم. تبدأ الخطوة الأولى بعمل مؤسسات الدولة على تحسين جودة الخدمات الأساسية وتعزيز المساءلة والرقابة، بما يجعل أداءها أقرب إلى ما قدّمه حزب الله على مدى عقود. وفي المرحلة الأولى من هذا التكامل تبقى مؤسسات الحزب المدنية قائمة بمهامها تفادياً لأي اضطراب اقتصادي أو اجتماعي. ومع تطوّر قدرات مؤسسات الدولة، ينبغي إخضاع هذه البُنى لآليات التنظيم الوطني، بما يضمن توحيد المعايير على مستوى البلاد ويُعزّز التماسك الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع. ولإنجاح هذا المسار، يجب التركيز على الجوانب التالية:
- منع البيروقراطيات الموازية: يجب أن تتم عملية نقل مؤسسات حزب الله إلى الإطار القانوني للدولة اللبنانية لمنع تشكّل شبكات خدماتية شبه مستقلة تتجاوز سلطة الدولة.
- تفادي التمييز الطائفي في تقديم الخدمات العامة: لا بد من الحرص أن تظلّ موارد الدولة وخدماتها متاحة لجميع المواطنين من دون تكريس جيوب طائفية أو اقتصادية مغلقة تُهدّد مبدأ العدالة والتكافؤ بين المواطنين.
التنوّع الاقتصادي وتنمية القطاع الخاص
يجب توفير بدائل اقتصادية ومعيشية فعّالة ومستدامة لأفراد حزب الله الذين لن يُدمجوا في القوات المسلحة اللبنانية أو الأجهزة الأمنية. ومن الأساسي في هذا الصدد تنمية المجتمع المحلي وتحفيز الاستثمار في مشاريع اقتصادية قادرة على استيعاب هذه الفئة من القوى العاملة، لضمان إعادة إدماج سلسة وتعزيز الاستقرار على المدى الطويل. وتشمل الأولويات الأساسية ما يلي:
- تشجيع الاستثمار الخليجي والغربي في مشاريع البنية التحتية: يمكن للاستثمار الأجنبي في القطاعات كثيفة العمالة (مثل إعادة الإعمار وتوسيع مشاريع البنى التحتية وتطوير قطاع الطاقة) أن يوفّر فرص عمل واسعة النطاق للمنفصلين عن الهياكل الأمنية السابقة.
- تحفيز بيئة الاستثمار المحلية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة: يجب أن تتبنى السياسات الحكومية حوافز فعّالة تشجع اللبنانيين على إعادة توجيه رؤوس أموالهم نحو دعم هذا القطاع، بما يشمل إعفاءات ضريبية ودعماً مباشراً لروّاد الأعمال، مع إعطاء اهتمام خاص للمناطق المهمشة تاريخياً.
- تطوير برامج تدريب مهني موجّهة: يجب إنشاء برامج تدريبية متخصصة لإعادة تأهيل الأفراد المنتقلين من الأدوار العسكرية والأمنية إلى سوق العمل المدني، بما يتماشى مع متطلبات الموارد البشرية الفعلية في القطاعات الإنتاجية والخدمية.
إعادة التموضع السياسي في ظل المصالحة الوطنية
تتطلّب إعادة تموضع حزب الله من دوره العسكري توفير مسار واقعي يُمكّنه من التحوّل إلى كيان سياسي أولاً وأساساً. ومن هنا ينبغي أن تجري العملية الانتقالية ضمن إطار المصالحة الوطنية، بما يضمن لحزب الله وللطائفة الشيعية عموماً الاحتفاظ بتمثيل سياسي ملائم داخل النظام الديمقراطي اللبناني توازياً مع تخلي الحزب عن دوره العسكري. ولتحقيق ذلك لا بدّ من اتخاذ بعض الخطوات الأساسية، منها ما يلي:
- مواءمة التحول السياسي والأمني لحزب الله: نظراً للحضور السياسي الراسخ لحزب الله، يجب أن تضمن العملية الانتقالية دمج العناصر العسكرية ذات الصلة ضمن مؤسسات الدولة في إطار الركيزة الأولى، مع بقاء الجهاز السياسي للحزب فاعلاً ضمن النظام الديمقراطي اللبناني. ويُفترض أن تُبنى هذه العملية بشكل يعيد تأكيد دور الحزب كفاعل سياسي، ويحول دون نشوء أي بُنى أمنية موازية خارج سلطة الدولة.
- منع التهميش السياسي: من الضروري تجنّب تقديم الانتقال العسكري أو تأطيره كمحاولة لإضعاف التمثيل السياسي الشيعي. يجب أن تُطرح هذه العملية ضمن خطاب يؤكّد الانتماء للدولة والمصالحة الوطنية باعتبارها إعادة صياغة للبنية الأمنية الوطنية بما يخدم جميع اللبنانيين. وفي حال ترسخت لدى الرأي العام قناعة بأن هذا المسار هو مناورة سياسية صفريّة من قبل خصوم الحزب، فإن ذلك سيؤدي على الأرجح إلى جمود سياسي وعرقلة مسار التحول بشكل كامل.
- تعويض النفوذ السياسي للسلاح عبر التنمية الاقتصادية: شكّل سلاح حزب الله لعقود وسيلة الطائفة الشيعية (وخاصة في المناطق المهمشة كجنوب لبنان والبقاع) لفرض حضورها في السياسات العامة. ورغم ضرورة إنهاء الفيتو السياسي الضمني الذي كرّسه هذا السلاح، إلا أن تعويضه يتطلّب إطلاق مشاريع تنموية واستثمارات فاعلة في تلك المناطق بما قد يُقلّص شعور المجتمعات بالتهميش جرّاء تسليم السلاح إلى الدولة. ودون هذا التعويض قد يواجه التحول العسكري مقاومة واسعة النطاق.
- إصلاح نظام التمثيل السياسي الطائفي: لا بدّ من الشروع في إصلاحات انتخابية ومؤسسية تضمن عدم شعور أي من المكونات الطائفية بالاستبعاد أو التمثيل غير العادل في نظام تقاسم السلطة. هذه العملية ستكون طويلة وصعبة، وتندرج ضمن مظلة المصالحة الوطنية، ولا ينبغي أن يُعلَّق عليها شرط مسبق لنجاح التحول العسكري. مع ذلك فإن إحراز تقدم فعلي في هذا المجال سيعزز مصداقية مسار الانتقال، ما يستوجب متابعته بجدية من قبل القادة المحليين ودعماً دولياً فعّالاً.
- ضمانات دولية لدعم المصداقية المحلية: من الضروري تلقّي ضمانات دولية ملموسة وقابلة للتنفيذ تدعم قدرة الجيش اللبناني على ردع الاعتداءات الإسرائيلية، بما يعزز مصداقية العملية السياسية المرتبطة بالتحول العسكري. ويجب أن تكون هذه الضمانات ملزمة وطويلة الأمد، بما يضمن استمراريتها خارج التقلبات السياسية المرحليّة.
حلّ الأزمة المالية في لبنان: ضرورة موازية
لا يمكن لأي استراتيجية ذات مصداقية لدمج مؤسسات حزب الله العسكرية والاجتماعية ضمن سلطة الدولة أن تتجاهل أزمة أخرى عميقة تعصف بلبنان وهي انهيار القطاع المالي والمصرفي الناتج عن التداخل البنيوي بين الطائفية السياسية والمصالح المالية الضيقة. فأسلحة حزب الله تمثل وجهاً واحداً من أزمتين متداخلتين تعاني منهما البلاد: الازدواجية العسكرية من جهة، والازدواجية الاقتصادية من جهة أخرى، حيث طغت مصالح النخب المصرفية والسياسية المحدودة على الصالح العام ما أفقد الدولة شرعيتها واستمراريتها مالياً.
ومعالجة هذه الكارثة المالية ليست إجراءً ثانوياً أو مساعد، بل هي ركيزة استراتيجية لا مهرب منها. وكما يتطلّب التقدّم الفعلي في ملف دمج حزب الله إعادة تموضع للمصالح والتحالفات السياسية، فإن معالجة الانهيار المالي المدفوع بمنظومة مصرفية مأزومة تستدعي مواجهة مباشرة مع قوى مالية وسياسية مستفيدة من الوضع القائم. ومن هنا، فإن تنفيذ برنامج استقرار مالي مدعوم من صندوق النقد الدولي، وفرض رقابة تنظيمية فعالة، واعتماد إصلاحات بنيوية—منها إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحقيق الشفافية في إدارة المالية العامة، وإصلاح المؤسسات العامة—هي خطوات لا تقتصر على البعد الاقتصادي، بل تُعدّ تحوّلات سياسية عميقة.