تركة الأسد: هل ستنجو سوريا الجديدة من الإرث الاستبدادي؟

ترسل السلطات الحالية في دمشق إشارات متضاربة حول مستقبل البلاد.

16 كانون الأول، 2024

في الأيام الأولى مما يُوصف بأنه “حقبة جديدة” في سوريا تبدو السلطات التي تسيطر الآن على دمشق متأرجحة بين رسائل متناقضة. فهي من جهة تؤكد التزامها بالحفاظ على مؤسسات الدولة السورية واحترام تنوّع سكانها، ومن جهة أخرى تُظهر نواياها لاحتكار عملية التحول السياسي الحساسة، وبالتالي تركيز سلطة الدولة في يدها. 

والطريق الذي ستسلكه هذه السلطات سيحدد ما إذا كانت الأخطاء التي دمرت سوريا الأسد –كما دمرت العراق ولبنان– ستتكرر في هذا “العهد الجديد”. 

قبل دخول قوات هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع –المعروف بأبو محمد الجولاني– إلى دمشق في 8 كانون الأول، تعهدت الهيئة بالحفاظ على الهيكل الرسمي لمؤسسات الدولة. وقد بقي رئيس الوزراء السابق محمد الجلالي في منصبه حتى 10 كانون الأول، مؤدياً دوراً شكلياً على الأقل في تسليم السلطة إلى محمد البشير والذي عُيّن رئيساً للوزراء بشكل مؤقت حتى آذار من العام القادم. 

وقبل ذلك أعلنت هيئة تحرير الشام عن عفو عام لجنود الجيش السوري، في إشارة إلى نيتها الحفاظ على الجيش النظامي باعتباره ركناً أساسياً من أركان الدولة. والحفاظ على وحدة المؤسسة العسكرية خلال الانتقال السياسي أمر محوري لتجنب انهيار الدولة، وهو درس تعلمناه من التجربة الكارثية في العراق عام 2003 التي لا تزال آثارها المدمرة مستمرة حتى اليوم –أي بعد أكثر من عقدين من الزمن. 

ولم تُبدِ سلطات هيئة تحرير الشام –حتى الآن على الأقل– أي نيّة للانخراط في حملة اجتثاث ممنهج ضد حزب البعث كما حدث في العراق، حيث أدى تفكيك مؤسسات الدولة إلى زعزعة استقرارها لعقود عقب سقوط صدّام حسين. ويبدو أن السلطات الجديدة لا تخطط لاستهداف حزب البعث كمؤسسة رغم هيمنته على السلطة في دمشق منذ عام 1963. وقد أعلنت قيادة “الحزب الواحد” السابق عن تعليق أنشطته دون وقفها بالكامل. كما لا يزال الموقع الإلكتروني للحزب يعمل –بل ويعرض صورة لبشار الأسد– فيما لم تتعرض مقراته المركزية والمحلية لأي هجمات ممنهجة كما كان متوقعاً عقب تغيير النظام. 

وفي خطوة إيجابية، أعلن رئيس الوزراء المؤقت محمد البشير أن الحكومة القادمة تعتزم حل الأجهزة الأمنية القمعية التي أرهبت ملايين السوريين منذ الستينيات. كما كشف عن خطط لإلغاء ما يُعرف بـ”قوانين مكافحة الإرهاب” التي فُرضت عام 2012 كنسخة منقحة من القوانين الخاصة التي أضفت الشرعية على المحاكم العسكرية لعقود، واستُخدمت لاستهداف مئات الآلاف من الناشطين والمعارضين. 

هذه خطوات إيجابية لا يمكن إنكارها، ويبدو أن الكثير منها يعكس رغبة حقيقية في بناء سوريا جديدة دون المساس بالركائز الأساسية التي تضمن استمرارها كدولة. كما وإن تعامل السلطات الجديدة مع المواطنين على مستوى البلديات، والتي اتسمت حتى الآن بطابع مدني وليس عسكري، تشير أيضاً إلى توجه بنّاء في إدارة الحكم. 

إلا أن هذه المؤشرات الواعدة تظل مهددة إلى حد كبير بسبب تصريحات وتحركات أخرى من السلطات الجديدة تحمل أصداء الماضي الاستبدادي، مما يثير المخاوف من تكرار الأخطاء التي وقع فيها جيران سوريا خلال مراحل انتقالهم السياسي. 

على سبيل المثال أعلن زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع تعيين البشير، والذي كان سابقاً رئيساً لما تُعرف بـ”حكومة الإنقاذ” في إدلب رئيساً للوزراء دون أي استشارة للقوى السياسية أو الاجتماعية خارج الهيئة. وأثار هذا القرار الأحادي والقائم على العلاقات الداخلية للهيئة القلق من أن أساليب السلطة السابقة التي سادت في عهد سوريا الأسد قد تستمر في ما يُفترض أنه “عهد جديد”. 

ومن التطورات اللافتة الأخرى قرار رفع علم هيئة تحرير الشام –الذي يحمل الشهادة الإسلامية بخط أسود على خلفية بيضاء– خلال الاجتماع الأول للحكومة الجديدة الذي عُقد في مكتب رئيس الوزراء. وبالنسبة لكثيرين كان هذا المشهد يعيد إلى الأذهان كيف كان العلم السوري حتى وقت قريب دائم الاقتران براية حزب البعث. 

أما الأقل إثارة للدهشة (لكنه لا يقل أهمية) هو التناقض الضمني بين تصريحات السلطات الجديدة حول شمولية مشروع بناء الدولة وصمتها المقلق حيال إدماج المجتمعات الكردية السورية. يبدو أن الشرع ودائرته المقربة غير مستعدين لفتح قنوات تواصل مع الأكراد أو دعوتهم للمشاركة في هذا المشروع الوطني، في ظل مفاوضات حساسة تتعلق بتوازنات القوى على طول نهر الفرات. 

تأتي هذه المفاوضات في سياق دعم تركيا لهيئة تحرير الشام من جهة، واستمرار التواجد العسكري الأمريكي في المناطق الكردية من جهة أخرى. علاوة على ذلك فإن أي انفتاح تجاه الأكراد قد يعرض القادة الجدد في دمشق لخطر إغضاب تركيا، التي يُنظر إليها على الأرجح كداعم أساسي لإنجاح مشروع الحكم الناشئ. 

أثار صمت الشرع ورئيس وزرائه الجديد بشأن العلاقات مع إسرائيل استغراب الكثير من السوريين.

ومن ناحية أخرى، كان بإمكان السلطة الجديدة في دمشق اتخاذ موقف أكثر حزماً تجاه عمليات التوغل التي نفذتها إسرائيل في الجنوب الغربي من دمشق، إلى جانب سلسلة الضربات الجوية غير المسبوقة التي استهدفت منشآت الجيش السوري، أي الجيش الذي يدّعي الشرع رغبته في حمايته من الانهيار بعد سقوط الأسد. وقد أثار صمت الشرع ورئيس وزرائه الجديد بشأن العلاقات مع إسرائيل استغراب الكثير من السوريين. ورغم شعورهم بالارتياح بعد “تحرير” البلاد من قبضة نصف قرن من الاستبداد، فإن السوريين ما زالوا متمسكين بشدة بمبادئ الدفاع الوطني والحفاظ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها. 

وفي الوقت نفسه، لم يقدّم القادة العسكريون الذين تولّوا السلطة بعد انهيار نظام الأسد أي إشارات واضحة بشأن مسار العملية الانتقالية التي يرجونها. كما أنهم لم يعترفوا بخارطة الطريق الوحيدة المتوفرة حالياً على طاولة المفاوضات الدولية: أي قرار الأمم المتحدة رقم 2254 لعام 2015. يحدّد هذا القرار مساراً للانتقال السياسي المنظم مع أولويتين أساسيتين: حماية الدولة بمعزل عن النظام، وتجنب إراقة الدماء. وتزداد أهمية هذه الأولويات في ظل الأحداث المقلقة – وإن كانت متوقعة إلى حد ما– من أعمال تصفية حسابات انتقامية ظهرت في شوارع المدن السورية بعد عقود من العنف الممنهج الذي مارسه النظام السابق. 

ورغم أن قرار الأمم المتحدة رقم 2254 صيغ في سياق سياسي وعسكري مختلف كلياً عن الوضع الحالي، فإنه لا يزال يمثل خارطة طريق قيّمة لعملية انتقالية منظمة بقيادة سورية. يدعو القرار إلى تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة تشمل مختلف القوى السياسية السورية، إلى جانب صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية بإشراف الأمم المتحدة في غضون 18 شهراً من بدء المرحلة الانتقالية. كما يضمن القرار حقوق التصويت لجميع السوريين، بمن فيهم اللاجئون والمغتربون. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن النص يستثني صراحة “الجماعات الإرهابية” وهو تصنيف شمل هيئة تحرير الشام وفقاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بعد أقل من ثلاث سنوات من اعتماد القرار. وبذلك قد لا يرى الشرع وحلفاؤه أنفسهم ملزمين بالامتثال لقرار تم التفاوض عليه دون مشاركتهم، وصادر عن أطراف دولية لطالما شيطنتهم. 

الخطر واضح: قد تتحول سوريا تحت حكم هيئة تحرير الشام إلى نسخة مكبّرة عن لبنان.

الضروري اليوم، بدلاً من التسرّع في منح هيئة تحرير الشام اعترافاً رسمياً كشريك شرعي رغم تصنيفها كـ”جماعة إرهابية”، أن تركز الحكومات الغربية على الضغط على حكام دمشق الجدد لبدء عملية انتقال سياسي شاملة وحقيقية تتماشى مع المبادئ المنصوص عليها في القرار 2254. 

ولتحقيق ذلك يجب على المجتمع المدني السوري –سواء داخل البلاد أو في الشتات، بما في ذلك الكيانات التي تعرضت للقمع أو أجبرت على العمل بسرية لفترات طويلة– التحرك بسرعة لخلق مساحات للحوار السياسي والمدني تتجاوز الانقسامات الطائفية. 

الخطر واضح: قد تتحول سوريا تحت حكم هيئة تحرير الشام إلى نسخة مكبّرة عن لبنان، حيث تبدو المؤسسات ديمقراطية وجمهورية في الظاهر لكنها في الواقع تسيطر عليها نخبة ضيّقة تمارس السلطة عبر ولاءات طائفية وزبائنية مدعومة من رعاة أجانب. ولتجنب هذا المصير لا بد أن تكون الأولوية للمساواة في الوصول إلى الخدمات الأساسية والحقوق الأساسية –مثل الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل والإسكان– بطريقة شاملة وعادلة وبعيداً عن الإقصاء والطائفية. 

لن يتمكن السوريون من ضمان مستقبل خالٍ من الإرث المدمر لاستبداد الأسد إلا من خلال تعزيز مفهوم المواطنة الفعّالة وبناء روابط أفقية تتجاوز الانقسامات الطائفية. 

نُشر هذا المقال في الجزيرة الانكليزية. 

المواضيع ذات الصلة