حقول من خراب: الحصاد المحروق للمزارعين اللبنانيين

كيف أثرت الحرب على سلاسل الإمداد الغذائي في لبنان، وما الخطوات المطلوبة للإصلاح؟

19 كانون الأول، 2024

ملخص تنفيذي

اعتاد المزارعون في لبنان الصمود أمام الأزمات العاصفة بهم، إلا أن الصراع الأخير بين إسرائيل وحزب لله ألحق ضرراً يتجاوز فقدان المحاصيل، فقد كشف هشاشة بنيوية في النظام الزراعي اللبناني. إذ تعرضت مناطق زراعية رئيسية في الجنوب وسهل البقاع لضربات عسكرية مدمرة شملت استخدام الفسفور الأبيض، مما أجبر المزارعين على محاولة إنقاذ محاصيلهم تحت القصف. وفي الوقت نفسه تعطلت سلاسل الإمداد وارتفعت تكاليف العمالة بشكل كبير.

لكن الحرب هذه لم تكن السبب الوحيد في خلق الأزمة الحالية. فقد عانى قطاع الأغذية الزراعية في لبنان لسنوات من نقص التمويل والتفاوت في القدرات، مما أدى إلى تهميش صغار المزارعين وإضعاف قدرتهم على التفاوض. أمّا التجار فقد استغلوا الفوضى واشتروا المنتجات بأسعار زهيدة وباعوها بأرباح طائلة، بينما لجأ المزارعون إلى تبادل المحاصيل فيما بينهم لدعم مجتمعاتهم المحلية.

تستعرض هذه الورقة التحليلية أثر الحرب على قطاع الأغذية الزراعية عبر تقييم سريع قائم على مقابلات مع مزارعين وتعاونيات ومنظمات غير حكومية وأصحاب المصلحة في هذا القطاع. ترصد الورقة الاضطرابات المباشرة في الإنتاج والعمالة وسلاسل التوريد، وتسلط الضوء على هشاشة أوضاع صغار المزارعين والعمال غير الرسميين. وتؤكد النتائج على ضرورة جمع البيانات وتحليلها بشكل أكثر شمولاً لفهم التأثير الشامل للحرب على الأمن الغذائي، وتوجيه السياسات نحو حلول أكثر فعالية واستدامة.

يجب تبني إصلاحات جدية لمعالجة جملة التحديات التي يعانيها القطاع الزراعي. فقبل الحرب كانت الزراعة تعاني من نقص مزمن في الاستثمار حيث خصص لها 0.5% فقط من الموازنة الوطنية. ومع ارتفاع المخاطر الآن على صناع القرار اتخاذ خطوات لتحقيق الاستقرار في القطاع تشمل تنظيم الأسواق ودعم صغار ومتوسطي المزارعين وتعزيز القدرة على الصمود من خلال تبني التقنيات الزراعية المستدامة.

وتجاهل هذه التحديات يهدد مستقبل المزارعين الذين يعملون أصلاً ضمن هوامش ربح ضيقة، وقد يؤدي إلى خسارة دائمة في الإنتاجية الزراعية. ومع الأرض المحروقة والبنية التحتية المتضررة والديون المتزايدة، يبدو التعافي بعيد المنال. لكن بتدخل مدروس وسياسات قائمة على الأدلة يمكن للبنان أن يبدأ بإعادة بناء نظامه الغذائي ليصبح أكثر عدالة وصلابة وجاهزية لمواجهة الصدمات المستقبلية. يمثل هذا التقييم دعوة لإجراء بحوث أكثر شمولاً وتنسيقاً لوضع الأساس لقطاع أغذية زراعية أكثر صحة ومرونة.

مقدمة

شهدت الحرب الأخيرة وخاصة التصعيد العسكري الإسرائيلي منذ أيلول وحتى الاتفاق على وقف إطلاق النار في نهاية تشرين الثاني، آثاراً عميقة على سلسلة الإمدادات الغذائية في لبنان. وعلى الرغم من الحاجة الملحة لجمع البيانات وتحليلها بشكل شامل لتقييم التأثير الكامل، فإن هذا التقييم الأولي الذي أجراه “البديل” يمثل خطوة لتوجيه هذه الجهود المستقبلية.

في عام 2022 تم استيراد حوالي 80% من السعرات الحرارية المستهلكة في لبنان، بينما كان الجزء الأكبر من الإنتاج الزراعي موجها للتصدير وغالباً لصالح جهات مرتبطة سياسياً.

يستند التقييم إلى مقابلات مع ستة متخصصين في القطاع يعملون مع مجموعة متنوعة من التعاونيات والائتلافات الزراعية المحلية، وأسواق المزارعين، ومنظمات العدالة البيئية، والمنظمات غير الحكومية المهتمة بالتنمية المستدامة، وشركات الأعمال الزراعية. يوثق التقرير كيف تأثر قطاع الأغذية الزراعية بالتصعيد العسكري وكيف تفاعل معه. كما يبرز التقرير مخاطر استمرار تداعيات الحرب على الأمن الغذائي في غياب تدخلات سياسية عاجلة.

تجدر الإشارة إلى أن لبنان دخل هذا الصراع وهو يعاني أصلًا من اقتصاد زراعي ضعيف الإنتاج. ففي عام 2022 تم استيراد حوالي 80% من السعرات الحرارية المستهلكة في لبنان، بينما كان الجزء الأكبر من الإنتاج الزراعي موجها للتصدير وغالباً لصالح جهات مرتبطة سياسياً. قد تفاقمت هذه التحديات نتيجة نقص التمويل وسوء الإدارة المتكرر للقطاع الزراعي من قبل الحكومات المتعاقبة، حيث لم تتجاوز المخصصات الزراعية 0.5% من إجمالي النفقات في الموازنات المتتالية.

تأثيرات الصراع

تشكل الزراعة جزءاً حيوياً من الاقتصاد المحلي في محافظتي الجنوب والنبطية حيث يقع ما يقرب من ربع مزارع لبنان، وتمثل حوالي 80% من النشاط الاقتصادي المحلي في تلك المناطق، إلا أن الصراع الأخير ألحق أضراراً جسيمة بهذا القطاع. ففي الشهر الأول من الحرب، قامت القوات الإسرائيلية باستخدام الفسفور الأبيض المحظور دولياً، ممّا أدى إلى حرق 40.000 شجرة زيتون. وبحلول تمّوز 2024 أبلغت السلطات اللبنانية عن 175 حادثة استخدمت فيها إسرائيل الفسفور الأبيض استهدفت 17 بلدية جنوبية.

ومع التصعيد العسكري في أيلول 2024 ازدادت صعوبة الوصول والتنقّل. ففي سهل البقاع والذي يمثل أكثر من ثلث الأراضي المزروعة في لبنان، أشار رئيس الشركة الزراعية ناتاغري (Natagri) أن على الرغم من إمكانية الوصول إلى المناطق الغربية من المحافظة، إلا أن “لا أحد يجرؤ” على نقل البضائع في شمالي البقاع، ممّا أدى إلى خسائر كبيرة في الإنتاج مثل محصول العنب الذي يتم حصاده عادةً في الخريف.

ومن التأثيرات الأخرى البارزة كان الارتفاع الكبير في تكاليف العمالة. حيث أشار المزارعون الذين أجريت معهم المقابلات إلى أن أجور العمال ارتفعت من 550 ألف ليرة لبنانية (حوالي 6 دولارات أمريكية) إلى 2 مليون ليرة لبنانية (22 دولاراً أمريكياً تقريباً) مقابل خمس ساعات عمل فقط –أي ما يعادل زيادة بمقدار أربعة أضعاف. كما تدهورت جودة الإنتاج بسبب عدم قدرة العمّال والقائمين على الأعمال الزراعية على الإشراف المباشر والفعال على الحصاد. إذ انصب التركيز على نقل أكبر كمية ممكنة من المنتجات إلى السوق بأسرع وقت لتجنب المزيد من الخسائر مما أثّر سلبياً وبشكل مباشر على الكفاءة التشغيلية للقطاع. واضطر العديد من إلى تنسيق الأعمال الزراعية عن بعد باستخدام الإنترنت وهو أسلوب غير مألوف –وقد يكون غير مناسب– للعمل الزراعي. ومن ناحية أخرى فقد توقّف العديد من العمال المتخصّصين –مثل المهندسين الزراعيين العاملين في الشركات الزراعية– عن العمل تماماً.

اضطرابات سلسلة التوريد

أدى التصعيد العسكري الإسرائيلي إلى تعطيل سلسلة التوريد في لبنان خلال أيام قليلة فقط. وبحلول نهاية أيلول –أي بعد أسبوع واحد فقط من بدء التصعيد– كشف تقييم أجراه برنامج الأغذية العالمي أن المتاجر في الجنوب والبقاع أبلغت عن احتمالية إنقطاع الإمدادات بنسبة 67% في الجنوب و54% في البقاع. وفي وقت لاحق من المحتمل أن معدلات التعطيل اقتربت من 100% في المناطق التي دُمرت فيها قرى وبلدات بأكملها.

في المناطق الأكثر تضرراً من النزاع تشير تقارير إلى أن العديد من المزارعين وشركات الحصاد فضلوا توزيع منتجاتهم على سكان مناطقهم أولاً لدعم مجتمعاتهم المحلية.

وفي المناطق الأكثر تضرراً من النزاع تشير تقارير إلى أن العديد من المزارعين وشركات الحصاد فضلوا توزيع منتجاتهم على سكان مناطقهم أولاً لدعم مجتمعاتهم المحلية. ونتيجة لذلك اضطرت الشركات والتجار إلى تبديل الموردين للعديد من السلع التي كانت تُستورد عادةً من الجنوب والبقاع، متجهين نحو الموردين في المحافظات الشمالية أو من الخارج. إلا هذا التحول لم يكن كافياً لتعويض الخسائر الكبيرة في الإنتاج المحلي. فعلى سبيل المثال كانت محافظة الجنوب مسؤولة عن 94% من إنتاج الموز في لبنان، بينما كان سهل البقاع ينتج 70% من العنب وهما محصولان يصعب الحصول على مصادر بديلة لهما.

وكما أوضحت جنى العيادي رئيسة تعاونية محلية في البقاع: “نريد أن نساعد الناس من المنطقة ونساعد أنفسنا” وأضافت أن جلب المواد الغذائية من خارج المنطقة “مكلف للغاية”. كما أكدت منظمات غير حكومية وأصحاب مصلحة في محافظة بعلبك-الهرمل –والتي تأثرت بشدة بالضربات الإسرائيلية– توجّه مشابه لتركيز المبيعات على الأسواق المحلّية.

وصرّح عمر عباس، وهو مزارع وناشط في سوق بعلبك: “في الفترة الأخيرة، شهدنا دخول البطاطا العكارية إلى بعلبك بشكل قوي جداً”. وأضاف: “بعض المناطق تستطيع العمل بشكل مريح، بينما تواجه أخرى صعوبات كبيرة”. كما أشار إلى وجود منافسة أجنبية متزايدة على المنتجات المحلية اليومية مثل البطاطا.

لم تقتصر اضطرابات سلسلة التوريد على المنتجات الغذائية فقط، بل شملت أيضاً مواد التعبئة والتغليف. مثلاً توقفت الشركات في الجنوب عن تزويد زجاجات تخزين زيت الزيتون، مما اضطر الشركات الزراعية إلى الحصول على حاويات بديلة من أماكن أخرى. كما أثرت التغيرات في الطلب على سلاسل التوريد إذ دفع تدهور الأمن والسلامة الغذائية إلى تحول المستهلكين نحو الإنفاق الأساسي مما تسبب في انخفاض كبير في النزهات والمناسبات الاجتماعية، وأثر سلباً على منتجي النبيذ. ومن جهة أخرى اعتمدت المطاعم والمبادرات المحلية على خيارات بديلة أو أقل جودة للتكيف مع نقص الإمدادات. على سبيل المثال لم تتمكن الشركات من تأمين الزعتر المفضّل من المناطق الجنوبية واضطرت لاستخدام أنواع ذات جودة أدنى.

صرّحت وزارة الزراعة بأن 6000 هكتار من الأراضي الزراعية قد تضررت، وأن ما يصل إلى 65000 شجرة زيتون دُمّرت بالكامل.

الفائزون والخاسرون

تحمّل المزارعون معظم الخسائر المالية التي تكبدها القطاع الزراعي –لا سيما صغار المنتجين. ووفقاً لتقديرات في أوائل تشرين الثاني فإن 60% من المزارعين وجدوا أنفسهم بلا مصادر دخل بينما 80% منهم لم يتمكن من الوصول إلى حقولهم وبساتينهم. كما أدت الحرب إلى تدمير وخسارة مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية وفقدان مئات الأطنان من المحاصيل. وصرّحت وزارة الزراعة بأن 6000 هكتار من الأراضي الزراعية قد تضررت وأن ما يصل إلى 65000 شجرة زيتون دُمّرت بالكامل.

واضطر المزارعون إلى الاعتماد على دعم مالي من أفراد عائلاتهم من أجل البقاء، وإلى تقليل الإنفاق الأسري. وأفاد بعضهم بأنهم اضطروا للتوقف عن دفع الرسوم الدراسية لأطفالهم.

يقول محمد الصلح رئيس منظمة التنمية المستدامة (LACODE): “لم يتكيف المزارعون مع الصراع؛ ومحاصيلهم اليوم ملقاة على الأرض”.

وأضاف رئيس شركة نتاغري (Natagri)، وهي شركة زراعية تعمل في البقاع ومناطق أخرى: “لم يكن الهدف بالنسبة للمزارعين أن نبيع شيئاً، بل مجرّد التخلص مما لدينا”.

تجدر الإشارة إلى أن المزارعين في لبنان لا يحظون باعتراف قانوني كفئة اجتماعية أو اقتصادية ضمن قانون العمل اللبناني أو التشريعات الأخرى. وفي ظل غياب اتحادات أو نقابات تمكنهم من المساومة الجماعية يفتقر المزارعون الأفراد إلى النفوذ الكافي عند التفاوض مع موزعي الجملة الذين يشترون منتجاتهم. وبالنتيجة يعمل المزارعون دون أي حماية اجتماعية أو قانونية رسمية ما يضعهم في موقف ضعف خاصة عند التعامل مع التجار وملاك الأراضي –لا سيما ذوي الانتماءات السياسية.

تقول أنجيلا سعادة المؤسسة المشاركة لمنظمة العدالة البيئية والاجتماعية “جبال” أن المزارعين في لبنان يشعرون بانفصال تام عن سوق الاستهلاك، موضحة: “إنهم لا يدركون سبب تسعير المنتجات أو الكميات التي يمكنهم بيعها.” وأكدت أن إنتاج المزارعين الصغار ينطوي على مخاطر كبيرة، حيث يمكن أن استثمارهم للوقت والمال في زراعة محصول معين دون أي ضمان قدرتهم على بيعه لاحقاً أو بسعر يعوّض التكاليف. تُفاقم هذه الهشاشة من مواضع الضعف الاجتماعي والاقتصادي للعمال السوريين الذين يشكلون غالبية القوة العاملة في القطاع الزراعي اللبناني، ومعظمهم يعمل في إطار غير رسمي بالكامل.

وفي ظل غياب شبه كامل للتنظيم والرقابة من السلطات الرسمية فقد تمكّن التجار من استغلال الوضع لرفع أسعار المنتجات الزراعية.

وبالنظر إلى توازن القوى في هذا القطاع فإن من غير المستغرب أن العديد من تجار الجملة شهدوا زيادة في الإيرادات طوال فترة تصعيد الصراع، باستثناء الذين استُهدفت مصالحهم بشكل مباشر في الضربات الإسرائيلية. فقد كانت الأسواق المحلية والتجار نشطين للغاية خاصةّ في المناطق التي تستضيف عدداً كبيراً من النازحين. يقول عباس وهو مزارع من بعلبك: “لا يستطيع متجر في زحلة –وهي المركز الاقتصادي في البقاع الغربي– أن يواكب الزيادة في الطلب.”

وفي ظل غياب شبه كامل للتنظيم والرقابة من السلطات الرسمية فقد تمكّن التجار من استغلال الوضع لرفع أسعار المنتجات الزراعية. فقد كان بإمكانهم شراء كميات كبيرة من السلع بأسعار رخيصة من المزارعين الذين يسعون إلى تفريغ المنتجات بسرعة ثم بيع هذه السلع بأسعار مبالغ فيها إلى تجار التجزئة.

ورغم أن المسافة بين بعلبك وزحلة لا تتجاوز بضعة كيلومترات إلا أن الأسعار كانت متفاوتة بشكل هائل بين المدينتين، وحتى داخل المنطقة نفسها، فوفقاً لعباس فقد تتفاوت أسعار المنتجات نفسها بنسبة تزيد عن 300%.

رغم الويلات المرتبطة بالصراع أظهر المزارعون تضامناً حميداً، فقد وزع بعضهم جزءاً من محصوله على الملاجئ الجماعية التي تؤوي النازحين.

الاكتفاء الذاتي والتعاون والتضامن

أحد الجوانب التي سمحت للأسر الزراعية بالاستمرار في ظلّ الصراع هو قدرتها على تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي، حيث تمكنوا من إطعام أسرهم بالمنتجات التي يزرعونها. وأشار العديد ممن تمت مقابلتهم إلى زيادة المقايضة والتبادل بين المزارعين خلال الصراع. فعلى سبيل المثال كان أحد المزارعين يتبادل الملفوف مع آخر يزرع الكاكي (الخرما) أو الجوز أو غيره. ورغم أن هذا التعاون سمحت للمزارعين بالوصول إلى مجموعة متنوعة من المنتجات، إلا أنهم ظلوا يعانون من نقص في بعض السلع الأساسية مثل الزيت والزبدة، مما جعل اكتفائهم الذاتي محدوداً وقدرتهم على الصمود مرهونة بالدعم والمساعدات.

ورغم الويلات المرتبطة بالصراع أظهر المزارعون تضامناً حميداً، فقد وزع بعضهم جزءاً من محصوله على الملاجئ الجماعية التي تؤوي النازحين. وساهمت منظمة “جبال” في ربط هؤلاء المزارعين بالمطابخ التي تديرها الملاجئ.

وتوضّح خلال هذا البحث أن الزراعة بالنسبة للكثيرين كانت أكثر من مجرد مصدر دخل بل هي هوية. تقول أنجيلا سعادة: “الأمر أكثر من مصدر رزق، بل هو متعلق بأسلوب حياتك وعلاقتك بالأرض وبالطبيعة”. وتروي سعادة حديثها مع إحدى المزارعين، والتي قبل التصعيد كانت تذهب إلى قريتها “فقط لأخبرهم أنني ما زلت هنا”. وعندما سألت سعادة المزارعة عمّن تقصد بـ”هم”، معتقدة أنها تشير إلى الإسرائيليين، أجابت المزارعة: “لا، أقصد أشجاري.”

التطلع إلى المستقبل

التحديات مستمرة في مرحلة ما بعد الصراع

رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار المشروط أعاد بعض الاستقرار والقدرة للوصول والتنقل والكفاءة التشغيلية، إلا أن الدمار واسع النطاق في المزارع والأراضي والبنية التحتية سيترك أثراً طويل الأمد على إنتاج الغذاء في لبنان.

والمرجح أن الاستخدام المكثف للفوسفور الأبيض من قبل الجيش الإسرائيلي سيؤدي إلى تلوث دائم للأراضي الزراعية التي كانت ذات يوم خصبة وفي مياه الري. وكما حدث بعد حرب إسرائيل ولبنان عام 2006، ستبقى العديد من المناطق التي تعرضت للقصف ملوثة بالذخائر غير المنفجرة والتي ستستغرق إزالتها سنوات –وقد بدأ الجيش اللبناني عمليات لمعالجة هذه التحديات. إلا أن العديد من المناطق ستظل غير آمنة في الأمد المتوسط على الأقل، ممّا سيؤثر بلا شك على إمكانية الوصول إلى الأراضي الزراعية وإنتاجيتها، خصوصاً في الجنوب والبقاع.

ومن المتوقع أن يخرج المزارعون من الصراع في وضع أضعف مقارنة بالمشاركين الآخرين في سلسلة الإمدادات الغذائية المحلية في لبنان، بعد أن فقدوا بعض أو كل الدخل الذي كانوا سيحصلون عليه عادة خلال الخريف.

تسببت الهجمات الإسرائيلية أيضاً بأضرار جسيمة في البنية التحتية الأساسية لأنشطة إنتاج الغذاء بما في ذلك المياه. فقد تضررت مثلاً نحو 44 منشأة للمياه في مختلف أنحاء لبنان ممّا أثّر على ما يقرب من 485 ألف نسمة. وهذه الأزمة لن تؤثر فقط على قدرة البلاد على التعافي على المدى القصير، بل ستلقي بظلالها أيضاً على مستقبل التجدّد في المدى الطويل، خاصّة في ظل المنافسة المتزايدة بين المجتمعات المحلية على الموارد المحدودة – ولا سيما المياه.

ومن المتوقع بعد الحرب الحالية أن يجد المزارعون نفسهم في وضع أضعف مقارنة بباقي المنخرطين في سلسلة الإمداد الغذائية المحلية في لبنان، بعد أن فقدوا جزء من (أو كلّ) الدخل الذي كانوا سيحصلون عليه عادة خلال موسم الخريف. والأهم من ذلك أن تصعيد الضربات الإسرائيلية جاء في موسم حصاد بعض المنتجات المزروعة بشكل شائع مثل الزيتون. يقول العديد من المزارعين إنهم استثمروا الوقت والموارد خلال العام الماضي في انتظار موسم الحصاد، إلا أن محصولهم كان إما ضئيلاً أو فُقد بأكمله.[1] فإن محصول الزيتون حساس جداً من حيث التوقيت ومن الضروري عصره ومعالجته وإنتاج الزيت خلال أيام من جمع الزيتون وإلا ينتج زيتاً أقل جودة.

مع الصدمة المالية الناتجة عن فقدان موسم الحصاد في الخريف، يشعر العديد من المزارعين بقلق عميق حول قدرتهم على الصمود في فصل الشتاء القادم.

بالتالي يجد المزارعون أنفسهم في وضع خاسر: فقد أضاعوا الجهود التي بذلوها طوال العام الماضي، ومع مرور موسم الحصاد فهم يعتمدون على أي مدخرات متبقية للبقاء حتى الموسم القادم. أما أولئك الذين تضررت أراضيهم ومعداتهم أو دُمرت بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية، فيواجهون أعباء مالية إضافية لتغطية تكاليف الإصلاح أو التعويض عن الخسائر.

أما بالنسبة للمزارعين الذين تمكنوا من الحفاظ على محاصيلهم، فقد اضطروا في كثير من الأحيان إلى العمل تحت القصف وبدون الوصول إلى المعدّات الزراعية، ما تسبب في انخفاض كبير في الإنتاج والدخل. يشمل هذا الوضع أعضاء تعاونية جنى العيادي في البقاع، الذين واجهوا تحديات تشغيلية ومالية كبيرة. وانخفض دخل العديد منهم إلى حد جعلهم يلجؤون إلى الاقتراض لتغطية نفقاتهم، وذلك في قطاع حيث هوامش الأرباح ضئيلة أصلاً. ويوضح المزارع عباس: “كان معظمهم يخسرون أصلاً قبل الحرب، أما الآن خسارتهم أكبر وأكبر”.

ومع الصدمة المالية الناتجة عن فقدان موسم الحصاد في الخريف، يشعر العديد من المزارعين بقلق عميق حول قدرتهم على الصمود في فصل الشتاء القادم، وسط مستقبل غير واضح المعالم وأعباء اقتصادية متزايدة. يقول عباس: “أعرف مزارعين ينتظرون الآن أمام مراكز الإغاثة وتوزيع المواد الغذائية.”

التوصيات

مع دخول وقف إطلاق النار المشروط حيز التنفيذ يسعى أصحاب المصلحة في قطاع الأغذية الزراعية إلى تحقيق الاستقرار وتطبيع أنشطتهم. ومع ذلك فإن الخسائر الكبيرة التي تكبدها العديد من الفاعلين –ولا سيما صغار المزارعين– تُشكل تحدياً هائلاً لتعافيهم المالي واستعداداتهم للمواسم القادمة. كما أنّ الصراع فاقم في عدم المساواة المتأصلة في القطاع، مما يهدد استقراره على المدى الطويل إذا لم تُتخذ التدابير المناسبة لمعالجته.

هناك حاجة ماسة لجمع وتحليل بيانات أكثر شمولًا لتحديد التدابير السياسية الملائمة. ومع ذلك يوفّر البحث الأولي واستطلاع آراء أصحاب المصلحة في القطاع إرشادات واضحة لتوجيه جهود السياسة. لتحقيق سوق أغذية زراعية ديناميكية ومستدامة قادرة على الصمود أمام الصدمات، يجب اتخاذ سياسات للحد من نفوذ التجار الكبار وتجار التجزئة الذين يفرضون ممارسات تسعير مجحفة.

ومن بين السبل المحتملة لتحقيق ذلك ما يلي:

  • على الحكومة تنظيم الفاعلين المهيمنين في السوق بشكل مباشر للحد من قدرتهم على استغلال صغار المزارعين.
  • منح الحكومة الاعتراف القانوني للمزارعين يلي ذلك دعمها –بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية– في تنظيم صفوفهم وتشكيل اتحادات أو نقابات تمكنهم من التفاوض بشكل جماعي. وهذا يهدف إلى تعزيز قدرتهم على مواجهة النفوذ الكبير الذي يتمتع به اللاعبون المهيمنون في السوق وتعويض الخلل في ميزان القدرة التسعيرية.

ويجب على الحكومة والمنظمات غير الحكومية أيضاً زيادة الدعم للمزارعين الصغار والمتوسطين كجزء من استراتيجية لبنانية جديدة وموحدة لتنمية قطاع الأغذية الزراعية. وينبغي أن يشمل ذلك: 

  • توفير قروض ومنح منخفضة الفائدة لمساعدة المزارعين والشركات الزراعية على التعافي من الخسائر الناجمة عن الصراع.
  • إجراء دراسات سوق لتشجيع تنويع المحاصيل وتعزيز استراتيجيات زراعية مثلى.
  • دعم الانتقال إلى الطاقة المتجددة –مثل الطاقة الشمسية– لتخفيف تكاليف الإنتاج وتحقيق استدامة بيئية.
  • تحديث تقنيات الري واستخدام المياه لتحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية ودعم الاستدامة البيئية.
  • استكشاف وتنفيذ برامج لتحسين الكفاءة في كل أجزاء سلسلة توريد الأغذية الزراعية.
  • إقامة توازن بين الإنتاج الزراعي الموجه للتصدير وبين ما يدعم الأمن الغذائي المحلي.

 

[1] كان الجيش الإسرائيلي على علم بالحدود الزمنية لقطف الزيتون. ففي أوامر التهجير القسري التي أصدرها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي والتحذيرات لسكان مناطق معينة، حرص المتحدث على إخبار السكان النازحين بعدم العودة إلى منازلهم أو إلى حقول الزيتون الخاصة بهم.

المواضيع ذات الصلة