لا تركض خلف السراب: النفط والغاز لن ينقذ لبنان

تحطيم أسطورة الكنوز البحرية ولبنان الثري
شايا لوغلن, كونور كانسو, كونور كانسو, شايا لوغلن

16 حزيران، 2022

سلطت الأضواء مرة أخرى على النزاع الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل، حيث وصلت سفينة إنتاج الغاز التي استأجرتها الأخيرة إلى حقل غاز كاريش المتنازع عليه في 6 يونيو (حزيران) الجاري، وردت واشنطن على مطالب لبنان بوساطة أميركية بتعينها فورياً عضو من أعضاء جماعات الضغط المختصة بالطاقة، وهو عاموس هوشستين المولود في إسرائيل.

لم يكن التصعيد الأخير سوى حلقة جديدة من ملحمة لبنان المضطربة، والتي لا نهاية لها حول ثروات الغاز والنفط البحرية المحتملة، والتي يراهن عليها العديد من السياسيين لإخراج البلاد من بؤسها المالي، فقد صرح زعيم حزب الله حسن نصر الله في خطاب متلفز الشهر الماضي أن: “لبنان قادر أن يكون دولة غنية بالنفط والغاز”، بينما انتقد البلاد بقوله إننا: “نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الثروة بينما كيان العدو يُبرم عقوداً لبيع نفطه”.

لقد أشارت النخبة السياسية والمالية في لبنان على مدى أكثر من عقد من الزمان إلى احتياطات النفط والغاز تحت الماء باعتبارها الطريق إلى الثروة والمجد، فإذا كانت هناك بالفعل مثل هذه الكنوز الخفية، فإنه يمكن للبنان استخدامها لصالحه، ومع وجود إطار قانوني مناسب وصندوق ثروة سيادي، فإنه يمكن للبنان أيضاً كسر لعنة سوء إدارة الأموال العامة، بالإضافة إلى النهوض بالاقتصاد، وتعزيز الصحة العامة.

الوقت من ذهب

أدى الطلب المتزايد على الغاز الطبيعي خاصة في بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي إلى ارتفاع الأسعار العالمية مما جعل مكاسب النفط والغاز في لبنان ممكنة تجارياً، حتى لو تم العثور على احتياطات صغيرة فقط، ولكن على عكس إسرائيل التي استجابت بسرعة لظروف السوق المتغيرة، فإن مؤسسات الدولة البطيئة في لبنان لم تؤد إلا إلى إضعاف الموقف التفاوضي للبلاد وردع الشركات عن الاستثمار.

فقد اضطرت وزارة الطاقة والمياه في الجولة الثانية من جولات الترخيص في لبنان إلى تمديد الموعد النهائي لشركات الطاقة لتقديم عطاءاتها لثمانية من الكتل البحرية العشر لأربع مرات على الأقل، مع تقليل متطلبات الشركات للتقدم بالعطاء، حيث خفضت وزارة العمل رسوم طلب العطاء من 50 ألف إلى 5 آلاف دولار أميركي قبل أسبوعين فقط من الموعد النهائي.

وقال العديد من الخبراء الذين تحدثوا إلى “البديل” إن التمديدات والتعديلات تشير إلى نقص عام في اهتمام الشركات الدولية بالاستثمار في لبنان، بعد أن أثرت بشكل ملموس مسألة ترسيم الحدود، بالإضافة إلى جائحة كوفيد – 19، وانفجار ميناء بيروت في تعطيل عملية منح عقود التنقيب والإنتاج على عملية اهتمام الشركات المستثمرة.

لقد بدأت جولة العطاءات في لبنان لأول مرة في عام 2013، وبعد ذلك استغرقت الحكومة حتى شهر ديسمبر (كانون الأول) 2017 للموافقة على العرض الوحيد المقدم من المجموعة الدولية (كونسورتيوم)، والتي تضم شركات توتال الفرنسية، بالإضافة إلى إني الإيطالية (ENI)، ونوفاتك الروسية، وتم إلزام المجموعة بحفر بئرين في المجمع 4 والمربع 9 على التوالي بعد توقيع العقود في أوائل عام 2018.

لكن حتى الآن لم يتم حفر إلا بئر واحد فقط في المجمع 4، وبينما كانت هناك فرص لاكتشاف احتياطات الغاز إلا أنها لم تكن كافية للتوصل إلى قرار استثماري نهائي، إذ إن مشكلة البلوك 9 تكمن في أن جزءاً منه يقع في المياه المتنازع عليها مع إسرائيل، حيث صرحت شركة توتال منذ البداية بأنها لن تقوم بالتنقيب بالقرب من المنطقة المتنازع عليها.

ووفقاً لدينا القيسي، عضو المجلس الاستشاري في مبادرة النفط والغاز اللبنانية (LOGI)، وهي منظمة مستقلة تقوم بتقديم المعلومات وتعزيز الشفافية في قطاع الطاقة، فإن هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية (LPA) مددت الموعد النهائي للاتحاد الذي تقوده توتال لإكمال الحفر لمدة 2.7 سنة حتى 13 أغسطس (آب) 2022، وبالتالي إضافة درجة أخرى من التأخير إلى ملحمة الهيدروكربونات الجارية.

لقد تأسست هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية في عام 2012، وهي هيئة عامة مستقلة مكلفة بالتخطيط لقطاع النفط من المنبع في لبنان، فضلاً عن الإشراف عليه وإدارته، وتقع ستة كتل من بين الكتل البحرية الثمانية المتبقية في مناطق بحرية متنازع عليها مع إسرائيل أو قبرص أو سوريا، وتعد قضايا ترسيم الحدود التي لا نهاية لها في لبنان، وخاصة مع جارتها الجنوبية إسرائيل، من أخطر العقبات التي تمنع الشركات الدولية من الاستثمار، أو حتى تقديم العطاءات.

لكن هذه ليست القضية الوحيدة التي تقف في طريق لبنان، إذ إنه قبل أن تشرع الشركات في الإجراء الطويل والمكلف المتمثل في أن تصبح صاحبة حق في الكتل الخارجية في لبنان، فإنها تحتاج إلى تأكيدات بأن هناك حكومة فاعلة، وأن مؤسسات الدولة قادرة على المساعدة في تسهيل عملية الاستكشاف والانتفاع.

التفكير بالتمني

أصدر الأمين العام لجمعية مصارف لبنان فادي خلف في 3 يونيو (حزيران) الجاري بياناً دعا فيه إلى تحويل 20% سواء أكان من عائدات النفط أو الغاز المستقبلية إلى صندوق خاص لسداد المودعين الذين وقعوا ضحية للأزمة المصرفية، وزعم خلف أن شركة سبكتروم (Spectrum) التي أجرت مسوحات زلزالية ثنائية وثلاثية الأبعاد للساحل اللبناني قدّرت وجود من “25 إلى 96 تريليون قدم مكعب” من موارد الغاز الطبيعي تحت الماء. [4]

وبينما يتعيّن على خلف على أرض الواقع أن يؤدي واجباته المدرسية، فإن شركة سبكتروم أفادت بأن قاع البحار في لبنان قد لا يحتوي إلا على ما يتراوح من 12 إلى 25 تريليون قدم مكعب من الغاز القابل للاستخراج، وبغض النظر عن الكميات الدقيقة، فإن جني الأموال من الاحتياطيات غير المثبتة، وهو ما تدعو إليه النخبة السياسية والمالية في لبنان باستمرار، ليس إلا لعبة خطيرة ترمي للاستفادة من النتائج قبل حدوثها، وفيما ظهرت بعض الأدلة التي تشير إلى وجود احتياطيات هيدروكربونية بحرية، فإنه لم يتم العثور حتى الآن على كميات قابلة للتطبيق تجارياً، بينما سيبقى قاع المحيط محتفظاً بأسرار ثرواته حتى تواصل شركات النفط والغاز التنقيب، وربما ذات يوم استغلال ما تخفيه المياه اللبنانية.

لن تساعد البئر الجافة في البلوك 4 في جذب مستثمري النفط والغاز إلى لبنان، فقد تم الحفر حول آثار الغاز التي تم رصدها للآبار على عمق 4076 مترًا عبر 1500 متر، وهو ما يؤكد وجود نظام هيدروكربوني، ولكن لم يتم رصد أي خزانات كبيرة حيث تشير التقديرات إلى أنه في “البلدان الحدودية” مثل لبنان، التي ليس لديها احتياطيات مؤكدة، فإن الآبار لديها معدل نجاح بنسبة 20% فقط للعثور على كميات صالحة تجارياً من الهيدروكربونات. [5]

ولكن حتى لو تم اكتشاف كميات تجارية، فإن الإيرادات لن تصل بشكل واقعي وفي أحسن الأحوال إلى خزائن لبنان حتى عام 2030[6]، وهذا بالطبع إذا تمكن لبنان من بيع هذه الموارد في العقد المقبل – وهو أمر كبير – ومع ذلك فإن هذه العائدات لن تكون العصا السحرية التي ستحول الاقتصاد اللبناني، وتؤدي إلى إيجاد آلاف الوظائف، وكذلك القضاء على الديون الوطنية الهائلة للبلاد.[7]

وبحسب ما أوضحت القيسي فإن “إصلاح ديون لبنان لا يبدأ بمنحه المزيد من الإيرادات من مورد محدود”، وتابعت القيسي في حديثها لـ”البديل” مضيفة بأنه “سيكون الأمر أشبه بصب المياه في السلة”، مشيرةً إلى أن عائدات الهيدروكربونات لا يمكن أن تكون ركيزة لخطة الانتعاش الاقتصادي للبلاد، كما أن الكميات المقدرة ليست نادرة للغاية بحيث لا يمكن الاعتماد عليها فحسب، إلا أنها ستفشل في معالجة الأسباب الجذرية لمشاكل لبنان المالية والاقتصادية.

في ملاحظة أكثر تفاؤلاً، يمكن استخدام موارد الغاز لتلبية احتياجات لبنان من الكهرباء، والتي تعتمد فيها محطات الطاقة في البلاد بشكل أساسي في الوقت الحالي على استخدام زيوت الغاز وزيوت الوقود باهظة الثمن وغير النظيفة، حيث يمثل استيرادها حوالي 40% من الديون السيادية الحالية منذ عام 1992.[8]

ومع ذلك يمكن تحويل محطات لبنان إلى محطات طاقة تعمل بالغاز، مما سيخفف بشكل كبير من العبء عن عجز الحكومة، وعلاوة على ذلك، سيكون لتوفير الكهرباء على مدار الساعة أثر إيجابي على الاقتصاد، وستكون كذلك مفيدة للبيئة والصحة العامة.

إن قانون الموارد البترولية في المياه البحرية اللبناني (OPRL) ينص على ضرورة إيداع المكاسب المحتملة وغير المتوقعة من قطاع الهيدروكربون في صندوق ثروة سيادي، وإذا تم استخدام هذه الإيرادات بحكمة فقد يؤدي ذلك إلى انتعاش الاقتصاد اللبناني والبدء في نمو طويل الأجل، ومع ذلك، مع وجود المخزون النفطي الكبير تزداد المسؤولية.

المؤسسات الهشة تزداد ضعفاً

يحتاج لبنان لإدارة ملف هام واستراتيجي مثل الهيدروكربونات البحرية على نحو سليم إلى مؤسسات حكومية قوية وذات كفاءة، ومع ذلك فإن الأزمة المالية لم تؤد إلا إلى تفاقم نقاط الضعف القائمة، حيث تكافح الدولة اللبنانية في الوقت الراهن لتقديم الخدمات الأساسية.

وبالكاد تستطيع المؤسسات المختلفة والمسؤولة عن ملف النفط والغاز مواصلة عملها اليومي بسبب نقص الموارد حسب تصريحات رئيس هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية وليد نصر لـ”البديل”، الذي أشار إلى أن الجمعية لديها الآن أربعة أعضاء مجلس إدارة مقارنة بستة أعضاء قبل الأزمة، بالإضافة إلى امتلاكها 13 مزود خدمة بدلاً من 25 مزود خدمة في الفترة ذاتها.

في غضون ذلك يبقى هنالك العديد من الأسئلة دون إجابة، بما في ذلك كيف يمكن للمؤسسات اللبنانية أن تدير الأصول الحيوية و تدفقات الإيرادات وقضايا السلامة والبيئة؟ وكيف يمكن للجيش حماية المنشآت والموارد البحرية بينما متوسط راتب جنوده يصل بالكاد الى 50 دولاراً أميركياً؟ وكيف يمكن للحكومة أن تجتذب موظفين مؤهلين بينما يغادر الكثير من المهنيين اللبنانيين البلاد بسبب الأزمة؟

إن نقاط الضعف المؤسساتية معروفة وطويلة الأمد، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع قبرص تعد مثالاً بارزاً على ذلك، إذ أن البلدين وقّعا اتفاقية لترسيم الحدود المشتركة بينهما في عام 2007، قبل أن يكتشف لبنان بعد أربع سنوات من توقيعه الاتفاقية أنه ارتكب خطأ فادحاً، كما كشف المكتب الهيدروغرافي البريطاني أن الوفد اللبناني سلّم جزءاً كبيراً من حقوق لبنان في منطقته البحرية إلى قبرص.[9]

من المفترض أن تكون هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية هيئة مستقلة تشرف عليها وزارة الطاقة والمياه، وعلى هذا النحو فإنها هيئة محتجزة داخل مستنقع السياسة اللبنانية، حيث أدت المشاحنات بين التيار الوطني الحر وحركة أمل إلى تأخير عملية التنقيب بشكل مستمر، وهو ما يشكل تهديدات كبيرة للإدارة المستدامة للقطاع، فقد تم تقسيم مجلس إدارة هيئة إدارة قطاع البترول على أسس طائفية لبنانية بامتياز، حيث يحاول كل حزب سياسي الحصول على اليد العليا، وبطبيعة الحال، يتمتع الحزب الذي يتمكن من رئاسة هيئة إدارة قطاع البترول بميزة صياغة الأجندة السياسية للبنان على الصعيدين المحلي والإقليمي.

ووفقًا لخبيرة الحوكمة في مجال النفط والغاز لوري هايتيان، فإنه يجب أن تكون الهيدروكربونات هي آخر بند يناقشه السياسيون بسبب المخاطر العالية لسوء معالجة الاستثمارات المحتملة، وقالت في حديثها مع “البديل” إنه “لدينا قائمة بالأولويات وفي النهاية يمكننا مناقشة الغاز ودعم اقتصاد البلاد”، وتابعت مضيفة أن احتياطيات النفط والغاز المحتملة ذات القيمة الكبيرة يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التوترات الحالية وتعرض البلاد لخطر ما يسمى بلعنة الموارد.

وأضافت أن احتياطيات النفط والغاز القيمة المحتملة يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التوترات القائمة وتعرض البلاد لخطر ما يسمى بلعنة الموارد. وتشير هذه الظاهرة، المعروفة أيضا باسم “مفارقة الوفرة”، إلى فشل البلدان الغنية بالموارد في الاستفادة الكاملة من ثرواتها من الموارد الطبيعية، وفشل حكومات هذه البلدان في الاستجابة بفعالية لاحتياجات الرفاه العام.·[10] تختلف الأسباب وتشمل تقلب الموارد الأولية، وخاصة الوقود، فضلا عن الفساد داخل مؤسسات الدولة. إن الاعتماد بشكل أكبر على المحروقات كقطاع هو مثال للاقتصاد الريعي الذي أوصل لبنان إلى ما هو عليه، وهو بطبيعته يدمر التنوع الاقتصادي والمرونة. يشير بعض الباحثين أيضا إلى وجود علاقة بين الموارد الطبيعية والحروب الأهلية. [11]

ومع ذلك فإنه إذا تمت إدارته بشكل جيد، يمكن للبنان أن يجني مكافآت ضخمة من موارده الخارجية، وتعد النرويج واحدة من البلدان القليلة التي نجحت في استخدام عائداتها من النفط والغاز لخلق نتيجة اجتماعية أفضل لشعبها.

يتم تحويل الإيرادات من احتياطيات النفط والغاز النرويجية إلى صندوق ثروة سيادي يديره البنك المركزي النرويجي، والغرض من ذلك هو ضمان الشفافية الكاملة، إذ يكشف التقرير السنوي للصندوق الذي يصدر في نهاية كل عام عن قائمة بجميع الاستثمارات التي تم القيام بها، كما أن محاضر التصويت من الجلسات العامة تُعرض على الهواء مباشرة[12]، ويقوم الصندوق بالاستثمار في الخارج فقط حتى لا يؤدي إلى اضطراب الاقتصاد النرويجي.

وقامت النرويج على خلفية نجاحها في برنامج النفط مقابل التنمية بمساعدة لبنان منذ عام 2007، وذلك عبر إنشاء إطار مماثل لقطاع الغاز، حيث يقوم الخبراء النرويجيون من خلال بناء القدرات عموماً بمساعدة لبنان على إيجاد أساس تشريعي يتسم بالكفاءة والشفافية لمنع تضارب المصالح وتعزيز الشفافية.

إن الخطوة التالية للبنان يجب أن يتم فيها إنشاء صندوق الثروة السيادي اللبناني لاستثمار الإيرادات المحتملة بشكل صحيح للمساهمة بتحقيق نمو اقتصادي قوي طويل الأجل، لكن مشاريع القوانين الثلاثة التي تهدف إلى إنشاء مثل هذا الصندوق تجمّع عليها الغبار في درج مكتب برلماني ما.

أوكرانيا تعيد خلط رقعة الشطرنج الخاصة بلعبة الغاز

لقد كان للحرب في أوكرانيا عواقب وخيمة على ملف الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك في لبنان، مما يجلب الفرص والتعقيدات في آن واحد، حيث أنه من الناحية الأولى تناشد أوكرانيا الاتحاد الأوروبي بحظر الغاز الروسي، وذلك للدور المالي الذي يساعد موسكو على مواصلة شن حملتها العسكرية المدمرة، أما من الناحية الثانية فإن الاتحاد الأوروبي يعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، إذ استورد 155 مليار متر مكعب من الغاز الروسي العام الماضي، وهو ما يمثل نحو نصف إجمالي وارداتها من الغاز.

ووفقاً لشربل سكاف، وهو مؤلف كتاب “Le Gaz au Liban: Souveraineté et Enjeux”، فإن لبنان لم يفوت القارب بعد، حيث سيكون هناك دائماً طلب على الغاز، ومع ذلك، فإن الخلاف حول الحدود البحرية مع إسرائيل لا يزال يمثل عنق الزجاجة الحرج لدفع عمليات الاستكشاف إلى الأمام، ويمكن أن تكون حرب أوكرانيا في الواقع فرصة للدولتين اللتين تستمران في استخدام طرق مختلفة للمطالبة بمناطقهما الاقتصادية الحصرية لتسوية خلافاتهما.

وقال سكاف في حديثه لـ”البديل” إن: “الحرب في أوكرانيا قد تكون أداة للضغط على لبنان وإسرائيل لإيجاد حل لقضية لا تنتهي”، وكما رأينا في التصعيد الأخير فإن الصراع طويل الأمد بين لبنان وإسرائيل لا يزال يمثل تهديداً للأمن القومي، ومن المحتمل أن يشعل صراعاً مسلحاً بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، ومع ذلك، حتى لو اتفق البلدان على حدود بحرية مشتركة، فإن تصدير الغاز سيجلب تحديات إضافية.

يتعيّن على لبنان صياغة سياسة خارجية متماسكة وإقامة تحالفات مع القوى الإقليمية لتحقيق إيرادات من الغاز البحري، كما يجب أن يُنظر إلى لبنان على أنه جهة فاعلة ذات سيادة، وهو قول أسهل من الفعل في مثل هذا البلد المنقسم سياسيًا، وبينما يواصل لبنان النضال لم تضيع قبرص وإسرائيل أي وقت، حيث تعمل كلا الدولتين على قدم وساق على استكشاف واستخراج ثرواتهما من تحت الماء.

البيئة؟

يشكل استخراج موارد النفط والغاز مخاطر في كل مرحلة من المراحل العملية، ومع ذلك، هناك مكافآت كبيرة يمكن أن يجلبها النفط والغاز لقطاع الكهرباء المتهالك في لبنان، والتي سيكون لها فوائد لاحقة على البيئة وصحة الناس، حيث إنه إذا كان الغاز يوفر الكهرباء على مدار الساعة، فإن اللبنانيين لن يضطروا إلى الاعتماد على مولدات الديزل المسرطنة الموجودة في جميع مدن وأحياء البلاد.

فقد أظهرت دراسة أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) في عام 2012 أن مولدات الديزل تمثل زيادة بنسبة 60% من انبعاثات الهواء السام عند تشغيلها لمدة ثلاث ساعات فقط في اليوم، بينما يتم تشغيلها في بعض المناطق لأكثر من 20 ساعة في اليوم.

يمكن أن يكون الغاز الطبيعي أيضا بمثابة وقود انتقالي على الطريق إلى الطاقة المتجددة.

ويمكن للغاز الطبيعي هنا أن يكون أيضاً بمثابة وقود انتقالي عن طريق الطاقة المتجددة، وهو ما يمكن لصندوق الثروة السيادي لإيرادات الموارد الطبيعية أن يوفره، وذلك من ناحية التمويل لتحويل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الوفيرة في لبنان إلى كهرباء، وذلك تماشياً مع هدف الحكومة المتمثل في توليد 30% من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030.[15]

ومع ذلك، نظراً لسجل لبنان الضعيف في التعامل مع الكوارث البيئية السابقة، فقد لا تفوق الفوائد التي يجنيها المخاطر عندما يتعلق الأمر بالبيئة، وربما سيحصل لبنان على فرصة واحدة فقط، لكن قد يكون الافتقار إلى الحكم الرشيد قاتلاً وعلى الأخص في حالة تسرب النفط، إذ إن خطة الطوارئ الوطنية لمواجهة التسرّب النفطي (NOSCP) التي وضعت لمواجهة مثل هذا السيناريو، من المتوقّع أن تعمل بموجبها المديرية العامة للنقل البري والبحري التابعة لوزارة الأشغال العامة والنقل كهيئة وطنية مختصة.

لقد أثبتت الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب خلال التسرب النفطي الإسرائيلي في عام 2021 أنها غير قادرة على تنسيق جهود التنظيف، وفي النهاية نقلت المسؤولية إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)[16]، واستمرت جهود التنظيف بعد ذلك بأكثر من عام، بينما من المحتمل أن تبقى أطنان من القطران مدفونة تحت الرمال.

وعلى الرغم من الغموض التام الذي يخيم على مضمون العقود الحالية المبرمة مع كونسورتيوم توتال فيما يخص الالتزامات المرتبطة بالأضرار البيئية، فإن هذا الحكم يدعو الكونسورتيوم إلى التقيد “بأفضل المعايير الدولية لصناعة النفط” وفقاً لـ”القوانين اللبنانية”، وكذلك “المتطلبات المعقولة لإدارة النفط”، حيث يمنح هذا الاتفاق الشركات بشكل أساسي حق الإشراف على جهود التخفيف والترميم في حالة وقوع حادث.
إذا تم تعلم أي درس من حادثة التسرب النفطي البريطاني للبترول في خليج المكسيك في عام 2010، فهو أن الدولة لا يمكنها الاعتماد على حسن نية الشركة للتعامل مع مثل هذا السيناريو، كما أن دفع رسوم التسوية في أعقاب ذلك لا يكفي أيضاً، حيث سيكون للانسكاب النفطي تداعيات بيئية لعقود قادمة.

إذ إنه عند الاستجابة لتسرب النفط يكون الوقت جوهرياً لمنع إهدار المواد السامة، ومع ذلك، لا توجد حالياً آلية لرؤية جزء من عائدات مبيعات النفط والغاز المستقبلية ليتم حجزه لجهود التنظيف المحتملة، كما يجب على لبنان أن يعزز قدراته على الاستجابة لحالات الطوارئ ليتمكن من نشر فرق الطوارئ على أرض الواقع بسرعة وكفاءة، حيثُ شهدت البلاد بشكل مباشر كيف يمكن أن تكون الانسكابات النفطية كارثية، نظراً لأنه بدون ضمانات مناسبة فإن استخراج الهيدروكربونات هو قنبلة موقوتة.

احتفظ بها في الأرض..

يجلب احتمال وجود موارد النفط والغاز قبالة الساحل بصيص أمل لبلد في أمس الحاجة إلى حل لمشاكله المالية، ولا عجب أن السياسيين يقدمونها كما لو تم العثور أخيراً على مغارة علي بابا، وبغض النظر عن مدى رغبة اللبنانيين في الاعتقاد بأن المكاسب البترولية غير المتوقعة ستكون منقذهم، فإنه هناك حاجة إلى الحذر والفطرة السليمة.

قد توفر هذه الموارد فرصة ذهبية، إلا أنه هناك الكثير الذي يتعين القيام به قبل أن يتمكن لبنان من اغتنام تلك الفرصة، لأنه بدون إجماع وطني بين الأحزاب السياسية العديدة في البلاد، فإن المناخ الاقتصادي سيبقى غير جذاب للمستثمرين المحتملين.

ويجب أيضاً وضع إطار قانوني مناسب قادر على تحمل التغييرات الحكومية وأهواء السياسيين أو الأحزاب الفردية، ولكي تستثمر الشركات الدولية، فإن لبنان يحتاج إلى تقديم ضمانات بأن مؤسسات الدولة التي تتعامل مع الملف مستقرة و كفوءة ومستقلة.

ولعل الأهم من ذلك، أن لبنان يحتاج إلى الإجماع على أن موارد النفط والغاز في البلاد ملك للشعب اللبناني، وأن الجزء الأكبر من الإيرادات المحتملة تعود حصراً الى الدولة، وبالتأكيد لضمان ذلك، فإنه يجب على لبنان إنشاء صندوق ثروة سيادي تحكمه هيئة مستقلة.

وعلاوة على ذلك، يتعيّن على لبنان أن يكفل حماية الناس والبيئة حماية جيدة، ويجب ألا يقتصر البرنامج على إسناد الأدوار إلى السلطات المعنية فحسب، بل أن يوفر لها أيضاً موارد كافية، بما في ذلك التمويل والمعدات اللازمة لجهود التنظيف المحتملة.

أخيراً وليس أخراً، حتى يستطيع لبنان أن يكون لاعباً رئيسياً في لعبة تصدير الطاقة الدولية، فإنه يجب عليه أن يعمل كدولة موحدة ذات سيادة، وأن يحل جميع نزاعات الحدود البحرية، وعندها فقط يمكن للبنان الاستفادة القصوى من موارده الخارجية المحتملة، في حين أنه إذا لم يكن الأمر كذلك، فسيكون من الأفضل للبلد بالفعل ترك الكنوز مخبأة تحت قاع المحيط وترك الأجيال القادمة تستمتع بالغنائم بمجرد أن يحين الوقت المناسب لاستخراجها.

[1] كريم شياب، 6 حزيران/يونيو 2022، “لبنان يدعو الولايات المتحدة للتوسط في محادثات الحدود البحرية الإسرائيلية”، الجزيرة، على الإنترنت: https://www.aljazeera.com/news/2022/6/6/lebanon-agrees-to-call-on-us-to-mediate-maritime-border-talks

[2] بتول وهبي، 26 أيار/مايو 2022، “السيد نصر الله: حزب الله أقوى من أي وقت مضى، استفزازات الأقصى لتفجير المنطقة”، المنار، على الإنترنت: https://english.almanar.com.lb/1612745

[3] آخر إعلان على الإنترنت على: https://www.lpa.gov.lb/english/announcements

[4] فادي خلف، 2022، “غاز لإعادة الإيداع”، جمعية مصارف لبنان، على الإنترنت: http://backend.institutdesfinances.gov.lb/wp-content/uploads/2022/06/%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%B2-%D9%84%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B9.pdf

[5] مبادرة النفط والغاز اللبنانية (LOGI)، أيار/مايو 2020، “قطاع الغاز البحري في لبنان: التحول نحو النمو المحلي”، على الإنترنت: https://openoil.net/wp/wp-content/uploads/2016/12/towards-domestic-growth-V.2.4-digital.pdf

[6] David Mihalyi and Thomas Scurfield, 2020, “How Did Africa’s Prospective Petroleum Producers Fall Victim to the Resource Curse?”, World Bank Group, online at: https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/34470/How-Did-Africa-39-s-Prospective-Petroleum-Producers-Fall-Victim-to-the-Presource-Curse.pdf?sequence=1&isAllowed=y

[7] LOGI, op cit.

[8] Carol Ayat, Jessica Obeid, Laury Haytayan, Marc Ayoub, 2021, “Keeping the Lights On: A Short-term Action Plan for Lebanon’s Electricity Sector”, online at: https://www.kas.de/en/web/libanon/single-title/-/content/keeping-the-lights-on-a-short-term-action-plan-for-lebanon-s-electricity-sector

[9] شربل سكاف، الجازات في لبنان: Souveraineté et Enjeux، 2020، طبعات سير المشرق، ص 363.

[10] شانون م. بندرغاست، جوديث كلارك وج. كورنيليس فان كوتن، 2021، “الفساد والتنمية ولعنة الموارد الطبيعية”، المجلة الكندية للعلوم السياسية، ص 411-437.

[11] شربل سكاف، مرجع سابق، ص 173.

[12] خطاب الحاكم أويستين أولسن، 14 أبريل/نيسان 2015، “إدارة الثروة النفطية في النرويج”، على الإنترنت: https://www.norges-bank.no/en/news-events/news-publications/Speeches/2015/2015-04-14-Olsen-Roma/

[13] وكالة الصحافة الفرنسية، 16 مايو 2022، “لعبة البوكر الغازية بين روسيا وأوروبا”، على الإنترنت: https://ednh.news/the-gas-poker-game-between-russia-and-europe/

[14] مؤسسة عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، 2013، “تأثير توليد الطاقة الكهربائية الموزعة على تعرض الأسر للمواد المسرطنة المحمولة جوا في بيروت”، على الإنترنت: https://www.aub.edu.lb/ifi/Documents/publications/research_reports/2012-2013/20130207ifi_rsr_cc_effect%20Diesel.pdf

[15] الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، 2020، “آفاق الطاقة المتجددة – لبنان”، الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، على الإنترنت في https://www.irena.org/-/media/Files/IRENA/Agency/Publication/2020/Jun/IRENA_Outlook_Lebanon_2020.pdf

[16] غادة الشريف، 2021، “بدعم ضئيل من الدولة، يكافح المتطوعون الذين يقومون بتنظيف كارثة بيئية في لبنان من أجل مواكبة ذلك”، لوريان اليوم، على الإنترنت: https://today.lorientlejour.com/article/1257079/with-scant-state-support-volunteers-cleaning-up-an-almost-2-month-old-environmental-disaster-in-lebanon-struggle-to-keep-apace.html

المواضيع ذات الصلة