“البيع العظيم”.. هكذا باع القطاع المصرفي مستقبل لبنان المالي للجهات الأجنبية

كشف تحقيق أجراه موقع “البديل” عن تفاصيل لم تكن معروفة سابقاً حول تخلف لبنان عن سداد سندات اليوروبوند، وطرق تلاعب القطاع المصرفي بهذه السندات لتسهيل التحويلات الخارجية التي تقدر بمليارات الدولارات.
نيكولاس نوي

يونيو 2, 2022

لمحة عامة كان من الممكن منع تخلف لبنان غير المنضبط عن سداد 31.3 مليار دولار من سندات اليوروبوند السيادية في مارس (آذار) 2020، لكن كما هو الحال مع العديد من المآسي الوطنية، فإن الحالة انفجرت نتيجة لما هو معتاد عليه ما بين الجشع الشخصي وعدم الكفاءة الصريحة، بالإضافة إلى الجهات الأجنبية التي أدى تلاعبها لتدمير القطاع المصرفي. ومع توفر بيانات جديدة، واستعداد بعض الأطراف المشاركين للتحدث بشكل مباشر، أصبحت تتوفر تخلف لبنان عن سداد 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند في 16 مارس (آذار) 2020، وعلى الرغم من أن الجميع كان على دراية بذلك، فإن هذه الجملة المخادعة والبسيطة لا تقترب من نقل الصورة الحقيقية للمأساة التي حلت بالبلد، كما أنها لا تكشف عن أي من الأحداث التي أدت إلى اتخاذ هذا القرار المصيري، والذي يمكن القول إنه بالنظر إلى ديون لبنان الكبيرة لم يكن من الممكن تجنّبه، ولكن بالتأكيد كان من الممكن اتخاذه بطريقة منظمة. علاوة على ذلك، فإن الحقيقة الواضحة والمتمثلة بأن لبنان لم يكن قادراً على سداد القروض المالية لا تخبرنا شيئاً عن عدم الكفاءة الصادمة لوزير المالية علي حسن خليل الذي قرر مشاركة مذكرة سرية حول إعادة هيكلة الديون قبل أكثر من عام من التخلف عن السداد، ليس مع موظفيه، ولكن مع الصحافة، مما دفع وكالة موديز إلى إطلاق تخفيض فوري للتصنيف الائتماني للبنان، وتعليق جهود العلاج المتأخرة فعلياً. كما أنها فشلت في التعبير بشكل كامل عن قسوة وجشع البنوك اللبنانية قبل وبعد التخلف عن السداد بدفع من الإدارة العليا وكبار المودعين – وكلاهما متعطش للمال للفرار من أزمة وطنية متفاقمة – حيثُ لم تتردد البنوك في بيع سندات اليوروبوند لجهات أجنبية، مدركة جيداً أن القيام بذلك من شأنه أن يضعف بشدة الموقف التفاوضي للحكومة ويعيق احتمالية إعادة هيكلة الديون. لقد افترضت معظم وسائل الإعلام منذ فترة طويلة أن “عمليات البيع الكبيرة” كانت قد بدأت فقط في أوائل عام 2020، لكن الآن أصبح من الواضح أن البنوك اللبنانية باعت بالفعل ما يصل إلى 1.2 مليار دولار من السندات الأوروبية للجهات الأجنبية بين شهري يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول) 2019. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تم بيع 3.5 مليار دولار أخرى من السندات الأوروبية بين انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 و16 مارس (آذار) 2020، وهو يوم التخلف عن السداد، لكن حتى في تلك الفترة لم يكن الأمر ليتوقف على ذلك. فقد واصلت البنوك اللبنانية عملية البيع بقوة بعد التخلف عن السداد، حيث أفرغت 1.4 مليار دولار أخرى من السندات الأوروبية قبل نهاية العام، ويعتقد أن البنوك المحلية باعت في المجموع أكثر من 6.1 مليار دولار من سندات اليوروبوند، وهو ما يمثل قرابة 40% مما تدين به قبل أن تصل مذكرة سرية بشأن إعادة هيكلة الديون إلى وزير المالية (حسن خليل)، الذي اعتقد أنه من الجيد استيعابها من خلال قراءتها مباشرة لمراسل الصحيفة اللبنانية. وبشكل لا يصدق كان مصرف لبنان المركزي مشاركاً في هذه الفضيحة، على الرغم من أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كان يدرك جيداً أن لبنان كان يعاني من نقص خطير في الدولار الأميركي، وأن إعادة هيكلة الديون عادت إلى جدول الأعمال السياسي، لكن سلامة أصر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 على دفع سند بقيمة 1.5 مليار دولار، بالإضافة إلى 632 مليون دولار من الفوائد. وكان استخفاف مصرف لبنان المستمر بالآثار السلبية لعمليات بيع سندات اليورو المتسارعة للجهات الأجنبية خلال الأشهر التي تلت عملية البيع، وتوجهه لمناشدة صانعي السياسة الحكوميين، مثل رئيس الوزراء الجديد عديم الخبرة حسان دياب بأن “تسرّب” الدولار الأميركي الثمين سيكون ضئيلاً، وهو ما ظهر بتوجه مصرف لبنان لبيع حوالي 700 مليون دولار من سندات اليورو بعد التخلف عن السداد، الأمر الذي أدى إلى إضعاف موقف الحكومة اللبنانية التفاوضي، في الوقت الذي حصل سلامة وعائلته على ملايين الدولارات من العمولات السرية. ونتيجة لذلك، لم يعد لبنان سيداً على مصير ديونه، حيث تمتلك الجهات الأجنبية أكثر من 17 مليار دولار من سندات اليوروبوند اللبنانية، وتدعو هذه الجهات إلى ممارسة حق النقض (الفيتو) في 40% من جميع سندات اليوروبوند في البلاد، من بينها ما يسمى بـ”الصناديق الانتهازية” التي تشتري ديوناً متعثرة، غالباً ما تكون أقل بكثير من القيمة السوقية، وليس لها مصلحة في أي إعادة هيكلة سليمة للديون على المستوى الوطني، كما تسعى إلى استرداد “المبلغ الكامل للسندات“، بالإضافة إلى الفائدة، التي غالباً ما تكون من خلال استنزاف التقاضي. علاوة على ذلك، يمكن لحاملي سندات اليورو من الجهات الأجنبية المجادلة بأن بعض العمليات التي شارك فيها مصرف لبنان منذ مارس (آذار) 2020 لا يمكن اعتبارها وظائف مصرفية مركزية تقليدية، إذ إنه إذا استمر استخدام مثل هذه الحجج في المحكمة، فقد تتعرض أموال وممتلكات مصرف لبنان – بما في ذلك احتياطيات الذهب اللبنانية التي تقدر بنحو 17 مليار دولار – للمصادرة من قبل الجهات الأجنبية. قد تبدو جملة “تخلف لبنان عن السداد في 16 مارس (آذار) 2020″ بسيطة، لكنها لا تنصف عالم المعاناة والخيانة الذي تخفيه عملية “البيع الكبير“، وهو ما يسلط هذا التحقيق الضوء عليه، بتحليله لستة نقاط بارزة يكشف فيها عن تفاصيل ما حدث منذ ذلك اليوم المشؤوم وحتى وقتنا الراهن.

اهتزاز “بيت الأوراق”

ربما بدا تخلف لبنان السيادي عن سداد ديونه وانهيار الأنظمة المالية والاقتصادية في البلاد احتمالاً بعيداً بالنسبة لمعظم اللبنانيين في ليلة رأس السنة الجديدة لعام 2018، لكن بعض المصرفيين والمسؤولين الحكوميين رؤوا أخيراً أن عبء الديون الذي لا يصدق للبلاد، كان أحد أسوأ أعباء العالم الاقتصادية منذ فترة طويلة، وأن هذا الخطر الواضح والقائم الذي أصبح عليه “بيت الأوراق” يمكن أن يسقط دولة لبنان.

ومع أخذ تخلف لبنان عن سداد ديونه في عين الاعتبار، قام مستشار وزارة المالية طلال سلمان، وهو الشخص المسؤول عن ملف اليوروبوند في لبنان، بوضع مذكرة مفصلة بشأن إعادة هيكلة “منظمة” لالتزامات ديون لبنان المتزايدة بسرعة، ووضع المذكرة بعد الانتهاء من إعدادها على مكتب وزير المالية المؤقت علي حسن خليل في 9 يناير (كانون الثاني) 2019.

لكن من سوء حظ لبنان، فإن خليل يُعرف عنه أنه يملك إلماماً ضعيفاً في القضايا الاقتصادية، ويمكن القول إن هذا الضعف سيضر لبنان في ذلك اليوم بالفعل، وأكثر من أي يوم آخر خلال فترة ولايته التي استمرت لست سنوات، ووفقاً لسلمان، فإن خليل تجاهل العنوان الأحمر الواضح “سري للغاية“، وفضل قراءة الأجزاء الرئيسية لمراسل صحيفة الأخبار اللبنانية اليومية، بدلاً من مناقشة المذكرة مع موظفيه.

وعلى حد وصف مجلة الإيكونوميست في تقرير صدر بعد بضعة أيام من حديث خليل مع صحيفة الأخبار، فإن “خليل قام بعمل سيئ بشكل لا يصدق عندما أخبر [المراسل] أن بلاده مستعدة للتخلف عن السداد“، فقد أشار خليل في حديثه لصحيفة الأخبار بالقول: “صحيح أن الوزارة تعد خطة للتصحيح المالي تتضمن إعادة هيكلة للدّين العام، لكننا لم نفصح عن هذه الخطة لأحد“.

إلا أن تصريحات خليل التي أحدثت ضجة على المستوى الدولي، أثبتت في غضون أيام من صدورها بأنها ستكون مكلفة، فقد خفضت وكالة موديز تصنيف الديون اللبنانية بشكل أكبر، وتبع ذلك ثلاث تخفيضات أخرى في تصنيف الوكالة ذاتها، أي قبل ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، مما حد بشكل كبير من قدرة البلاد على إرسال خطابات ائتمان للتجارة وإصدار ديون جديدة. ولعلّ الأهم من ذلك كان أمام الجمهور من خلال الحفاظ على “ربط العملة المحلية” بالدولار الأميركي، وهو الأمر الذي حافظ على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي لأكثر من عقدين من الزمن.

لقد أثبتت تصريحات خليل أنها ستكون أكثر تكلفة من حيث إبطاء الجهود المتأخرة بالفعل لإعادة هيكلة ديون لبنان المتضخمة.

 موضحاً بالقول: “لقد فقدنا شهوراً ثمينة“، وتابع مضيفاً: “بعد المقابلة، كان الجميع – وخاصة السياسيين – أكثر نفوراً من المخاطرة حتى لاستكشاف الحاجة إلى التغيير، وبدلاً من العمل بهدوء لوضع خطة والتوصل إلى إجماع سياسي، خرجت القضية عن السيطرة“.

ربما كانت هذه اللحظة من أسوأ لحظات الإخفاق في سداد الديون اللبنانية، إذ إنه عند النظر للسنوات السابقة فإن “الهندسة المالية” اللبنانية سيئة السمعة الآن كانت قد عانت من زيادة كبيرة بحلول عام 2019، حيث يعمل مصرف لبنان والمصارف اللبنانية المحلية معاً لتقديم شروط لم يسمع بها أحد لأي شخص يساهم بإدخال دولارات إضافية إلى المصارف.

وأوضح آلان بيفاني، الذي كان المدير العام لوزارة المالية في ذلك الوقت، أن “بعض البنوك كانت تدفع بالفعل 20 في المائة زائد على الدولار“، وأضاف قائلاً: “كانت بعض البنوك تطرحها للاكتتاب العام، وكان العديد منها يأخذ دولاراً جديداً واحداً قادماً من الخارج ويودع 2.5 دولار أو أكثر في الحساب المصرفي الذي يقابله، وقد أنشأ النظام مبالغ كبيرة من الدولارات المحلية في النظام من خلال عمليات الصرف على سندات اليوروبوند والفوائد العالية جداً المدفوعة محلياً على الدولار“.

وبحلول عام 2019، لم يكن لبنان جديراً بالائتمان لمدة أربع سنوات على الأقل، وكما نعلم الآن، وفقاً لتقرير مسرب، عندما بدأ مصرف لبنان حملة الهندسية المالية في عام 2016، كان صندوق النقد الدولي قد أبلغ مصرف لبنان بأنه حدد فجوة تزيد عن 4.7 مليار دولار في احتياطياته (لم يتم إصدار التقرير رسمياً أبداً بعد احتجاجات سلامة).

لكن ذلك لم يقف عند هذا الحد، فقد كانت هناك العديد من التحذيرات الأخرى خلال الأشهر التي سبقت ثورة 17 أكتوبر (تشترين الأول)، حيث لم تتمكن وزارة المالية من بيع سندات اليوروبوند الجديدة في السوق الرئيسية لما يقرب عامين، في حين أن العديد من البنوك المحلية قامت بتخفيض القيمة الفعلية لأصولها القديمة. وبحلول الصيف، كانت بعض البنوك تقيّد التحويلات إلى الخارج وتحد من السحوبات النقدية بالدولار، ومع تذبذب ربط العملة الأميركية أخيراً كانت إشارات السوق واضحة: وصلت المشاكل الهيكلية في لبنان بشكل سريع إلى نقطة خطرة.

وعلى الرغم من معرفة أن إعادة هيكلة الديون قيد المناقشة، وأن مبيعات سندات اليوروبوند للجهات الأجنبية ستضر بأي جهد حكومي للتفاوض على شروط جديدة، فإن بعض البنوك اللبنانية كانت قد قررت قبل وقت طويل من ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) أن بياناتها المالية معلقة، وأنه حان الوقت لبدء الخروج من مخطط “الهندسة المالية” لمصرف لبنان.

وفيما افترضت العديد من وسائل الإعلام في وقت لاحق أن عمليات بيع لبنانية لسندات اليوروبوند كانت قد بدأت تقريباً منذ يناير (كانون الثاني) من عام 2020، فإن بعض البنوك اللبنانية باعت بالفعل ما يقرب من 1.2 مليار دولار للجهات الأجنبية بين شهري يناير (كانون الثاني) وسبتمبر (أيلول) 2019، وبحسب مجموعة البيانات الصادرة عن مصرف لبنان، فإنه خرج ما يصل إلى 1.7 مليار دولار من الأيادي المحلية بنهاية عام 2019.

قيل لسلامة المذعور إن إعادة الهيكلة وشيكة

خلال استراحة في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي الذي نظم في واشنطن في 18 أكتوبر (تشرين الأول)، قام سلمان (مستشار وزير المالية) بإخبار سلامة في حديث جانبي بينهما بأنه يجب إعادة هيكلة سندات اليوروبوند القادمة التي تبلغ قيمتها 1.5 مليار دولار في نوفمبر (تشرين الثاني)، بدلاً من أن يتم تجديدها بديون إضافية كما كانت “الممارسة العادية“، وذلك بعد أن استغرق الأمر نحو عشرة أشهر للتغلب على الضرر الذي تسببت به تصريحات خليل المرتبطة بـ”التصحيح المالي“، لكن على ما يبدو فإنه تم التوصل إلى إجماع سياسي على البدء بمعالجة تهديدات سندات اليوروبوند الذي بدأ يلوح في الأفق.

ووفقاً لما ذكر سلمان فإن سلامة كان “خائفاً“، وذلك على الرغم من أن مصرف لبنان والبنوك المحلية لا تزال تحتفظ بما يصل إلى 66% من جميع سندات اليوروبوند المستحقة، وهو الأمر الذي يدعم الموقف التفاوضي للحكومة، إلا أن البنية المالية العامة للبنان كانت قد أصبحت أكثر ضعفاً بعد سنوات من “الهندسة” لدرجة أن محاولة معالجة الفساد المالي من خلال إعادة هيكلة الديون من الممكن أن تؤدي إلى دمار كارثي في السوق، وهو ما قد يعني أيضاً إحراجاً كبيراً على المستوى العام لسلامة شخصياً.

وفي حديث دار بين سلامة وسلمان، تساءل سلامة مستفسراً: “هل حصلت على دعم من [رئيس مجلس النواب نبيه] بري و [رئيس الوزراء سعد] الحريري؟”، ليرد عليه سلمان مجيباً بأنها كانت نقطة حاسمة لأن مصرف لبنان مدين بالفضل القانوني في مثل هذه الأمور للحكومة ووزارة المالية التي يسيطر عليها علي حسن خليل المعين من قبل بري. وقال سلامة إنه يحتاج إلى المزيد من الوقت للتشاور مرة أخرى في بيروت، بينما افترض سلمان أن سلامة من أجل إعادة الهيكلة أراد الحصول على توجيهات من الفاعلين السياسيين الرئيسيين، ومحاولة إقناعهم بخلاف ذلك (وهي نقطة أكدها أيضاً أحد المقربين من سلامة منذ فترة طويلة والذي تحدث إليه بعد فترة وجيزة من عودته).

لكن مثل بقية النخبة السياسية، ومع توجه سلامة وسلمان إلى المنزل، لم يكن بإمكان أي أحد توقّع أن احتجاجات شارع “واتساب” الذي اندلعت في الليلة السابقة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) ستؤدي خلال وقت قريب إلى انهيار الحكومة التي يرأسها الحريري، كما لم يكن بإمكان أي أحد توقّع أن ليلة واحدة من حرق الإطارات وإغلاق الطرق ستؤدي إلى توقف النظام المصرفي، وتعجّل بتدفق كبير للعملات الأجنبية لعدد قليل من اللبنانيين النافذين، الذين رؤوا السفينة تغرق لسنوات، وكانت من إحدى هذه النتائج أن الإنذار النهائي لوزارة المالية لإعادة الهيكلة قد تم سحبه في الوقت الحالي.

بدء عملية “البيع العظيم”

في حين واصل بعض الوزراء في حكومة الحريري المستقيلة، مثل وزير العمل المؤقت كميل أبو سليمان، على سبيل لا الحصر، الدفاع عن عدم دفع سندات اليوروبوند القادمة التي تبلغ قيمتها 1.5 مليار دولار، بالإضافة إلى الفوائد الشهرية على جميع سندات اليوروبوند الأخرى، وبحسب أبو سليمان والعديد من المسؤولين الحكوميين الآخرين، فإن الحريري رفض أن يُنظر إليه على أنه الشخص الذي دفع لبنان إلى التخلف عن السداد لأول مرة، بشكل منظم أم لا. وعلى الرغم من أنه يمكن لحكومته المؤقتة اتخاذ مثل هذا القرار، إلا أن مرافعات الحريري القانونية ذات الأسس الضعيفة بأنه لا يملك السلطة، إلى جانب إصرار سلامة على الاستمرار في الدفع أدت – وقبل أي شيء – إلى تسوية الفائدة الشهرية على جميع التزامات سندات اليوروبوند اللبنانية (632 مليون دولار) في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني).

وتم لاحقاً دفع 1.5 مليار دولار من السندات الأوروبية في 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، مما أدى إلى سحب ما يقدر بنحو 500 مليون دولار من لبنان لحامليها من الجهات الأجنبية، وفي اليوم نفسه أصدرت الحكومة اللبنانية سندات أخرى بقيمة 1.5 مليار دولار اشتراها مصرف لبنان، مما أدى إلى إضعاف احتياطات المصرف المتضائلة أصلاً من الدولار الأميركي من خلال تحويل النقد بشكل عملي إلى الحكومة.

ومثلما كتب بيفاني لاحقاً في تقرير لمعهد هوفر (Hoover Institute)، فإن الدفع الكامل “بالدولار الأميركي النقدي الجديد” لسندات اليوروبوند في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) “غادر البلاد على الفور في غياب ضوابط رأس المال“، مضيفاً بأنه: “من الواضح أن البلاد كانت تنقسم بين أولئك الذين كانوا يمتصون الدولارات إلى أخر قرش وأولئك الذين كانوا يرون مدخراتهم تتلاشى“، وتابع أنه كان الأكثر أهمية للحريري ووزرائه هو “تأمين تدفق الأموال اتجاه النخب رغم الآثار السلبية على السكان“.

لقد كانت إحدى “الآثار السلبية” لمدفوعات نوفمبر (تشرين الأول)، وفقاً للعديد من الشخصيات البارزة في القطاع المصرفي، أن الإدارة العليا للعديد من البنوك اللبنانية اعتقدت أن مخطط بونزي اللبناني على وشك الانهيار بالفعل، وأنه من غير المرجح أن تتمكن الطبقة السياسية من فعل الكثير لتخفيف الصدمة. ثم اتخذوا القرار المشؤوم بتحويل معظم، إن لم يكن كل ممتلكاتهم من سندات اليوروبوند إلى أموال أجنبية، لا سيما إلى ما يسمى بـ”الصناديق الانتهازية“، التي كانت تجوب فنادق بيروت وغرف مجالس الإدارة بحثاً عن صفقات بغض النظر عن التكلفة، التي قد يكون لبنان نفسه هو ثمنها.

ووفقًا لبيانات مصرف لبنان وبنك أميركا، فإن البنوك اللبنانية باعت ما يصل إلى 500 مليون دولار من السندات الأوروبية للجهات الأجنبية بين أكتوبر (تشرين الأول) و31 ديسمبر (كانون الأول) 2019، بينما تم بيع 3 مليارات دولار أخرى في الربع الأول من عام 2020، وبحسب تقرير سري للجنة الرقابة على المصارف تم تقديمه إلى العديد من المسؤولين الحكوميين في ذلك الوقت، فإنه تم بيع 1.7 مليار دولار للجهات الأجنبية بين شهري 1 يناير (كانون الأول) و15 فبراير (شباط) فقط.

لقد قدم هذا التحويل الهائل للديون السيادية المقومة بالدولار الأميركي للجهات الأجنبية، وخاصة “الصناديق الانتهازية“، مثل مجموعة أشمور ومقرها المملكة المتحدة، ضربة مزدوجة لآمال اللبنانيين في إعادة هيكلة منظمة لالتزامات سداد الديون. كما تبيّن من ناحية أخرى أنه يصعب التفاوض على الشروط مع الصناديق الأجنبية، نظراً لعدم وجود ضغوط محلية، خاصة عندما تكتسب “قوة عرقلة” تزيد عن 25% في أي من سلسلة سندات اليوروبوند الواحدة [1]، كما فعلت أشمور وشركة فيديليتي ومقرها الولايات المتحدة في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020.

ولعل الأهم من ذلك من ناحية ثانية، وبالنظر لأزمة العملة التي تفاقمت مع نهاية عام 2019، فإن عمليات البيع تعني أيضاً أنها جزء كبير من مدفوعات الفائدة الشهرية بالدولار الأميركي (ما يقدر بنحو 2.26 مليار دولار في عام 2020)، بالإضافة إلى مدفوعات الدولار الأميركي لسندات اليوروبوند المستحقة في عام 2020 (يبلغ مجموعها 2.7 مليار دولار)، سيكون له دور بتحويل المزيد من “النقد الجديد” إلى خارج لبنان، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض المبلغ المتاح للمودعين والواردات الحيوية.

من المحتمل جداً أن يكون بنك عودة أكبر بائع منفرد بين شهري أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ومارس (آذار) 2020، وعلى عكس معظم البنوك اللبنانية، يجب على بنك عودة تقديم تقارير دورية من أجل تداولها في بورصة بيروت، بينما توقفت معظم البنوك ببساطة عن نشر بيانات واضحة بعد أكتوبر (تشرين الأول) 2019 لتغطية مساراتها، في حين واصل بنك عودة تقديم التقارير.

في جميع الحالات، يمثل بيع بنك عودة ما يقرب من ملياري دولار من السندات الأوروبية في أوائل عام 2020، حتى في حالة عدم احتمال إجراء بعض المبيعات في أواخر يونيو (حزيران)، وهو أكثر من 55% من إجمالي السندات الأوروبية التي تقوم ببيعها جميع البنوك اللبنانية للجهات الأجنبية خلال الأشهر الستة الأولى من 2020.

وفقًا للعديد من المطلعين على القطاع المصرفي اللبناني، فإن عمليات بيع سندات اليوروبوند خلال الأشهر الأولى من الأزمة، منذ ما قبل بيع السندات من قبل بنك عودة والعديد من البنوك الأخرى، كانت مدفوعة على وجه التحديد بالرغبة الضيقة لكبار المديرين وكبار المساهمين والمودعين الأثرياء في كسب “أموال جديدة“، وتحويلها إلى الخارج للهروب من “دوامة الموت” المالية التي توقعوا حدوثها منذ فترة طويلة، كما أشار مصرف لبنان في تقريره السري لشهر فبراير (شباط) 2020، وساعدت الدولارات الإضافية أيضاً المصرفيين الأفراد والمودعين الكبار على حماية سمعتهم الدولية من خلال سداد الالتزامات الفردية والمؤسسية.

وبالطبع فإن كل هذا كان ممكناً لأن الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان رفضا وضع ضوابط رسمية على رأس المال (كما هو الحال حتى لحظة كتابة هذا التقرير)، وجعلوا كل بنك يقرر بنفسه مقدار ما يحوله من احتياطيات الدولار الأميركي الشحيحة. وبالتالي، وفرت عمليات بيع سندات اليوروبوند شريان حياة حيوي للنقد التقديري في لحظة الخطر الأقصى (828 مليون دولار من المبيعات بين شهري 1 يناير [كانون الأول] و15 فبراير [شباط] 2020، وفقًا لمصرف لبنان)، خاصة وأن الطلب على الصناديق الأجنبية ارتفع بشكل كبير، فقد ارتفع سعر السوق للسندات الأوروبية البالغة 1.2 مليار دولار المقرر استحقاقها في مارس (آذار) 2020 من 77 سنتاً على الدولار في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 إلى 87 سنتاً بحلول منتصف يناير (كانون الثاني) 2020.

وعلى الرغم من أن نطاق الحفاظ على الذات المالية لم يكن واضحاً في ذلك الوقت، إلا أن الأدلة على التدفق الهائل للأموال إلى الخارج قبل التخلف عن السداد، والتي استفاد منها حفنة من اللبنانيين، أصبحت الآن مقنعة، ووفقاً لبيانات ميزان المدفوعات الخام لمصرف لبنان، فإنه تدفقت 14.7 مليار دولار إلى خارج لبنان بين أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ومارس (آذار) 2020.

ووفقاً لتقرير إضافي تم تسريبه من مصرف لبنان، فقد تم تحويل 2.3 مليار دولار من الودائع في البنوك اللبنانية إلى سويسرا بين شهري 17 أكتوبر (تشرين الأول) و31 ديسمبر (كانون الأول) 2019، بينما انخفض عدد الحسابات التي تمتلك أكثر من 100 مليون دولار من 36 إلى 23 بين شهري يناير (كانون الأول) 2019 ومارس (آذار) 2020.

وبحسب تقرير استقصائي من إعداد الصحفي ألبين سزاكولا نشر في صحيفة لوريون لوجور فإنه “بين سويسرا ولوكسمبورغ والأقاليم التابعة للتاج البريطاني – في البنوك التي تعمل كبوابات لعالم من الثروة الخارجية بمليارات الدولارات – نمت الودائع الخاصة بالأفراد والشركات الموجودة في لبنان بمقدار 3.5 مليار دولار [بين] صيف 2019″، ويضيف بأنه: “إلى جانب هذه الملاذات الخارجية فقط، ارتفعت الودائع التي يحتفظ بها الأفراد المقيمون في لبنان في البنوك في جميع البلدان الـ31 التي تقدم تقاريرها إلى بنك التسويات الدولية من 7.6 مليار دولار في مارس [آذار] 2019 إلى 12.1 مليار دولار في نهاية سبتمبر [أيلول] 2021، مع حدوث ارتفاع أكبر في نهاية عام 2019″.

وعلى الرغم من أنه من المستحيل معرفة المبلغ الذي يعزى إلى تحويلات المودعين إلى الخارج بدلا من عمليات ميزان المدفوعات الأخرى دون مراجعة جنائية كاملة للنظام المصرفي، إلا أنه بالنسبة لنظام مالي مقيد بشدة بالنسبة لجميع اللبنانيين تقريبا واقتصاد متوقف، فإن الرقم مذهل، لأنه لم يمثل سوى انخفاض قدره 6 مليارات دولار أمريكي في المدفوعات في الخارج مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. 

ووفقا لتقرير آخر مسرب من قبل “بي سي سي“، غادرت 2.3 مليار دولار من الودائع المصارف اللبنانية إلى سويسرا بين 17 أكتوبر/تشرين الأول و31 ديسمبر/كانون الأول 2019، في حين انخفض عدد الحسابات التي تحتفظ بأكثر من 100 مليون دولار من 36 إلى 23 بين يناير/كانون الثاني 2019 ومارس/آذار 2020.  

ولعل الأهم من ذلك، هو أن جميع البنوك اللبنانية لم تقرر إفراغ سندات اليوروبوند الخاصة بها للجهات الأجنبية، وبينما يبرز بنك عودة، فإنه يُعتقد على نطاق واسع أن بنوك بيروت وسوسيتيه جنرال (SGBL) والبحر المتوسط (MED) على الأقل، قد انضموا إلى عمليات البيع منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019 حتى مارس (آذار) 2020، على الرغم من أن البنوك الثلاثة توقفوا ببساطة عن الإبلاغ عن البيانات المالية التفصيلية بعد عام 2019. وفي مقابل ذلك، وبحسب التقارير الخاصة، يبدو أن بنوك لبنان والمهجر (BLOM) وبيبلوس والاعتماد اللبناني، لم يشاركوا في عمليات البيع قبل التخلف عن السداد، واحتفظوا في الغالب بممتلكاتهم الكبيرة من سندات اليوروبوند، على الأقل حتى نهاية عام 2020.

رئيس الوزراء حسان دياب يكافح من أجل فهم الكارثة ويأمل أن يتمكن رياض سلامة من إنقاذ الوضع

بحلول الوقت الذي تمكن فيه حسان دياب أخيراً من تشكيل حكومة وتولي منصب رئيس الوزراء في 21 يناير (كانون الثاني) 2020، كان لبنان قد خسر ثلاثة أشهر ثمينة بسبب الفراغ الوزاري، وكان على بعد ستة أسابيع فقط من الاضطرار إلى دفع 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند المستحقة في مارس (آذار). وكما أدرك العديد من مستشاري دياب، فإن الجهات الأجنبية المختلفة التي اشترت مئات الملايين من الدولارات من سندات اليوروبوند في يناير (كانون الثاني) لم تؤد فقط إلى تآكل الموقف التفاوضي للحكومة الجديدة بشكل كبير، فضلاً عن تعقّد الجهود المبذولة لتحديد من يمتلك على الفور 29 من مختلف سندات اليوروبوند التي تمتد حتى عام 2035، ويتعيّن إعادة هيكلة كل منها بمعدل موافقة قدره 75%، على النحو الذي تقتضيه لغة عقد سندات اليوروبوند غير المؤاتية في لبنان [2].

ومع ذلك كان هناك مشاكل أكثر إلحاحاً، إذ إنه على الرغم من تواجد إجماع سياسي بحلول أواخر يناير (كانون الثاني) على ضرورة وجود نوع من التخلف عن السداد، إلا أن دياب كان لديه فهم محدود فيما يخص المسائل المالية، مما أدى إلى مزيد من التأخير في مواجهة العاصفة المتجمعة، وذلك وفقاً لاثنين من مستشاريه الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، صُدم دياب عندما علم أن الأمر لا يتعلق فقط بدفع سندات اليوروبوند المستحقة، كما كان يتعين تسديد مدفوعات الفائدة التي يبلغ مجموعها أحياناً مئات الملايين من الدولارات الأميركية كل شهر، ولإرباكه لا علاقة لسندات اليوروبوند بعملة اليورو.

ولعل الأكثر إشكالية من ذلك، أن دياب خسر أسابيع ثمينة في الاستماع إلى مرافعات سلامة المضللة بشكل متزايد بأنه لا يزال هناك الكثير من الأموال للوفاء بالتزامات ديون لبنان، وأن أي مدفوعات بالدولار الأميركي سيتم الاحتفاظ بها في الغالب داخل لبنان، ووفقاً لمستشاريه، كان متردداً أيضاً في إصدار تفويض تاريخي يتخلف بموجبه لبنان عن سداد ديونه، وذلك على أمل أن تنجح تحذيراته للبنوك المحلية المتعلقة بإعادة شراء سندات اليوروبوند التي باعتها سابقاً.

فقد كان دياب يدرك بالتأكيد أن سلامة حاول دون جدوى تقديم مقايضات في آجال استحقاق أطول لبعض حاملي سندات اليوروبوند المحليين في نهاية 2019 وأوائل 2020 لتجنّب التخلف عن السداد في مارس (آذار)، وقد فشلت هذه المناشدات، حيث رفضته البنوك مفضلة جني أموال جديدة من خلال تفريغ مليارات السندات الأوروبية بأسعار أكثر فائدة (وإن كانت منكمشة) للشركات الأجنبية التي بدت واثقة من أن لبنان سيفي بالتزاماته.

وبحسب ما ذكر بنك جي بي مورغان في 15 يناير (كانون الثاني) 2020 فإنه: “من بين الأسباب التي قد تجعل البنوك غير منضمة إلى مجلس الإدارة هو أن الأوراق النقدية التي تستحق التداول في مارس [آذار] عند 87 سنتاً، هو أعلى بكثير من سعر ديون لبنان طويلة الأجل، والتي يتم تداول معظمها بأقل من 50 سنتاً“.

إذ إنه لم تردع إخفاقات سلامة السابقة مع البنوك المحلية في ظروف ملاءمة أكثر، وذلك على الرغم من توفر البيانات في فبراير (شباط) والتي تظهر “تسرّب” النقود المتزايد للجهات الأجنبية، كما أن دياب لم يتخذ الخطوات الحاسمة الأولى نحو التخلف عن السداد حتى نهاية الشهر، وكان هذا أيضاً عندما أدرك أن سلامة خدعه، وأن أعضاء حكومته قد لا يكونوا موثوقين أيضاً.

ووفقًا لوزيرة العدل آنذاك ماري كلود نجم ودياب نفسه، فإنه في صباح يوم 26 فبراير (شباط) أرجأ مجلس الوزراء دفع الفائدة الشهرية على سندات اليوروبوند اللبنانية (71 مليون دولار) حتى تم اتخاذ قرار نهائي بشأن سندات اليوروبوند المستحقة بقيمة 1.2 مليار دولار بعد ذلك بأسبوع ونصف. ومع ذلك، بينما كانت الحكومة تعد بياناً صحفياً بهذا المعنى، فوجئ العديد من الوزراء والمستشارين الحكوميين بمعرفة أن مصرف لبنان قد دفع بالفعل تحويل سويفت (SWIFT) لدفع الفائدة، لتعزيز تأكيداته المتكررة بالدفع، خاصة للصناديق الأجنبية مثل أشمور، كما ألغى سلامة بالفعل قراراً حكومياً من خلال التحرك بسرعة وممارسة السلطة والعلاقات السياسية التي أقامها كأطول فترة خدمة لحاكم مركزي في العالم.

وبحسب ما أوضح وزير سابق طلب عدم الكشف عن هويته فإن “وزير المالية [غازي] وزني [هو الذي] وقع على [تحويل] سويفت“، مشيرًا إلى أن الزعيم السياسي لوزني (رئيس مجلس النواب نبيه بري) كان في المرحلة النهائية من الموافقة على عملية السداد، وهو ما أوضحه بقوله: “على الرغم من إننا اتفقنا على عدم القيام بذلك، إلا أنه فعل ذلك على أي حال مع سلامة!”، ولم يرد وزني على طلباتنا للتعليق، بينما أصر متحدث باسم مصرف لبنان على أن وزير المالية هو فقط الذي يمكنه الموافقة على تحويلات سويفت للأموال من حساب الوزارة في مصرف لبنان.

سلامة مكشوف والتخلف غير المنضبط أمر لا مفر منه

التقى دياب وسلامة وأكثر من 20 مسؤولاً حكومياً وممثلي البنوك والمستشارين الوزاريين في السراي لاتخاذ القرار أخيراً في 2 مارس (آذار)، وذلك قبل سبعة أيام فقط من موعد استحقاق السندات الأوروبية الثلاثة، وقدم سلمان ومستشارون حكوميون آخرون البيانات التي تم تداول معظمها لأسابيع، والتي أثبتت أن سلامة كان باستمرار يقلل من شأن تسرب الدولار الأميركي إلى الخارج من خلال فوائد السندات الأوروبية والمدفوعات الأصلية، وكذلك يقلل من تمثيله.

واستشهد المجتمعون بتقرير مصرف لبنان الذي تم توفيره لبعض المسؤولين، حيث كشف المسؤولون أنه من بين 2.5 مليار دولار من السندات المستحقة في الأشهر القليلة المقبلة، كان هناك 477 مليون دولار فقط مملوكة للمصارف اللبنانية، وأنه تم الاحتفاظ بأقل من 239 مليون دولار من هذا المبلغ في إطار نظام المقاصة في لبنان، وفيما احتفظت المصارف اللبنانية بالباقي في “فروع أجنبية ستتلقى مدفوعات من دولارات الولايات المتحدة في الخارج، فإن مصرف لبنان قدّر أن أكثر من 90% من مدفوعات سندات اليورو الثلاثة القادمة لعام 2020 ستحول الأموال إلى الخارج، وأن 6 مليارات دولار على الأقل من حيث المبدأ ومدفوعات الفائدة ستذهب إلى الحسابات الأجنبية على مدار الـ21 شهراً القادمة“. [3]

لقد حاصرت شركتي أشمور وفيديليتي، على وجه الخصوص، السوق فعلياً من أجل “إطلاق” سندات اليوروبوند لعام 2020، حيث اكتسبت أشمور وحدها أكثر من 25% من حصص الحظر في سندات اليورو الثلاثة، بينما تآمر مزيج معروف ولكنه خطر من المصرفيين اللبنانيين المهتمين بأنفسهم، والقادة اللبنانيين غير المستعدين والجادين والجهات الأجنبية والمربحين على دفع البلاد نحو أسوأ الخيارات: التخلف عن السداد بشكل غير منظم.

أعلنت حكومة دياب في 7 مارس (آذار) 2020 أنها لا تستطيع دفع 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند المستحقة في الأيام المقبلة، مما أدى إلى تخلف عن سداد جميع السندات السيادية اللبنانية البالغة 31.3 مليار دولار. وفيما لن تكون أخر خطوة حاقدة له، أرسل سلامة في 9 مارس (آذار) إلى مكتب دياب موجزاً ببيانات مصرف لبنان التي طلبتها الحكومة لأسابيع، ومن بين الإفصاحات الأخرى، اعترف سلامة بأنه لم يتبق لديه سوى 22.8 مليار دولار من الاحتياطيات الأميركية، مما يدل على أنه كان يخفي فعلياً خسائر كبيرة في مصرف لبنان لسنوات – ربما أكثر من 60 مليار دولار – مع مجموعة من من حيل المحاسبة والتشويش.

الفجوة تكبر مع بيع المزيد من سندات اليوروبوند

استمرت البنوك اللبنانية في عملية بيع المزيد من سندات اليوروبوند بعد مارس (آذار) 2020، وذلك على الرغم من الضرر الناجم عن بيع تلك السندات للجهات الأجنبية قبل التخلف عن السداد، فقد تم بيع ما يقرب من 1.4 مليار دولار من السندات الأوروبية منذ أبريل (نيسان) 2020 حتى نهاية العام ذاته، وفقًا لمصرف لبنان، ونتيجة لذلك، نعلم الآن أن البنوك اللبنانية باعت أكثر من 6.1 مليار دولار من السندات الأوروبية للأجانب من 1 يناير (كانون الثاني) 2019 حتى اليوم، وهو ما يمثل قرابة 40% من المبلغ المملوك لهذه البنوك ليلة رأس السنة لعام 2018.

ولعل أكثر ما يضعف لبنان هو أنه تم بيع ما يصل إلى 4.9 مليار دولار من قبل البنوك اللبنانية للجهات الأجنبية خلال العامين ونصف العام الماضيين منذ بداية الأزمة اللبنانية، وهو ما يمثل 31% من جميع سندات اليوروبوند المملوكة للبنوك المحلية في الفترة التي سبقت ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، والنتيجة المدمرة لهذا الانتقال الضخم إلى الخارج قد تتجاوز بكثير استحواذ أشمور وفيديليتي على سندات اليورو الثلاثة “المثيرة” في عام 2020.

ولعل أكثر ما يضعف لبنان هو أنه تم بيع ما يصل إلى 4.9 مليار دولار من قبل البنوك اللبنانية للجهات الأجنبية خلال العامين ونصف العام الماضيين منذ بداية الأزمة اللبنانية، وهو ما يمثل 31% من جميع سندات اليوروبوند المملوكة للبنوك المحلية في الفترة التي سبقت ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، والنتيجة المدمرة لهذا الانتقال الضخم إلى الخارج قد تتجاوز بكثير استحواذ أشمور وفيديليتي على سندات اليورو الثلاثة “المثيرة” في عام 2020.

من المحتمل أن سلامة حصل على ملايين الدولارات من خلال توجيه مصرف لبنان لبيع ما يقدر بنحو 700 مليون دولار من ممتلكاته من سندات اليوروبوند، ووفقًا لإحصاءات بنك أميركا، فإنه منذ أن قدمت شركة شقيقة سلامة (رجاء سلامة) فوري أسوشيتس (Forry Associates) عمولة على بيع كل سندات اليوروبوند الخاصة بمصرف لبنان، كما ورد على نطاق واسع منذ تسريب عقد فوري أسوشيتس في عام 2021، قد مكّن الشقيقان سلامة من الحصول على مئات الملايين من الدولارات عن طريق العمولات خلال الـ20 سنة الأخيرة.

كما حدث على مدار السنوات السابقة، فإن فشل لبنان في التعامل مع مشاكله بشكل عقلاني وسريع لا يؤدي إلا بدفعه إلى المزيد من التخبط، والواقع أن لبنان أصبح الآن أقل قدرة بكثير للدفاع عن موجوداته المتبقية من الدائنين بسبب الطريقة التي تصرف بها مصرف لبنان خلال الأزمة الطويلة، ومثلما حذر العديد من المحللين الماليين اللبنانيين علناً، فإنه يمكن لحاملي سندات اليوروبوند أن يجادلوا بأن بعض العمليات التي انخرط فيها مصرف لبنان منذ مارس (آذار) 2020، وخاصة دعمه لبعض الشركات التجارية، علماً أنها ليست من الأدوات التقليدية لمصرف لبنان.

إذا نجحت هذه الحجج في محاكم نيويورك حيث يجب رفع مثل هذه الدعاوى، فإن أموال وممتلكات مصرف لبنان، بما في ذلك الذهب اللبناني (الذي تقدر قيمته بأكثر من 17 مليار دولار)، ستُجرد من الحماية السيادية وستصبح عرضة للمصادرة، علاوة على ذلك، فإن نجاح أي صفقة لصندوق النقد الدولي عرضة للخطر الآن بسبب شبح المفاوضات مع حاملي السندات من الجهات الأجنبية، بالنظر إلى أن حجر الزاوية في أي برنامج لصندوق النقد الدولي هو القدرة على تحمل الديون.

إن التخلف عن سداد سندات اليوروبوند ليس سوى حلقة واحدة في ملحمة طويلة الأمد من المأساة المالية في لبنان، حيث تم بيع المستقبل المالي للبنان إلى أولئك الأقل استفادة من عملية تعافي القطاع المالي، وبينما لا يمكن عكس تلك اللحظة، إلا أنها تمثل تحذيراً صارخاً من أن المصرفيين اللبنانيين وعناصر تمكينهم لا يزالون بحاجة إلى المحاسبة على ما قد يكون أحلك ساعة مالية في البلاد.

 نيكولاس نو: هو المؤسس المشارك لموقع Mideastwire الذي يتخذ من بيروت مقراً له، يمكن متابعة نيكولاس على تويتر عبر الحساب NoeNicholas@.

[1] Additionally, because Lebanon’s Eurobond contracts are “cross-triggering,” defaulting on one Eurobond puts all of the country’s US$31.3 billion in Eurobonds in arrears. By holding majorities in just the first three maturing Eurobonds in 2020 – i.e. March (US$1.2 billion), April (US$0.7 billion), and May (US$0.8 billion) – Ashmore and Fidelity therefore exercised even greater leverage in negotiations than their actual stakes. 

[2] Lebanon’s Eurobond contracts don’t provide for a “collective action clause” (CAC) that would allow the state to negotiate the terms of debt restructuring all at once but instead require an issue-by-issue vote of these terms with 75% consent. According to Abousleiman and supported by Salman, as early as December 2015, Abousleiman and Finance Ministry staff had strongly recommended that Lebanon adopt the CAC, “but the Minister of Finance at the time did not forward this proposal to the Council of Ministers.” As a result, the CAC was never added to Lebanon’s Eurobonds, greatly impeding its position later on ahead of the default. 

[3] The government was supposed to pay US$2.72 billion and US$2.26 billion in 2020 – almost US$5 billion total – as principal and interest on Eurobonds respectively at exactly the moment when the country’s economy, financial and governance systems were all experiencing multiple, sustained shocks rarely seen in modern history.

مواضيع ذات صلة